كانت إيران من أولى الدول التي أبدت ردود فعل ضد الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 27 يناير 2017، والذي يقضي بمنع دخول رعايا سبع دول في الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة الأمريكية لفترة محددة، حيث نددت بهذا القرار، وهددت باتخاذ إجراءات مماثلة للرد عليه. لكن ربما لا يعود ذلك فقط إلى أن إيران كانت من ضمن الدول السبع التي شملها هذا القرار، وإنما يعود أيضًا إلى اعتبارات أخرى ترتبط برؤية إيران لمدى تأثير ذلك على الاتفاق النووي، وعلى التوازنات السياسية الداخلية التي تبدو مقبلة على مرحلة جديدة من إعادة التشكل.
إذ إن بعض الاتجاهات داخل إيران ترى أن هذا الأمر التنفيذي يمثل انتهاكًا للاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة "5+1" في يوليو 2015، والذي ينص، وفقًا لها، على ألا تكون التصرفات عدائية بين الطرفين، بل تعتمد على الحوار والتفاوض، وهو ما عبر عنه بعض نواب مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان)، على غرار حسين نقوي حسيني، العضو البارز في لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان.
فضلا عن ذلك، فإن هذا القرار يساهم في تضييق هامش الخيارات المتاح أمام حكومة الرئيس حسن روحاني، بدليل أن مسئولي الحكومة كانوا أول من سارعوا إلى تبني مواقف رافضة للقرار الأمريكي الجديد، على عكس المسئولين الآخرين في الدولة الذين حرصوا على توجيه تهديدات ضمنية خاصة بالخيارات التصعيدية التي تمتلكها إيران، وربما تستند إليها، وفقًا لرؤيتهم، في مرحلة ما.
وقد عبر وزير الخارجية محمد جواد ظريف عن موقف الحكومة، بتأكيده، في 29 يناير 2017، أن القرار الأمريكي الجديد يمثل "هدية للمتطرفين". وهنا، فإن إشارة ظريف إلى "المتطرفين" تحديدًا ربما لا تعني فقط التنظيمات الإرهابية التي استغلت تصاعد حدة الصراعات الداخلية في بعض دول المنطقة من أجل دعم انتشارها وتوسيع نطاق سيطرتها على بعض المدن والمناطق المهمة، بل ونقل عملياتها إلى خارج منطقة الشرق الأوسط، وتحديدًا إلى الدول الغربية، وإنما قد تمتد أيضًا إلى التيارات اليمينية المتشددة داخل بعض الدول، وفي مقدمتها إيران نفسها.
فوفقًا لهذه الرؤية، فإن تيار المحافظين الأصوليين سوف يستغل الفرصة من جديد لتصعيد حدة ضغوطه على تيار المعتدلين والرئيس روحاني، ودعم سيطرته على مؤسسات صنع القرار خلال المرحلة المقبلة، خاصة أن هذا التيار يسعى -في الوقت الحالي- إلى إقناع المرشد الأعلى علي خامنئي بأهمية تعيين إحدى الشخصيات المتشددة في منصب رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي كان يتولاه هاشمي رفسنجاني، قبل وفاته في 8 يناير 2017، وهو الأمر الذي سوف يمثل اختبارًا جديًّا لتوازنات القوى السياسية قبل إجراء الانتخابات الرئاسية في 19 مايو 2017.
تهديدات ضمنية
برغم الخلافات العالقة بين التيارات السياسية الرئيسية داخل إيران والتي اتسع نطاقها في الفترة الأخيرة، إلا أن القرار الأخير الذي اتخذه ترامب ربما يدفع تلك التيارات إلى التوافق على محاور رئيسية للسياسة التي سوف تتبعها إيران في التعامل مع الضغوط المتوقع أن تفرضها الإدارة الأمريكية الجديدة خلال المرحلة القادمة، خاصة أن هذا القرار قد يمثل مقدمة لخطوات أخرى تصعيدية من جانب تلك الإدارة تجاه إيران، حيث يتوقع أن تسعى الأولى إلى إعادة فتح ملف الاتفاق النووي من جديد في ظل الموقف الرافض الذي تتبناه تجاهه، وإصرارها على ضرورة إعادة التفاوض حوله من جديد، إلى جانب تزايد احتمالات إقدامها على منح أولوية لملف دعم إيران للإرهاب الذي لم يحظَ بأهمية بارزة من جانب إدارة الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما التي كانت تعول في المقام الأول على مدى التزام إيران بالاتفاق النووي.
وهنا، فقد بدأت إيران في التلويح بخيارات تصعيدية جديدة ربما تستند إليها في حالة إقدام إدارة ترامب على فتح تلك الملفات.
تسريع التخصيب
كان لافتًا أن مساعد وزير الخارجية الإيراني للشئون الدولية والحقوقية والعضو البارز في فريق التفاوض النووي عباس عراقجي، أعلن في 29 يناير 2017، أن إيران قامت بضخ الغاز في أجهزة الطرد المركزي الاستراتيجية "IR 8"، معتبرًا أن "أجهزة "IR 6" و"IR 8" تمثل رمزًا لتقدم البلاد العلمي وتقنيتها، مشددًا على أن "تلك الأجهزة لديها القدرة على تخصيب اليورانيوم 24 مرة أكثر من أجهزة الجيل الأول 1IR ".
ومع أن إيران تحاول من خلال ذلك تأكيد التزامها بالاتفاق النووي الذي ينص على حصر عمليات تخصيب اليورانيوم في أجهزة الطرد المركزي من الجيل الأول فقط، وعلى الانخراط في إجراء أبحاث محدودة خاصة بأجهزة الطرد المركزي الأكثر تطورًا التي تمتلكها وذلك لمدة محددة؛ إلا أنها -في الوقت نفسه- تبدو حريصة على تأكيد قدرتها على الإسراع في تطوير برنامجها النووي من جديد، في حالة ما إذا حصل الخبراء النوويون على ضوء أخضر من جانب القيادة العليا للنظام لتبني هذا الخيار.
ومن دون شك، فإن ذلك يتوافق مع التصريحات التي أدلى بها بعض المسئولين الإيرانيين خلال الفترة الأخيرة، والتي تحذر من أن إيران لديها القدرة على استئناف نشاطاتها النووية في حالة ما إذا انتهك الطرف الآخر الاتفاق، في إشارة إلى رفض إيران فكرة إعادة التفاوض حول الاتفاق النووي من جديد. ففي هذا السياق، قال رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي، في 18 يناير 2017، أن إيران غير مستعدة لأي تعديل أو نقاش للاتفاق النووي من جديد، وأنه "في حالة ما إذا مزق ترامب الاتفاق فإن إيران ستُعيد برنامجها بشكل يصدم الأمريكيين".
تطوير الصواريخ
وبالتوازي مع ذلك، اتخذت إيران خطوة تصعيدية أخرى، تتمثل في إعلان نائب القائد العام للحرس الثوري العميد حسين سلامي، في 29 يناير 2017، عن تطوير صواريخ باليستية قادرة على ضرب أهداف متحركة، مشيرًا إلى أن إيران باتت من الدول القلائل التي تمتلك هذه التقنية.
هذه الخطوة تسعى من خلالها إيران إلى تأكيد أنها لن تتوانى عن تطوير قدراتها العسكرية التي تثير قلقًا من جانب القوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، حتى في حالة ما إذا اتجه الكونجرس الأمريكي إلى فرض عقوبات جديدة عليها خلال المرحلة القادمة بسبب دعمها للإرهاب وتطويرها تلك النوعية من الصواريخ، وحتى بعد أن تعمدت واشنطن مطالبة مجلس الأمن بعقد جلسة لمناقشة إجراء طهران لتجربة إطلاق صاروخ باليستي متوسط المدى في 29 يناير 2017.
وفي ضوء ذلك، ربما يمكن القول إن إيران باتت تستعد خلال الفترة الحالية لمرحلة التصعيد المتوقع أن تبدأ مع إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي قد تُعيد "أجواء" الأزمة النووية إلى مربعها الأول من جديد قبل إجراء مفاوضات سرية وعلنية مع الولايات المتحدة الأمريكية وباقي دول مجموعة "5+1"، والوصول للاتفاق النووي، خاصةً بعد أن بدأت بعض الاتجاهات المتشددة داخل إيران في العودة إلى طرح فكرة التلويح بالخيارات التصعيدية الأخرى التي يمكن أن تقدم عليها إيران للتعامل مع الضغوط التي سوف تبدأ إدارة ترامب في ممارستها، مثل التهديد بإغلاق مضيق هرمز، وهو الخيار الذي ما زالت اتجاهات أخرى مقابلة داخل إيران تحذر من مخاطره المتوقعة، ليس فقط على المنطقة وإنما أيضًا على أمن ومصالح إيران في المقام الأول.