أبرمت بعض الشركات الأوروبية في الآونة الأخيرة عددًا من الصفقات الاستثمارية الكبرى بالسوق الإيرانية، في إشارة هامة حول بوادر حصول إيران على بعض مكاسب الاتفاق النووي الذي توصلت إليه مع مجموعة "5+1"، وهو ما يتزامن مع فوز الرئيس حسن روحاني بفترة رئاسية ثانية عقب الانتخابات التي أجريت في 19 مايو 2017.
وتطرح الصفقات الكثيرة التي عقدتها إيران مع الدول الغربية خلال الفترة الماضية دلالات رئيسية أربع: تتمثل الأولى، في التزام القوى الدولية بتطبيق بنود الاتفاق النووي، لا سيما فيما يتعلق برفع القيود السابقة على ممارسة الأعمال بإيران. فيما تنصرف الثانية، إلى حرص بعض الشركات الغربية على اقتناص العوائد الاستثمارية الكامنة في السوق الإيرانية رغم بعض المخاطر القائمة.
وتتصل الثالثة، باستمرار دعم الدول الأوروبية لتيار المعتدلين داخل إيران، والذي تعول عليه ليس فقط لتجنب انتهاك بنود الاتفاق النووي، وإنما أيضًا لإجراء الإصلاحات الاقتصادية اللازمة لتشجيع الاستثمار الأجنبي بالبلاد. بينما تتعلق الرابعة، بتزايد الصعوبات التي قد تواجه أى تحرك من جانب الولايات المتحدة الأمريكية للتأثير على التزامات تلك الشركات تجاه إيران، لا سيما بعد إبرام عدد من الصفقات الكبيرة عبر شراكات استثمارية ثنائية بين القوى الدولية.
لكن رغم ذلك، فإن اتجاه واشنطن مؤخرًا نحو فرض عقوبات جديدة على كيانات وشركات محلية ودولية دعمت إيران في تطوير برنامجها للصواريخ الباليستية أو تعزيز قدراتها العسكرية بشكل عام، قد يوجه رسائل معاكسة بأن مناخ الأعمال بإيران لن يكون يسيرًا بالشكل المتوقع من قبل الشركات العالمية، وهو ما قد يكبح وتيرة إبرام الصفقات الاستثمارية بالسوق الإيرانية في الفترة المقبلة، في وقت لا زال يواجه مناخ الاستثمار تحديات عديدة مثل سوء البيئة التنظيمية والتدخل الواسع للحرس الثوري في مختلف الأنشطة الاقتصادية.
دلالات عديدة:
يبدو أن السوق الإيرانية على عتبة مرحلة جديدة من الانتعاش بعدما أبرمت بعض الشركات الأوروبية صفقات استثمارية كبرى مع الحكومة الإيرانية، بشكل يطرح دلالات عديدة خاصة بآفاق الاستثمار بالسوق الإيرانية، يتمثل أبرزها في:
1- قيود متراجعة: أعطت موافقة وزارة الخزانة الأمريكية، في يوليو 2016، على صفقة بيع شركة "بوينج" الأمريكية لنحو 80 طائرة مدنية للخطوط الجوية الإيرانية والبالغ قيمتها 16.6 مليار دولار، إشارة واضحة بأن مخاطر ممارسة الأعمال بالسوق الإيرانية لم تعد قائمة كما كان عليه الوضع سابقًا، وليكون بإمكان كثير من الشركات الغربية الفرصة لاقتناص عدد من المشاريع الاستثمارية في مختلف القطاعات الاقتصادية، وذلك في الوقت الذي تبدو فيه إيران بحاجة ماسة للاستثمارات الأجنبية للتغلب على التحديات الاقتصادية.
ورغم تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في أكثر من مناسبة، بإعادة التفاوض حول بنود الاتفاق النووي، إلا أن الولايات المتحدة لم تتخذ خطوات إجرائية لتنفيذ ذلك بالفعل، وهو الأمر الذي انعكس على إبرام صفقات استثمارية كبرى بين الشركات الغربية والحكومة الإيرانية في الشهور الماضية وعلى رأسها صفقات تمت مع شركات مثل "إيرباص" و"توتال" الفرنسيتين، إلى جانب شركة "بوينج" الأمريكية.
2- انتهاز الفرص: سعت الشركات الغربية، في مرحلة ما بعد الوصول للاتفاق النووي، إلى الاستفادة من إزالة قيود ممارسة الأعمال بإيران، حيث تتيح السوق الإيرانية العديد من الفرص الاستثمارية في مختلف القطاعات الاقتصادية، ولا سيما النفط والغاز الطبيعي، ذات العوائد الاستثمارية العالية.
وقد أكد الرئيس الإيراني حسن روحاني، في 18 يناير 2016، على أن البلاد بحاجة لاستثمارات أجنبية سنوية قد تصل إلى 50 مليار دولار للتغلب على التحديات الاقتصادية، فيما أشار وزير النفط بيجن زنغنه، في 9 فبراير من العام ذاته، إلى أن صناعة النفط وحدها تحتاج إلى نحو 200 مليار دولار من الاستثمارات على مدى السنوات الخمس المقبلة لرفع القدرات الإنتاجية والصادرات.
أبرز الصفقات الاستثمارية بين إيران والشركات الغربية في عامى 2016 و2017
المصدر: وكالات أنباء صحفية مختلفة
وبالنسبة لشركة "توتال" الفرنسية، على سبيل المثال، فإن اتفاق تطوير حقل بارس الجنوبي للغاز بقيمة 5 مليار دولار يستحق المخاطرة، حيث أنه من المتوقع أن يوفر عوائد مستقبلية قد تقدر بـ84 مليار دولار على مدى الأعوام العشرين المقبلة، هى مدة الاتفاق المبرم بين "توتال" ووزارة النفط الإيرانية. وبالمثل أيضًا، فإن الشركات الغربية العاملة في القطاعات الأخرى مثل النقل أو السيارات تنتظر الحصول على عوائد استثمارية وتجارية كبيرة من الدخول في السوق الإيرانية.
3- التزام أوروبي: بدت الشركات الأوروبية أكثر قدرة من نظيرتها الأمريكية على الوصول للسوق الإيرانية، حيث أن الثانية لا تزال تواجه قيودًا في التعامل مع السوق الإيرانية بموجب استمرار قائمة أخرى من العقوبات الأمريكية. وفي ظل هذا التباين، انتهزت الشركات الأوروبية الفرصة لدخول السوق الإيرانية دون عناء. ولكن في الوقت نفسه، وجه إقبال الشركات الأوروبية على ضخ رؤوس أموال بإيران إشارة بأن أوروبا جادة وملتزمة بتطبيق الاتفاق النووي دون النظر لموقف الولايات المتحدة منه.
وبالطبع، فإن إبرام بعض هذه الصفقات الاستثمارية، على غرار صفقة تطوير المرحلة 11 من حقل بارس الجنوبي، من خلال شراكة بين شركات فرنسية وصينية وإيرانية، يعني أن الولايات المتحدة لن يكون بمقدورها إقناع أو إجبار كل الحلفاء على التخلي عن مكاسب هذه الصفقات. فيما يبدو أن رفض البنوك الدولية تمويل الصفقات بالسوق الإيرانية غير مجدٍ، حيث يمكنها مواصلة العمل من خلال الاعتماد على المؤسسات المالية الأخرى مثل المؤسسات الصينية.
4- دعم المعتدلين: يبدو أن إبرام الشركاء الأوروبيين بعض الصفقات الاستثمارية مع إيران جاء انعكاسًا لبعض التطورات الإيجابية في الداخل الإيراني، وفقًا لرؤيتهم، حيث فاز حسن روحاني، الذي ينتمي لتيار المعتدلين، بفترة رئاسية ثانية في الانتخابات التي أجريت في 19 مايو الماضي، بشكل جعل هذه الصفقات تبدو وكأنها حافزًا لهذا التيار لمواصلة الالتزام ببنود الاتفاق النووي مع القوى الدولية.
كما أن هذه الصفقات تمثل أيضًا دعمًا من جانب أوروبا للجهود التي يبذلها الرئيس حسن روحاني من أجل إجراء عمليات إصلاح داخل المنظومة الاقتصادية وتشجيع الاستثمار الأجنبي في مواجهة تدخلات الحرس الثوري في الأنشطة الاقتصادية.
كبح الصفقات:
لم يمنع الاتفاق النووي الولايات المتحدة من فرض عقوبات جديدة على بعض الكيانات الدولية والمحلية الداعمة لإيران في تطوير برنامجها للصواريخ الباليستية. وفي هذا الصدد، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية، في 24 مارس 2017، عقوبات على 11 شركة وشخصًا بتهمة نقل تكنولوجيا تعزز هذا البرنامج. وفرضت الوزارة نفسها، في 18 يوليو الجاري، عقوبات أخرى على 18 كيانًا وشخصًا بتهمة دعم الحرس الثوري من خلال تطوير طائرات بدون طيار ومعدات عسكرية وإنتاج وصيانة زوارق وسرقة برمجيات أمريكية وغربية بيعت للحكومة الإيرانية.
ومن الواضح أن قائمة العقوبات السابقة محدودة النطاق، حيث تستهدف كيانات بعينها بالأساس، ولا تركز مثلا على إعادة حظر وصول صادرات النفط الإيرانية للسوق الدولية أو حظر عمل الشركات الغربية داخل السوق الإيرانية، بما يعني أنها لا تمثل، في واقع الأمر، تهديدًا واسعًا للاقتصاد الإيراني، وأن تأثيرها محدود عليه.
وفي مقابل هذه التكلفة المنخفضة، فإن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد تتجه لتقويم السلوك الإيراني عبر تشديد العقوبات المفروضة على إيران لتشمل على الأرجح عقوبات مؤثرة على حيوية الاقتصاد الإيراني، وهو الأمر الذي يزيد من التخوفات الراهنة لدى بعض الشركات الغربية الراغبة في ضخ استثمارات جديدة بالسوق الإيرانية.
ومن دون شك، فإن حرص إدارة ترامب على رفع مستوى العقوبات المفروضة على إيران خلال الفترة المقبلة سيوجه رسائل عكسية بأن مناخ الأعمال بإيران لن يكون يسيرًا كما كان متوقعًا من قبل الشركات الدولية، وهو ما قد يضطر الأخيرة لأن تكون أكثر حذرًا في ضخ مزيد من رؤوس الأموال في السوق الإيرانية، وذلك في وقت تواجه بيئة الاستثمار في إيران تحديات متعددة بسبب سوء البيئة التنظيمية والتدخل الواسع من قبل الحرس الثوري في الأنشطة الاقتصادية.
وختامًا، يمكن القول إن الاتفاق النووي أسس لمرحلة جديدة من الشراكة الاستثمارية بين الدول الأوروبية وإيران، إلا أن احتمال رفع مستوى العقوبات الأمريكية في الفترة المقبلة ربما يدفع الشركات الأوروبية إلى تبني سياسة حذرة فيما يتعلق بضخ استثمارات داخل إيران، وهو ما قد يكبح من تسارع وتيرة الصفقات الاستثمارية بالسوق الإيرانية خلال الفترة المقبلة.