جاء الهجوم الإرهابي الذي شهدته مدينة مانشستر في 22 مايو 2017 في خضم المراجعات المؤسسية في بريطانيا حول مدى فاعلية إجراءات مكافحة الإرهاب والتطرف، إذ لم ينقطع الجدل بين التيارات السياسية حول مدى تمكن المؤسسات الأمنية البريطانية من استباق التهديدات الإرهابية، واحتواء تغلغل التطرف في بعض قطاعات المجتمع البريطاني، نتيجة نشاط بعض المؤسسات والتنظيمات الدينية المتطرفة التي وجدت في بريطانيا ملاذًا آمنًا لأنشطتها.
وفي هذا الإطار، جاء تقرير جهاز الأمن الداخلي في بريطانيا في مارس 2017، بعنوان "عمليات مؤسسات الشرطة لتطبيق قانون مكافحة الإرهاب"، والذي تضمن إحصاءات أساسية حول العمليات التي قامت بها قوات الأمن البريطاني لمكافحة الإرهاب والتطرف، وحماية الأمن الداخلي، والتصدي للتهديدات الإرهابية، وتطبيق قوانين مكافحة الإرهاب. ولا ينفصل ذلك عن تقرير آخر صادر عن مجلس العموم البريطاني في يونيو 2016 بعنوان "إحصائيات عن الإرهاب في بريطانيا"، والذي تضمن تحذيرات من انتشار التطرف في بريطانيا، خاصة في السجون والمؤسسات العقابية.
تطورات مفاجئة:
لم تشهد بريطانيا هجمات إرهابية ضخمة من حيث عدد الخسائر منذ التفجيرات المتزامنة في وسائل النقل التي شهدتها العاصمة لندن في يوليو 2005، والتي تسببت في مقتل حوالي 52 شخصًا وإصابة 700 آخرين. فقد أحبطت قوات الأمن البريطانية هجمات إرهابية متعددة، مثل: المحاولة الفاشلة لتفجير طائرة تابعة لشركة "ترانس آتلانتيك" في أغسطس 2006، ومحاولة تفجير سيارات مفخخة في لندن، والهجوم الذي استهدف مطار جلاسكو في أسكتلندا في يونيو 2007، والذي تم إحباطه من جانب الشرطة البريطانية التي ألقت القبض على الطبيب العراقي بلال عبدالله في ديسمبر 2007 لتدبيره هذه الهجمات الإرهابية.
وأدى إخفاق الهجمات السابقة إلى تحولات في أنماط العمليات الإرهابية باتجاه "جهاد الممكن" الذي يتضمن هجمات فردية مفاجئة على أهداف محدودة، مثل اعتداء مواطنين بريطانيين من أصول نيجيرية على أحد عناصر الشرطة في مايو 2013 وسط صيحات التكبير من جانب المعتدين. وفي ديسمبر 2015، تعرض شرطيان بريطانيان لمحاولة طعن في محطة مترو بلندن عقب إعلان بريطانيا مشاركتها في الهجمات الجوية على داعش في سوريا، وثبت تورط الصومالي مهد الدين مير في تنفيذ الهجوم.
وأدى هجوم ويستمنستر في لندن في 22 مارس 2017 إلى تصاعد الجدل العام في بريطانيا حول مد فاعلية إجراءات مكافحة الإرهاب في بريطانيا، إذ وقع الهجوم في محيط البرلمان البريطاني، حيث قام خالد محمود بمحاولة دهس المارة بسيارته على جسر ويستمنستر، كما حاول طعن ضابط شرطة، مما دفع قوات الشرطة لإطلاق الرصاص عليه مما تسبب في مقتل أربعة أشخاص وإصابة 50 آخرين، حيث تم تصنيف الهجوم رسميًّا باعتباره ضمن هجمات "الذئاب المنفردة".
تراجع الفاعلية:
يكشف تقرير جهاز الأمن الداخلي في بريطانيا الصادر في مارس 2017، بعنوان "عمليات مؤسسات الشرطة لتطبيق قانون مكافحة الإرهاب"، عن محدودية عدد الذين تم القبض عليهم باتهامات ترتبط بالإرهاب، إذ لم يتجاوز عددهم بداية من عام 2016 حتى مطلع عام 2017 حوالي 260 متهمًا مقارنة بحوالي 282 متهمًا في عام 2015، ويتضمن التقرير عدة دلالات أساسية، يتمثل أهمها فيما يلي:
1- تراجع عدد قضايا الإرهاب: يشير التقرير إلى أنه من بين 260 تم القبض عليهم للاشتباه في اتهامات تتعلق الإرهاب بداية من عام 2016 حتى مطلع عام 2017، لم يتم توجيه اتهامات رسمية إلا لحوالي 79 متهمًا، وتم إطلاق سراح 68 آخرين دون اتهامات، بينما تم الإفراج عن 90 منهم بكفالة مالية.
ومن بين المتهمين البالغ عددهم 79 لم تتم محاكمة سوى 31 منهم، ولم تصدر أحكام قضائية بالإدانة إلا على حوالي 28، من بينهم 7 متهمين تمت تبرئتهم من اتهامات الإرهاب، في مقابل إصدار أحكام قضائية ذات طابع جنائي ضدهم، وهو ما يكشف مدى بطء وتيرة إجراءات التقاضي في قضايا الإرهاب.
2- تصدُّر ذوي الأصول الآسيوية: على الرغم من أن التقرير يؤكد وجود تراجع في معدلات الاتهامات بالإرهاب بين ذوي الأصول الآسيوية مقارنةً بارتفاع معدلات الاتهام بالإرهاب بين المواطنين البيض؛ إلا أن ذوي الأصول الآسيوية لا يزالون في صدارة المتهمين بارتكاب عمليات إرهابية في بريطانيا، وهو ما يرجع إلى حالة الاغتراب التي يعاني منها المواطنون من أصول باكستانية وأفغانية في بريطانيا، وفقًا لبعض التحليلات.
أما فيما يتعلق باتهامات الإرهاب لغير البريطانيين، فيشير تقرير مجلس العموم البريطاني عن الإرهاب في بريطانيا الصادر في يونيو 2016، إلى تصدر المتهمين بجرائم إرهابية من الجزائر وباكستان والعراق وأفغانستان وإيران والهند قوائم المتهمين بجرائم إرهابية خلال الفترة بين عامي 2001 و2016، حيث تم توجيه اتهامات في جرائم إرهابية لحوالي 158 من الجزائر، و148 من باكستان، و126 من العراق، و77 من أفغانستان، و65 من إيران، و60 فردًا من الهند، و59 من الصومال، و55 من تركيا.
3- تهديدات الإرهاب المحلي: كشف التقرير الصادر عن جهاز الأمن الداخلي البريطاني عن أن 74% من المتهمين في قضايا إرهابية خلال الفترة من عام 2016 حتى مطلع عام 2017 كانوا من ذوي الجنسية البريطانية، وهو ما يؤكد تصاعد تهديدات الإرهاب المحلي (Home-Grown Terrorism) الذي بات يُشكل التهديد الإرهابي الأكثر خطورة في الدول الإرهابية.
4- التركيز على الإرهاب بالخارج: قام تقرير جهاز الأمن الداخلي البريطاني بتصنيف المتهمين بالإرهاب وفقًا للنطاق الجغرافي لعملياتهم الإرهابية، وتصدّر ارتكاب عمليات إرهابية بالخارج قائمة الاتهامات بالإرهاب بنسبة 78%، تليها الاتهامات بتدبير عمليات إرهابية في داخل بريطانيا بنسبة 13%، وهو ما يكشف عن وجود اتجاه متصاعد لدى المتطرفين في بريطانيا للانضمام للتنظيمات الإرهابية خارج بؤر الصراعات في منطقة الشرق الأوسط.
وتُشير هذه النتائج إلى تركيز قوات الأمن البريطانية على رصد وتتبع العناصر الإرهابية العائدة إلى بريطانيا من بؤر الصراعات في الشرق الأوسط، والدول الأوروبية المجاورة، مقارنةً بمواجهة تهديدات الإرهاب المحلي، على الرغم من أنها شهدت تصاعدًا بين عامي 2015 و2016، حيث تزايد عدد المتهمين بتدبير عمليات إرهابية في الداخل البريطاني من 15 فردًا في عام 2015، إلى 36 فردًا عام 2016.
5- التطرف بين شرائح الشباب: كشف تقرير مجلس العموم البريطاني عن الإرهاب في بريطانيا عن تصاعد معدلات التطرف بين الشباب، حيث بلغت نسبة المتهمين من الشباب بين 25 و29 عامًا في جرائم الإرهاب منذ عام 2001 حتى يونيو 2016 حوالي 24% مقارنةً بحوالي 47% للشباب فوق سن ثلاثين عامًا، بينما بلغت نسبة الشباب في الفئة العمرية بين 21 و24 عامًا حوالي 17%، وهو ما يكشف تركز اتهامات الإرهاب في الفئات العمرية المختلفة للشباب، وانخراط نسبة كبيرة من الشباب في سن النضج في التنظيمات المتطرفة، وفق ما استخلصه التقرير.
6- تخفيف إجراءات أمن الحدود: يؤكد تقرير مجلس العموم البريطاني في يونيو 2016 المعنون "إحصائيات عن الإرهاب في بريطانيا"، عن أن عمليات الفحص والمراجعة بغرض الكشف عن الإرهابيين قد تراجعت خلال الفترة بين عامي 2009 و2016، فمن بين إجمالي 369 ألف عملية فحص وتحقيق بغرض الكشف عن الإرهابيين في المنافذ الحدودية، شهد عام 2016 حوالي 20 ألف عملية فحص مقارنةً بما يزيد على 85 ألف عملية فحص وتحقيق في عام 2009، وحوالي 67 ألف عملية فحص في عام 2010، وهو ما اعتبره التقرير تراجعًا في معدلات.
إجمالا، تكشف مراجعة الإحصاءات الرسمية الصادرة عن جهاز الأمن الداخلي، ومجلس العموم في بريطانيا؛ عن تراجع الإجراءات الأمنية لمواجهة الإرهاب خلال عام 2016 ومطلع عام 2017، بالإضافة إلى تعقيدات إجراءات التقاضي في قضايا الإرهاب، وتخفيف إجراءات أمن الحدود لمكافحة الإرهاب، فضلا عن التركيز على تهديدات العائدين من بؤر الصراعات مقارنةً بتهديدات الإرهاب الداخلي، وانتشار التطرف في الداخل البريطاني، خاصة بين مختلف شرائح الشباب.
المصادر:
1- “Operation of Police Powers under The Terrorism Act 2000 and the Subsequent Legislations: Arrests, Outcomes and Stops and Search in Great Britain”, London: Home Office, 2017, accessible at:
https://www.gov.uk/government/uploads/system/uploads/attachment_data/file/597029/police-powers-terrorism-dec2016-hosb0417.pdf
2- Benjamin Politowski, “Terrorism in Great Britain: The Statistics”, London: House of Commons, June 9, 2016, accessible at:
http://researchbriefings.files.parliament.uk/documents/CBP-7613/CBP-7613.pdf