لاشك أن مفاوضات جنيف 4 قد خطت خطوة أو اثنتين على طريق تسوية الصراع السوري، ولكن لاشك أيضاً أن الطريق ما زالت طويلة وشاقة، أما إنجاز الخطوة أو الخطوتين فقد تحقق، لأن الصراع قد وصل إلى ما يُعرف في دراسات الصراع بمرحلة «التجمد»، حيث يصبح كل طرف في صراع ما عاجزاً عن أن ينتصر على خصمه إلا بتكلفة باهظة لا يمكنه تحملها مادياً أو سياسياً، ومن ثم يصبح التفكير في مسار للتسوية ضرورياً، ولكن هذا المسار يبقى معقداً بسبب شدة التعارض بين طرفي الصراع. ومن هنا كانت جنيف وجولاتها الثلاث التي لم تحقق شيئاً تقريباً من منظور التسوية النهائية، وهكذا وصلنا إلى جنيف 4 بعد أن أصبحت أطراف الصراع أكثر تبصراً بحقيقته، ولذلك تمثلت الخطوة الأولى في جنيف 4 في أن الأطراف أصبحت تعترف علناً بخصومها، فشهدنا النظام وحلفاءه يجلسون وجهاً لوجه مع خصومهم الذين تقبلوا بدورهم الجلوس مع من كانوا لا يتصورون بقاءه أصلاً في ساحة الصراع! وهذا هو الإنجاز الأول لجنيف 4، فممثلو النظام السوري يجلسون وجهاً لوجه مع من كانوا يتهمونهم إلى وقت قريب بالإرهاب، وممثلو المعارضة يفعلون الشيء نفسه مع من كانوا يشترطون اختفاءه قبل أي حديث. وليس هذا فحسب وإنما تم الاتفاق على جدول للأعمال يلبي مطالب الأطراف، فمطالب المعارضة المتعلقة بالانتقال السياسي ودستور جديد وانتخابات جديدة بنود ثلاثة في الجدول، ومعها المطلب الذي أصر عليه النظام وهو إضافة بند عن الإرهاب.
والاتفاق على جدول الأعمال في حد ذاته إنجاز لا يخلو من مضمون، لأن معناه أن النظام يوافق من حيث المبدأ على أن الإطار السياسي الذي يمثله لن يكون هو الإطار ذاته في سوريا ما بعد التسوية، بينما يعني أيضاً أن المعارضة بعد طول رفض باتت تقبل بدورها من حيث المبدأ أن يكون النظام شريكاً في تحديد ملامح المرحلة الانتقالية، ويتسق مع هذا أن روسيا تجلس اليوم مع من كانت إلى عهد قريب تعتبرهم إرهابيين.
ولكن إمعان النظر في تعقيدات الصراع يظهر وزن الصعوبات الهائلة التي تتربص بمسار المفاوضات القادمة عندما تبدأ ثانية، فلاشك أن النظام السوري سيحاول بكل السبل الممكنة توظيف البند الخاص بالإرهاب لمصلحته سواء بالنيل من أطراف أخرى في المعارضة المسلحة حليفة للفصائل التي يتفاوض معها، أو باتخاذ استمرار سيطرة الإرهاب المتفق عليه وهو «داعش» وجبهة «فتح الشام» على أجزاء من الأرض السورية ذريعة للتملص من بعض الاستحقاقات أو تأجيلها. وعندما تناقش المفاوضات عملية الانتقال السياسي سنشهد على طاولتها صراعاً لا يقل ضراوة عما دار في ميدان القتال من أجل أن يهمش كل طرف خصمه إلى أقصى حد ممكن. أما الدستور فستواجه صياغته معضلات أساسية كان مشروع الدستور الروسي لسوريا كاشفاً عنها، وأولها الهوية العربية للدولة السورية، وهل نضحي بها بذريعة أن المكون العربي ليس هو المكون الوحيد للشعب السوري؟ وثانيها الطابع العلماني للدولة السورية، وهل يعقل بعد أن قاتلت هذه الفصائل الإسلامية لسنوات أن ينتهي الأمر بدولة علمانية؟ وثالثها كيف سيواجه الدستور معضلة التنوع في سوريا وبالذات من المنظور الكردي، وهل يلبي مطلب الأكراد بكيان فيدرالي يذكرنا بالتجربة الفيدرالية العراقية التي حولت الإقليم الكردي من الناحية الفعلية إلى «دولة مستقلة»، أم يتوقف عند حد الحكم الذاتي للأكراد؟ وبطبيعة الحال ستقف تركيا بالمرصاد لأي حل للمسألة الكردية ترى أنه يهدد أمنها، وعلى رغم أن إجراء الانتخابات قد يبدو للوهلة الأولى أسهل البنود في جدول الأعمال، إذا تم الاتفاق على الدستور، فإن دونه أهوالاً تتعلق باحتمال استمرار سيطرة الإرهاب على مناطق بعينها، وتوفير الضمانات الكافية لنزاهة الانتخابات، وحق ملايين اللاجئين في المشاركة في الانتخابات، وكيف تتم في أماكن اللجوء بنزاهة طالما أن عودتهم ستكون مرهونة بإعادة الإعمار في المناطق التي خُربت أثناء الصراع. جلست الأطراف مع بعضها بعضاً إذن واتفقت على جدول للأعمال ولكنها الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد