تنطوي الاتفاقيات التي أُبرِمت بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، خلال زيارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، الرياض يومي 20 و21 مايو الجاري، على العديد من الدلالات، سواء تعلق الأمر بالاقتصاد السعودي أو نظيره الأمريكي. إذ تتجاوز قيمة هذه الصفقات 400 مليار دولار، بما يساوي 56% من حجم الاقتصاد السعودي، و2.1% من الاقتصاد الأمريكي.
وما يزيد من أهمية هذه الاتفاقيات أنها تأتي ضمن "الرؤية الاستراتيجية المشتركة" بين الرياض وواشنطن، ولذا يُتوقع أن تساهم في نقل العلاقات بين الدولتين إلى مرحلة جديدة، أكثر عمقًا وزخمًا، اعتمادًا على الجانب الاقتصادي.
اهتمام بالطاقة
تضمنت الاتفاقيات التي تم إبرامها بين الجانبين السعودي والأمريكي، خلال زيارة ترامب الأخيرة، 16 اتفاقية في قطاع الطاقة، وقَّعتها شركة "أرامكو" من الجانب السعودي، و11 شركة أخرى من الجانب الأمريكي. وبلغت قيمة الاستثمارات التي ستتم بمقتضاها حوالي 50 مليار دولار، وهي تهدف إلى دعم فرص النمو والقيمة المضافة في الاستثمارات المشتركة في قطاع الطاقة.
فقد وقَّعت "أرامكو" مذكرة تفاهم مع شركة "جنرال إلكتريك"، تقضي بقيام الشركة الأمريكية بإجراء تَحوُّل رقمي لعمليات "أرامكو"، بهدف توفير 4 مليارات دولار أمريكي في الإنتاجية سنويًّا، في أحد أهم أوجه التطوير الذي تقوم به شركة "أرامكو" في عملياتها.
كما تم توقيع مذكرة تفاهم مع شركة "روان" لإنشاء شركة حفر بحري في السعودية، ومذكرة تفاهم مع شركة "نابورس" لبحث آفاق تطوير وتحسين أعمال الحفر البري، واتفاق مع شركة "داو كيميكال" لبناء منشأة تصنيع لإنتاج البوليمرات للطلاء ومعالجة المياه في السعودية، والاتفاق على إقامة مشروع مشترك مع شركة "ناشيونال أويل ويل فاركو" لتوفير منصات الحفر ذات المواصفات العالية ومعدات الحفر المتقدمة. وكل ذلك يعد إضافة قوية إلى قطاع النفط والطاقة السعودي.
ويُمكن القول إن الاتفاقيات التي تم توقيعها بين الطرفين في قطاع الطاقة، تضع القطاع السعودي على عتبة إحدى أهم مراحل التطوير في تاريخه، وهو أمر على قدر كبير من الأهمية، لا سيما فيما يتعلق بالتوقيت الذي أُبرِمت فيه. فهذه الاتفاقيات تأتي في مرحلة يُعدُّ فيها قطاع الطاقة العالمي، بما فيه السعودي، في أمسِّ الحاجة إلى ضخ المزيد من الاستثمارات، وخاصة بعد تراجع الاستثمارات النفطية العالمية على مدى السنوات الأخيرة، بسبب انخفاض أسعار النفط، الأمر الذي يُنذر بتراجع الطاقات الإنتاجية للقطاع خلال السنوات المقبلة. وبالتالي فإن الاستثمارات الضخمة التي يتم ضخها في القطاع السعودي، بمقتضى الاتفاقيات المُبرمة، من شأنها أن تجنبه هذه المخاطر.
اقتصاديات الدفاع
كانت صفقة مبيعات الأسلحة الدفاعية الأمريكية للسعودية التي تُقدر بقيمة 110 مليارات دولار، من أهم الاتفاقيات التي أُبرمت بين الدولتين في زيارة ترامب، وانطوت، نظرًا لطبيعتها العسكرية، على العديد من الجوانب ذات الصلة بتعزيز أمن الحدود والسواحل، ومكافحة الإرهاب، وتحديث القوات الجوية، والدفاع الجوي والصاروخي، وتطوير الأمن السيبراني وأمن الاتصالات.
كما تضمنت هذه الصفقة العسكرية جوانب أخرى ذات أهمية اقتصادية وتنموية، تساعد في توطين بعض الصناعات العسكرية في المملكة؛ بما يصب في اتجاه تحقيق هدف توطين 50% من الإنفاق الحكومي العسكري في السعودية ضمن "رؤية المملكة 2030". فقد تم الاتفاق مع شركة "لوكهيد مارتن" على قيامها بدعم برنامج تجميع 150 طائرة هليكوبتر من طراز "Black Hawk S-70" في السعودية، والاتفاق مع شركة "جنرال دايناميكس" لتوطين مجالات تصميم وهندسة وتصنيع ودعم المركبات القتالية المدرعة في المملكة، وكذلك الاتفاق مع شركة "رايثيون" لتنفيذ برامج تهدف إلى خلق قدرات محلية سعودية في الدفاع وصناعة الطيران والأمن.
مُحفزات نجاح الاتفاقيات
ثمة عدد من العوامل التي تؤشر إلى نجاح الاتفاقيات ومذكرات التفاهم المُبرمة بين الجانبين السعودي والأمريكي خلال زيارة ترامب إلى المملكة، ومنها ما يلي:
1- وجود علاقات اقتصادية ثنائية قوية: تُعتبر قوة العلاقات الاقتصادية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة حاليًّا بمنزلة الأرضية الصلبة التي تساعد في نجاح الاتفاقيات التي أُبرِمت بينهما مؤخرًا. وتتحدد ملامح قوة هذه العلاقات في تبادل تجاري بلغت قيمته نحو 38 مليار دولار في عام 2016، وكذلك احتلال الولايات المتحدة المرتبة الأولى بين أكبر الدول المُصدِّرة للسعودية، والمرتبة الثانية بين أكبر الدول المستوردة منها.
كما تُعدُّ السعودية من أهم الدول المُصدِّرة للنفط ومشتقاته إلى الولايات المتحدة، بنحو 1.2 مليون برميل يوميًّا، وبنسبة 13% من الاحتياجات اليومية للأخيرة. والأمر اللافت للانتباه أيضًا أن الصادرات النفطية من المملكة إلى واشنطن شهدت زيادة مستمرة على مدى السنوات الثلاث الماضية.
علاوةً على ذلك، تمتلك السعودية ما قيمته 116 مليار دولار من سندات الخزانة الأمريكية، لتصبح أكبر الدائنين للولايات المتحدة في المنطقة العربية، والأولى أيضًا بين دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي تمتلك مجتمعة ما قيمته 231 مليار دولار من هذه السندات.
وتبلغ قيمة الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة حوالي 750 مليار دولار. وفي المقابل، يتراوح حجم الاستثمارات الأمريكية في المملكة بين 100 و380 مليار دولار، وفقًا لبعض التقديرات.
وبالتالي، تُعد هذه العلاقات الاقتصادية آليات قوية وفعَّالة من شأنها أن تساعد في تنفيذ الاتفاقيات والصفقات التي وُقِّعَتْ بين واشنطن والرياض خلال زيارة ترامب، لا سيما أنها تعني أن كلا الجانبين لديه معرفة بالوضع الراهن لاقتصاد الآخر، والآفاق المستقبلية له، وكذلك الفرص الاستثمارية الواعدة به، فضلا عن المعرفة والخبرة العملية لدى كلٍّ منهما بالأسواق المحلية للآخر، بما يعنيه ذلك من إلمام بالإجراءات المتعلقة بتأسيس الشركات وتشغليها وتسويق المنتجات، وأذواق المستهلكين أيضًا.
2- توجُّهات "ترامب" الاقتصادية: تتزايد فرص نجاح الاتفاقيات المبرمة بين السعودية والولايات المتحدة في ظل توافقها مع التوجهات والسياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي ترامب، والتي ترمي إلى تحقيق نمو اقتصادي أمريكي بين 3.5% و4%، مقارنة بنسبة 1.8% في عام 2016، وضخ مليارات الدولارات كاستثمارات في قطاع البنية التحتية الأمريكي، وتشجيع الشركات على ضخ المزيد من الاستثمارات، عبر تخفيض الضرائب المفروضة عليها.
وقد نصَّ عددٌ من الاتفاقيات المبرمة بين الجانبين على ضخ استثمارات ضخمة في الاقتصاد الأمريكي، ومنها الاتفاق بين شركة "بلاكستون" للاستثمار المباشر وصندوق الاستثمارات العامة السعودي، لاستثمار 40 مليار دولار في البنية التحتية الأمريكية، بمساهمة أولية من قِبل الصندوق بقيمة 20 مليار دولار. ويُتوقع أن يساعد هذا التمويل في اجتذاب استثمارات تزيد عن 100 مليار دولار لقطاع البنية التحتية الأمريكي في الأجل الطويل.
وثمة اتفاق آخر مع شركة "موتيفا إنتربرايز" التي تملكها "أرامكو"، لاستثمار 12 مليار دولار في الولايات المتحدة، مع إمكانية زيادة هذا الاستثمار إلى 18 مليار دولار بحلول عام 2030، بهدف تعزيز أعمال مصفاة "بورت آرثر" النفطية في ولاية تكساس الأمريكية.
وبجانب ذلك، تم توقيع مذكرة تفاهم بين شركة "إكسون موبيل" والشركة السعودية للصناعات الأساسية "سابك"، لإجراء دراسة مفصلة لمشروع مصنع للبتروكيماويات في ولاية تكساس، وإقامة وحدة لإنتاج "الإيثيلين" بطاقة إنتاجية سنوية تبلغ 1.8 مليون طن.
وعلاوة على ما سيحققه الاقتصاد الأمريكي من زيادة في معدلات نموه الاقتصادي إلى المستوى المنشود عبر هذه الاتفاقيات، فإنها ستساعده -أيضًا- في توليد نحو مليون فرصة عمل مباشرة، بخلاف فرص العمل غير المباشرة، وهو أمر ذو أهمية خاصة بالنسبة لخطط ترامب في هذا الشأن، الهادفة إلى منع تصدير الوظائف إلى الخارج.
3- اقتصاد سعودي متماسك: ما زالت السعودية من الدول التي تحتفظ بقدرات مالية كبيرة تشجعها على الاستثمار في الخارج. فعلى بالرغم من الظروف غير المواتية التي مر بها الاقتصاد العالمي على مدار السنوات الماضية، وبالرغم من انخفاض أسعار النفط العالمية؛ فالمملكة لديها احتياطيات نقدية تزيد عن 576 مليار دولار، فضلا عن صندوق استثمارات عامة يمتلك أصولا تُقدر قيمتها بنحو 183 مليار دولار. وتُمثل هذه الأصول المالية حائط صد يحمي الاقتصاد السعودي من أي اضطرابات مالية حالية أو مستقبلية. كما يُعد الفائض في الميزان التجاري السعودي رافدًا مهمًّا للنقد الأجنبي، والقيمة المُضافة للاقتصاد السعودي أيضًا.
وبشكل عام، لم يتعرض الاقتصاد السعودي لحالات انكماش خلال السنوات الماضية على الرغم من تباطؤ معدلات نموه، وليس متوقعًا أن يشهد انكماشًا في السنوات الخمس المقبلة، وفق صندوق النقد الدولي. ومع الأخذ في الاعتبار "رؤية المملكة 2030" التي تهدف إلى خصخصة العديد من الأصول المملوكة للدولة، والتي لم تكن متاحة للاستثمارات الخاصة، فإن هذه الخطوة سوف تساعد في ضخ كميات كبيرة من السيولة في الاقتصاد السعودي. فعلى سبيل المثال، تُقدر قيمة الـ 5% من أصول شركة "أرامكو" المقرر طرحها للاكتتاب العام، ضمن رؤية المملكة، بنحو 62 مليار دولار، وهي سيولة كبيرة سيكون لها تأثير تحفيزي على النمو الاقتصادي في الدولة ككل، وليس فقط بالنسبة لقطاع النفط أو شركة أرامكو وحدها.
ويُضاف إلى ذلك، الفرص الاستثمارية الكبيرة في القطاعات الأخرى التي تتضمنها "رؤية المملكة 2030"، مثل: البنية التحتية، والتجارة، والخدمات اللوجستية، والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، والتعليم، والصحة، والسياحة، والثقافة، والترفيه، وغيرها. وهي تفتح الباب أمام تدفق استثمارات أجنبية مباشرة كبيرة إلى الاقتصاد السعودي.
ختامًا، ثمة بعض التحديات التي ربما تواجه تنفيذ الاتفاقيات السعودية – الأمريكية، ومن بينها: الصعوبات الاقتصادية العالمية، وبعض العقبات على المستوى الداخلي الأمريكي، وخاصة في مراحل إقرار هذه الاتفاقيات في الكونجرس. لكن بشكل عام، فإن الاهتمام الكبير من قِبل واشنطن والرياض وحرصهما على تفعيل الاتفاقيات المُبرمة، وكذلك العوائد الاقتصادية المتوقع أن تعود على كلٍّ منهما جراء هذه الاتفاقيات، سوف تمثل عاملا محفزًا للمُضيِّ قُدُمًا في تنفيذها، والبناء عليها للوصول إلى مرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي والاستراتيجي الأوسع بين الدولتين.