تشير الرسالة التي وجهتها إيران إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية في 16 مارس 2017، والخاصة بالخلاف حول المياه الثقيلة التي تنتجها، إلى أن إيران تسعى إلى توجيه تهديدات غير مباشرة بقدرتها على العودة من جديد إلى تطوير برنامجها النووي الذي يثير شكوكًا عديدة لدى القوى الإقليمية والدولية التي لم تكن تستبعد وجود جانب عسكري له من البداية.
لكن هذه التهديدات لا تنفي -في الوقت نفسه- أن إيران تبدو في أمسِّ الحاجة حاليًّا إلى الاستمرار في العمل بالاتفاق، وأنها ربما تستغل فقط بعض الصياغات التي تضمنها الاتفاق والتي يمكن تفسيرها بأكثر من معنى من أجل توسيع نطاق خياراتها في التعامل مع الضغوط الدولية التي تتعرض لها، لا سيما من جانب الولايات المتحدة الأمريكية التي قد ترى أن هذه الخطوة ربما تمثل مؤشرًا لعدم التزام إيران بالاتفاق، بشكل يمكن أن يدفعها إلى تبني سياسة أكثر تشددًا في التعامل مع الأخيرة.
جدل واسع:
وفي هذا السياق، لم تكتفِ إيران بالخلاف الخاص بتجارب إطلاق الصواريخ الباليستية؛ حيث بررت استمرارها في إجراء هذه التجارب بأن صواريخها الباليستية ليست مخصصة لحمل أسلحة نووية، وهي النوعية التي يدعوها مجلس الأمن إلى عدم تنفيذ تجارب خاصة بها، وهو ما أثار جدلا بين القوى المعنية بالاتفاق التي شاركت في المفاوضات من البداية، لا سيما روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، إذ إنها بدأت في إثارة خلاف جديد حول المياه الثقيلة التي كان من المزمع استخدامها، قبل الوصول للاتفاق النووي، في مفاعل "آراك"، من أجل إنتاج البولوتونيوم الذي قد يُستخدم بدوره في إنتاج الأسلحة النووية.
فقد تعمدت طهران الرد سريعًا على الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل إلزام إيران بتنفيذ التزاماتها في الاتفاق النووي بشكل حرفي، حيث أكدت واشنطن خلال اجتماع للوكالة الدولية للطاقة الذرية عُقد في مارس 2017، على ضرورةَ عدم تجاوز إيران للكمية المسموح لها بالاحتفاظ بها من المياه الثقيلة، والتي تقدر بـ130 طنًّا متريًّا، وعلى نقل الكميات الأخرى الفائضة إلى الخارج من أجل بيعها في السوق الدولية.
وفي هذا السياق، وجهت إيران رسالة إلى الوكالة في 16 مارس 2017، أكدت فيها أنه "لا يوجد شيء في الاتفاق يُلزمها بشحن المياه الثقيلة الزائدة إلى الخارج، والتي عرضت في السوق الدولية ولكن لم تجد مشتريًا فعليًّا يتعين تسليم المياه الثقيلة له". كما وجهت إشارات إلى أنها قد تزيد من سرعة إنتاجها لتلك المادة بشكل سيُمكِّنها من الوصول للحد الأقصى المسموح به في شهر مايو المقبل، حيث كانت تمتلك حتى شهر فبراير نحو 124.2 طنًا من تلك المادة.
أهداف متعددة:
ويبدو أن إيران تسعى من خلال هذا التصعيد إلى تحقيق أهداف عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- تأكيد قدرتها على تنفيذ تهديداتها السابقة بالعودة إلى تطوير برنامجها النووي من جديد، في حالة ما إذا توقف العمل بالاتفاق النووي بسبب الضغوط التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي يمكن -وفقًا للرؤية الإيرانية- أن تقلص إلى حد كبير من العوائد التي كانت إيران تسعى للحصول عليها من الاتفاق، خاصة على المستويين الاقتصادي والتكنولوجي، لا سيما فيما يتعلق برفع سقف العقوبات الأمريكية المفروضة على بعض الشركات والأشخاص بتهمة دعم برنامج الصواريخ الباليستية، والحيلولة دون توجه الشركات والمصارف الغربية لتوسيع نطاق تعاملاتها مع إيران خلال المرحلة المقبلة.
2- توجيه رسالة للقوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، بأن السياسة المتشددة التي تتبناها لن تنجح، طبقًا لرؤية طهران، في دفع الأخيرة إلى إبداء مرونة أكبر في التعامل مع الضغوط الدولية التي تجاوزت الملف النووي وامتدت أيضًا إلى الملفات الخلافية الأخرى، على غرار ملف دعم إيران للإرهاب، وتدخلها في دول الأزمات، ودورها في زعزعة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وهى الملفات التي باتت تحظى باهتمام دولي لافت منذ بداية تولي إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهامها في 20 يناير 2017.
3- دفع تلك القوى إلى محاولة البحث عن خيارات أخرى للتعامل مع إيران بدلا من ممارسة مزيد من الضغوط ورفع سقف العقوبات، على أساس أن تلك الخيارات الأخيرة لم تحقق، في رؤية اتجاهات عديدة داخل إيران، أية نتائج بارزة، على غرار إجبار إيران على عدم تكرار الخطوات الاستفزازية التي اتخذتها في الفترة الأخيرة، مثل إجراء تجارب جديدة لإطلاق صواريخ باليستية.
الغرق الصناعي:
4- شن حملة قوية ضد تيار المعتدلين من خلال اتهامه بالمسئولية عن ارتفاع سقف الضغوط والعقوبات المفروضة على إيران، بسبب التنازلات التي قدمتها حكومة الرئيس حسن روحاني في المفاوضات التي انتهت بالوصول للاتفاق، وعدم قدرتها على ممارسة ضغوط على الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تنفيذ التزاماتها في الاتفاق، خاصة فيما يتعلق برفع العقوبات المفروضة على إيران، وعدم فرض عقوبات جديدة.
وهنا ربما يمكن القول إن ثمة اتجاهات عديدة داخل إيران ما زالت ترى أن الأخيرة لا تزال تمتلك زمام المبادرة رغم الوصول للاتفاق النووي، وأنها من الممكن أن تعرقل الأهداف التي تسعى القوى الدولية إلى تحقيقها من خلال هذا الاتفاق.
ففي هذا السياق، كان لافتًا أن بعض وسائل الإعلام الإيرانية بدأت في توجيه اتهامات ضمنية لحكومة الرئيس روحاني بأنها ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية في ممارسة ما يُسمى بـ"لعبة الغرق الصناعي" التي تقوم على إيهام الشعب الإيراني بأن إيران في وضع لا يسمح لها بالدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأنه من الأفضل الالتزام بالاتفاق النووي رغم تقاعس الطرف الآخر عن الالتزام بتعهداته. في حين ترى هذه الاتجاهات أنه من الممكن لإيران، والإشارة تحديدًا هنا للمؤسسات المتشددة بالطبع على غرار الحرس الثوري، عرقلة تلك الخطط من خلال التهديد بأن إيران قادرة على العودة إلى مرحلة ما قبل الصفقة النووية.
ومن دون شك فإن هذه النوعية من الاتهامات سوف تتزايد خلال الفترة القادمة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية التي سوف تُجرى في 19 مايو 2017، وتطلع القوى القريبة من الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد (الذي لن يترشح في الانتخابات بناءً على طلب من المرشد علي خامنئي) إلى تقليص فرص روحاني في الفوز بفترة رئاسية جديدة، حيث تسعى إلى استغلال عدم قدرة الحكومة الحالية على الحصول على مزيد من العوائد الاقتصادية والتكنولوجية للاتفاق النووي، من أجل تدعيم فرص أحد مرشحيها في الفوز بالانتخابات القادمة.
وفي النهاية، ربما يمكن القول إن قدرة إيران على الاستمرار في تبني تلك السياسة القائمة على الدخول في جدل واسع مع القوى الدولية حول بعض بنود الاتفاق النووي، وربما اتخاذ مزيد من الخطوات الاستفزازية، على غرار إجراء تجارب جديدة لإطلاق صواريخ باليستية، سوف ترتبط في المقام الأول بردود فعل الولايات المتحدة الأمريكية، ومدى نجاحها في إقناع القوى الدولية الأخرى المعنية بالاتفاق بضرورة ممارسة مزيدٍ من الضغوط على إيران من أجل دفعها للالتزام حرفيًّا بالاتفاق النووي.