تبنى "دونالد ترامب" خلال الحملة الانتخابية موقفًا مهادنًا لنظام "بشار الأسد" وللدور الروسي في سوريا؛ حيث كان يعارض استخدام القوة العسكرية ضد نظام "الأسد" الذي كان يؤيد استمراره في الحكم، لكن سُرعان ما تغير موقفه بعد الهجوم الكيميائي الأخير الذي شنه النظام السوري ضد المدنيين السوريين في محافظة إدلب، ليصرح بأن مقاربته ونظرته تجاه الرئيس السوري تغيرت كثيرًا بعد هجومه الكيماوي، وأنه تجاوز خطوطًا حمراء كثيرة بعد هجومه المروع وغير المحتمل، متوعدًا بالتحرك ردًّا على هذا الهجوم.
وفي رد على استهداف طائرات عسكرية تابعة لنظام "بشار الأسد" بلدة خان شيخون في إدلب بالأسلحة الكيميائية مما أدى إلى مقتل 87 شخصًا من بينهم 31 طفلا، أطلق الجيش الأمريكي 59 صاروخًا من طراز "توماهوك" من مدمرتين تابعتين للبحرية الأمريكية في السابع من إبريل الجاري على قاعدة "الشعيرات" العسكرية الجوية.
تؤكد المؤشرات الأولية أن الضربات الأمريكية وإن لم تستطع إحداث تحولات كبيرة في مواقف الأطراف المعنية بالأزمة السورية، فإنها ستُربك الخريطة السياسية والعسكرية للأزمة، وستحول دون تمرير خطط الأسد وروسيا المتعلقة بإدارة المرحلة القادمة.
تصعيد روسي:
تُعد روسيا أكثر الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية تضررًا من الضربات الأمريكية العسكرية لسوريا. فهذه الضربات أصابت النفوذ الروسي في سوريا في مقتل، وهددت بسحب المكتسبات التي انتزعتها موسكو من سوريا والمنطقة منذ تدخلها المباشر هناك في سبتمبر 2015.
وفيما قبل الضربات، حذرت موسكو واشنطن من القيام بأي عمل عسكري محتمل في سوريا، إذ قال نائب مبعوث روسيا في الأمم المتحدة "فلاديمير سافرونوكوف" ردًّا على سؤال عن ضربات أمريكية محتملة في سوريا: "فكروا في العواقب السلبية". ولكن عقب الضربات، بدا الموقف الروسي مضطربًا، غير مستوعب للوتيرة السريعة التي سارت الأمور وفقها، لتنقلب رأسًا على عقب.
وقد بدا ذلك جليًّا من ردود الأفعال الروسية التصعيدية التي قد تضعها في مواجهة مباشرة مع ترامب، وهو ما لا تريده روسيا بكل تأكيد، خاصة في ظل وجود شخص -مثل ترامب- لا يمكن تقدير ردود أفعاله بدقة؛ حيث اعتبر رئيس الوزراء الروسي "دميتري مدفيديف" أن الضربة الأمريكية على سوريا وضعت واشنطن على شفا الاشتباك مع الجيش الروسي. كما رأى "دميتري بيسكوف" المتحدث باسم الرئيس الروسي أن الضربة الجوية الأمريكية "عدوان على دولة ذات سيادة"، وأضاف: "عمل واشنطن هذا يُلحق ضررًا هائلا بالعلاقات الروسية الأمريكية التي هي أساسًا في وضع سيئ".
وفي رد على الضربات العسكرية الأمريكية في سوريا، اتخذت روسيا عدة إجراءات يُمكن وصفها بأنها "استثنائية"؛ حيث طلبت رسميًّا عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي بشأن سوريا على خلفية الضربات الأمريكية، وقامت بتعليق اتفاق تنسيق الطيران العسكري في الأجواء السورية مع الولايات المتحدة الذي يضمن عدم الاحتكاك بين طائرات الدولتين عند القيام بأعمال عسكرية في الأجواء السورية.
ولكن، يبدو أن الولايات المتحدة لا ترغب -حتى الآن- في دخول مواجهة مفتوحة -عسكرية أو سياسية- ضد روسيا، وهو ما تجلى في إبلاغ واشنطن لموسكو بالضربة الجوية قبل القيام بها، وإشعار روسيا بالضربة قبل تنفيذها يعني أيضًا إشعار نظام الأسد بها ضمنيًّا عبر الروس، الأمر الذي يُقلل من الخسائر، ناهيك عن محدودية الضربة العسكرية.
ويُعتقد أن واشنطن تطمح في تحسين وضعها العسكري، ومن ثَمَّ السياسي على طاولة المفاوضات السورية، والضغط على روسيا لتعديل موقفها ومسار الأزمة في سوريا، لكسر تصلب النظام، وتسهيل عملية الانتقال إلى الحل السياسي عبر جنيف أو أي مسار آخر، وكذلك تسهيل عملية مواجهة تنظيم داعش هناك. وإذا أدركت موسكو هذه الأهداف، لربما تخفف من حدة لهجتها ضد واشنطن، أو ربما تكون أكثر حسمًا لتنتقل إلى مرحلة جديدة في المواجهة مع واشنطن.
تعاظم المخاوف الإيرانية:
كانت إيران أبرز المعارضين للضربات الأمريكية ضد الأسد، نتيجة اصطفافها إلى جوار نظام الأسد وروسيا؛ حيث نقلت وكالة الطلبة الإيرانية للأنباء عن المتحدث باسم وزارة الخارجية بهرام قاسمي قوله، إن "إيران تدين استخدام الأسلحة الكيماوية، لكنها -في الوقت ذاته- تعتقد أن استغلال (الأسلحة الكيماوية) ذريعة لاتخاذ إجراءات أحادية الجانب هو أمر خطير ومدمر، وانتهاك للقوانين الدولية"، وتابع: "تدين طهران بقوة أي ضربات أحادية الجانب، ومثل هذه الإجراءات ستقوي شوكة الإرهابيين في سوريا، وستؤدي إلى تعقيد الوضع في سوريا والمنطقة".
ولكن المهم في هذا الأمر أن الهجوم الأمريكي يدق ناقوس خطر لطهران، فربما يكون تمهيدًا لعملية عسكرية أمريكية واسعة في المنطقة، تمتد إلى أهداف إيرانية، اتساقًا مع التهديدات التي أطلقها الرئيس ترامب في السابق ضد طهران. وهو ما أشار إليه وزير الاستخبارات الإسرائيلي "يسرائيل كاتس"، الذي ذكر أن الضربة الأمريكية رسالة واضحة لما أطلق عليه المحور الداعم لنظام الأسد بقيادة إيران.
لذا، من المتوقع أن تفكر إيران في تعزيز موقفها العسكري، تحسبًا لأي تحرك أمريكي غير محسوب، إضافةً إلى الحصول على ضمانات روسية بعدم حدوث مثل هذه التحركات، وضمان اصطفاف موسكو إلى جانبها في حال وقوعها.
تحولات الموقف التركي:
يُعتبر الموقف التركي هو الأكثر تعقيدًا من بين كافة القوى الفاعلة في الأزمة السورية، فرغم وضوح الموقف التركي، وسيره على خط واحد منذ عام 2012، وهو مواجهة نظام "الأسد"، والدفع بضرورة إسقاطه، وما ترتب على ذلك من مواجهة روسيا وإيران؛ إلا أن ذلك الموقف شهد تحولا تدريجيًّا بعد الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو 2016، حيث وجدت تركيا نفسها في موضع تأثير أقل من نُظرائها الإقليميين في سوريا، رغم التجاور الجغرافي الذي يضع مصالحها على المحك مع كل تطور تشهده سوريا.
ويرى الرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" أن الولايات المتحدة هي التي أضعفت موقفه في سوريا، بل ودعمت في نهاية المطاف انقلاب "فتح الله كولن" ضده، وفق زعم أردوغان، وهو الأمر الذي نقل العلاقات التركية الأمريكية إلى مرحلة غير مسبوقة من التوتر الرسمي. لذا قررت أنقرة تغيير وجهتها الاستراتيجية في سوريا، بل وفي المنطقة ككل، فعضدت من تعاونها مع روسيا، بما يحتّمه ذلك من قبول باستمرار الأسد، والتخلي عن المقاومة السورية، وفتح قنوت اتصال مجددًا مع إيران. وكأن تركيا قبلت الأمر الواقع، وقررت مهادنة الأسد وإيران، وكسب ود روسيا.
ولكن مع وقوع الضربات الأمريكية على قاعدة الشعيرات، صرّح "إبراهيم كالين" المتحدث باسم الرئيس التركي، بأن الضربة الأمريكية خطوة مهمة لضمان عدم مرور الهجمات بالأسلحة الكيميائية والتقليدية ضد السكان المدنيين دون عقاب. فيما كرر مطالب أنقرة منذ فترة بضرورة إقامة منطقة حظر جوي ومناطق آمنة في سوريا بشكل فوري. ومن جهته قال "مولود جاويش أوغلو"، وزير الخارجية التركي، إن بلاده تدعم الهجوم الصاروخي الأمريكي، معتبرًا إياه خطوة مناسبة. وذكر أن الولايات المتحدة أبلغت التحالف الدولي بالهجوم قبيل تنفيذه.
وملخص ما سبق، أن الموقف التركي شهد تحولا جديدًا، بعيدًا عن روسيا، بعد أن أثبتت أنها حليف غير موثوق فيه، وغير قادر -أو غير راغب- في صيانة مصالح تركيا في سوريا، وعلى رأسها صعود الأكراد. وربما يتبلور هذا التحول في فتح قنوات اتصال جديدة بين واشنطن وأنقرة خلال الأيام المقبلة، بما يُنذر بتغير خريطة الاصطفافات في الأزمة السورية مُجددًا.