طالب البرلمان الأوروبي في ٢٤ نوفمبر 2016 من خلال تصويت غير مُلزم دولَ الاتحاد الأوروبي بتجميد محادثات انضمام تركيا للاتحاد على خلفية رؤية الفاعلين الأوروبيين تدهورًا في أوضاع حقوق الإنسان بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في ١٥ يوليو ٢٠١٦، خاصة بعد تصاعد الحديث عن إعادة عقوبة الإعدام. وقد أدت الخطوة الأوروبية إلى تصعيد في خطاب الطرفين وسط المُناخ المتوتر الذي ساد بين أنقرة وبروكسل على خلفية ملفات حقوق الإنسان، واللاجئين، ومكافحة الإرهاب خلال الأعوام الثلاثة الماضية، والذي يعكس عملية تفكيك تدريجي للشراكة الاستراتيجية بين الطرفين.
وفي إطار تشكل بوادر معادلة جديدة لتسوية النزاع السوري، وتقسيم مناطق النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، تقودها موسكو وتضم إيران وتركيا، باتت لدى الأخيرة قدرة أكبر على المناورة والتلويح لدول الاتحاد الأوروبي بقدرتها على تصدير أزمات المنطقة إلى القارة الأوروبية. وتستطيع أنقرة الضغط على بروكسل من خلال عددٍ من الملفات الحيوية، ومن أهمها ملفا اللاجئين ومكافحة الإرهاب. لكن في المقابل تلعب التجارة والطاقة دورًا إيجابيًّا يُسهم في الحيلولة دون حدوث قطيعة كاملة بينهما.
تصدير اللاجئين
هدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بروكسل بإنهاء اتفاق اللاجئين الذي وُقِّع في مارس ٢٠١٦(*) بهدف وقف تدفق اللاجئين من تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي، على خلفية الخطوة المتخذة من قبل البرلمان الأوروبي. ويُشكل التهديد بإلغاء اتفاق مارس مع دول الاتحاد ورقة ضغط تركية على البرلمان الأوروبي وبروكسل.
ويُعد هذا التهديد الثاني من نوعه؛ إذ سبق أن هدد الرئيس التركي دول الاتحاد الأوروبي بفتح الحدود التركية تجاه بلغاريا واليونان للاجئين في ١٩ نوفمبر ٢٠١٥ في اجتماع مع دونالد تَسك، رئيس المجلس الأوروبي، وجان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، بهدف الضغط على الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى اتفاق مشترك بشأن اللاجئين.
ووفقًا لإحصائيات تركية فإن الدولة تستضيف ما يقرب من 2,7 مليون لاجئ سوري مسجلين في عام ٢٠١٥، يقيم 9% منهم في مخيمات، والبقية تقيم في الحواضر التركية. ويتركز السوريون في الأقاليم الجنوبية الشرقية التي تتمتع بنسب بطالة عالية نسبيًّا، وهو ما يتسبب في تنامي تنافس غير صحي واختلالات في أسواق العمل بالأقاليم الجنوبية، وخاصة في قطاعات البناء، والملابس، والتصنيع.
وبالرغم من تزايد الاستثمارات السورية بين عامي ٢٠١٣ و٢٠١٥ بتركيا، وخاصة في الأقاليم الجنوبية الشرقية، فإن استمرار تدفق النازحين في أحد جوانبه يشكل عبئًا على الاقتصاد التركي في ظل عدم وجود آليات ناجحة حتى الآن تؤدي إلى دمجهم اقتصاديًّا. ولذا، قد يحدث تخفيف جزئي للضغوط التي يُعاني منها الاقتصاد التركي، لا سيما البطالة، في حال فتحت الحكومة التركية الحدود وسواحل الدولة لخروج جزء من النازحين.
تَحُدُّ الإجراءات الأمنية التي بدأت تُطبقها دول البلقان وشرق أوروبا، وأبرزها المجر، قبل الاتفاق -جزئيًّا- من فاعلية التهديدات التركية، إذ بات تدفق اللاجئين إلى أوروبا أكثر صعوبة بتشديد آليات الرقابة الحدودية بين هذه الدول التي يمر من خلالها اللاجئون المتوجهون إلى غرب أوروبا. ولكن في المقابل، تظل الهجرة غير الشرعية إلى اليونان وإيطاليا عبر سواحل البحر المتوسط القادمة من تركيا وشمال إفريقيا مستمرة، وغير مسيطر عليها بصورة كاملة، وذلك على الرغم من تراجعها. ومن الجدير بالذكر أن عدد المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا عبر سواحلها الجنوبية انخفض في عام ٢٠١٦ إلى ٣٤٧ ألف مهاجر تقريبًا من مليون مهاجر غير شرعي في عام ٢٠١٥.
تأثر جهود مكافحة الإرهاب
من شأن فشل دول الاتحاد في التعامل مع الموجات الجديدة من تدفق اللاجئين في حال إلغاء تركيا اتفاق اللاجئين الذي عُقد في مارس ٢٠١٦، تغذية التيارات الراديكالية في تجمعات اللاجئين والمهاجرين المسلمين التي يحاول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) جذبها، كأحد العوامل غير المقصودة.
وفي سياق متصل بملف الهجرة، يُؤثر التصعيد الأخير بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي على جهود مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط. فقد تسبب توسع وتيرة الصراع في سوريا في إحداث شقاقات بين الجانبين بشأن رؤية كلٍّ منهما لإدارة ملفي مكافحة تنظيم "داعش" وحزب العمال الكردستاني والتعامل مع نظيره السوري (حزب الاتحاد الديمقراطي) ووحدات حماية الشعب الكردية، بالإضافة إلى تنظيم "الخدمة" المُتهم بتنفيذ الانقلاب العسكري الفاشل في يوليو ٢٠١٦.
وأثارت العمليات الإرهابية التي نفذها تنظيم داعش في أوروبا خلال عامي ٢٠١٥ و٢٠١٦ جدلا حول عدم كفاءة التنسيق الأمني بين أنقرة والعواصم الأوروبية. فعلى مدار العامين الماضيين كانت هناك أصوات رسمية وإعلامية أوروبية تُشير إلى تعمد أنقرة عدم قطع خطوط إمداد التنظيم بين تركيا وسوريا لأسباب تتعلق باستراتيجية أنقرة تجاه الصراع في شمال سوريا. وفي المقابل، تتهم أنقرة عواصم أوروبية بعدم الاستجابة لتحذيرات أمنية وجهتها سلفًا إليها بشأن منفذي تفجيرات وقعت على أراضي هذه الدول.
ومن شأن تراجع العلاقات الاستراتيجية بين أنقرة وبروكسل إضعاف التعاون الأمني والاستخباراتي بدلا من رفع مستوياته وتطوير آلياته. إذ تتأثر ديناميكيات التعاون التركي-الأوروبي في مكافحة تنظيم "داعش" والمجموعات الراديكالية الأخرى بالاختلافات والسياسات المتباينة للطرفين تجاه حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري. فالقيادة التركية ترى أن الدعم الغربي -خاصة الأمريكي- لوحدات الحماية الكردية في سوريا يُهدد الأمن الداخلي التركي، سواء من خلال دعمه عسكريًّا ضد تنظيم "داعش" أو التغاضي عن شبكات دعم هذه التشكيلات في أوروبا. فقد اتهمت السلطات التركية وحدات الحماية الكردية بالضلوع في تفجير العاصمة أنقرة الذي وقع في فبراير ٢٠١٦.
ومن شأن انخراط تركيا أكثر في الصراع السوري الذي تقوده روسيا التي تُقصي القوى الأوروبية والولايات المتحدة، إضعاف الشراكة التركية-الأوروبية التي يشكل الملف السوري معاملا لاختبار صلابتها. وبالرغم من أن أنقرة ودول الاتحاد الأوروبي المنخرطة في الصراع قد راكموا خبرات في مجال التنسيق الأمني خلال السنوات الماضية، إلا أن التعاون في ملف مكافحة الإرهاب الذي يشكل إحدى الركائز الهامة لهذه الشراكة قد يضعف؛ لتضغط أنقرة على شركائها الغربيين من خلال هذا الملف.
التجارة والطاقة تحافظ على الشراكة
يُمثل التعاون الاقتصادي أحد الجوانب الهامة للعلاقة الاستراتيجية بين أنقرة ودول الاتحاد الأوروبي. وبينما يُؤثر التصعيد الأخير بين أنقرة وبروكسل على العلاقات الاقتصادية بين تركيا والاتحاد، فإن العلاقات التجارية التي تتسم بالاعتمادية ((Interdependency تظل أحد العوامل القوية التي تُسهم في استمرار الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين، ولكن هذا لا يمنع من تأثرها أيضًا على خلفية الخلافات التركية-الأوروبية.
في عام ٢٠١٥، كانت تركيا سابع أكبر مستورد للسلع التي تنتجها دول الاتحاد الأوروبي وخامس أكبر سوق لصادراتها ليصل حجم التبادل السلعي إلى ١٤٠ مليار يورو تقريبًا. وعلى المستوى الدولي، يمنح اتباع أنقرة معايير وقوانين المنظمة الأوروبية في الإنتاج الزراعي والصناعي منتجاتها شهادة ثقة تمكِّنها من الولوج إلى الأسواق العالمية.
حجم التبادل التجاري (السلعي) بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي (٢٠١٢ – ٢٠١٥) بمليار يورو
المصدر: تم تجميع تلك البيانات بمعرفة الباحث من موقع المفوضية الأوروبية
أولا- الاستثمار والتمويل: تقدم البنوك الأوروبية جزءًا كبيرًا من التمويل اللازم لمشروعات البنية التحتية، والصحة، والتصنيع في تركيا. ويأتي ما يتراوح بين 70% إلى 75% من الاستثمار الأجنبي المباشر الذي تحققه تركيا من الاتحاد الأوروبي. ولكن بسبب عوامل عدم الاستقرار الأمني على المستوى المحلي، هناك مؤشرات تدل على تراجع كبير في حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا في الأشهر التسعة الأولى من عام ٢٠١٦ خلافًا لعام 2015، وهو ما تلعب الاستثمارات الأوروبية دورًا فيه. وربما ستكون هناك تأثيرات طويلة المدى لتجميد مفاوضات الانضمام بين تركيا والاتحاد الأوروبي على تدفق رؤوس الأموال الأوروبية إلى تركيا. ولكن في المقابل، ستعمل تركيا من خلال دبلوماسيتها الاقتصادية على تنويع مصادر رؤوس الأموال الأجنبية، لا سيما بالتوجه شرقًا إلى منطقة شرق آسيا، خاصة الصين ودول مجلس التعاون الخليجي.
ثانيًا- تأمين الغاز الطبيعي: تسعى تركيا منذ أكثر من عقد للتحول إلى ممر إقليمي للطاقة يهدف إلى نقل الغاز الطبيعي من جنوب القوقاز (أذربيجان) وروسيا والشرق الأوسط (إيران، كردستان العراق، إسرائيل) إلى الاتحاد الأوروبي، ومن المرتقب أن تلعب تركيا دورًا حيويًّا في أجندة الاتحاد الأوروبي التي تهدف إلى تنويع مصادر واردات الغاز الطبيعي، إذ من المتوقع أن تُسهم أذربيجان (شريك تركيا الاستراتيجي) في تنويع واردات الغاز الأوروبية بإنشاء خطي أنابيب تاناب ((TANAP وتاب ((TAP اللذين سيربطان بين جنوب القوقاز وجنوب شرق أوروبا وصولا إلى إيطاليا من خلال تركيا. ومن المخطط أن يبدأ الأنبوبان في ضخ الغاز الطبيعي إلى أوروبا بداية من يونيو ٢٠١٩.
وبعودة العلاقات بين أنقرة وموسكو، صعد مشروع السيل التركي ((Turk Stream من جديد كأحد المشروعات التي ستمكِّن تركيا من تعزيز موقعها على حساب أوكرانيا كممر للغاز الطبيعي إلى شرق ووسط أوروبا. فقد ظهر مشروع السيل التركي ليخلف مشروع أنبوب السيل الجنوبي (South Stream) الذي كان من المخطط أن يصل إلى بلغاريا عبر البحر الأسود. فبضغط من المفوضية الأوروبية لأسباب جيوسياسية عُطل مشروع السيل الجنوبي من جانب بلغاريا ليخلفه السيل التركي بعد أن طوت روسيا الصفحة الأخيرة للمشروع في ديسمبر ٢٠١٤. وقد وُقِّع على اتفاقية مشروع السيل التركي بين أنقرة وموسكو في أكتوبر ٢٠١٦. بالإضافة إلى أذربيجان وروسيا، تصعد إيران بعد التوقيع على الاتفاق النووي ورفع العقوبات الدولية كلاعب مهم من المتوقع أن يكتسب ثقلا في سياسات الغاز الأوروبية، بشكل ستستفيد أنقرة منه.
وعلى الرغم من حيوية موقع تركيا الجغرافي الذي يُؤهلها للتحول إلى ممر إقليمي لأنابيب الغاز الطبيعي المتجهة إلى أوروبا، بات الغاز الطبيعي المُسال الذي يُشحن أغلبه عبر البحر يُشكل تحديًا للدور التقليدي الذي تلعبه الأنابيب في نقل الغاز الطبيعي. ونتيجةً للتحول المستمر في نماذج تسعير الغاز المُسال من عقود طويلة المدى إلى البيع في الأسواق الفورية، باتت هناك مرونة أكبر تعطي دول الاتحاد الأوروبي قدرة أكبر على مواجهة الأزمات وتنويع مصادر وارداتها من الغاز في ظل تراجع حجم إنتاج الغاز الطبيعي داخل أوروبا.
الخاتمة
طالبت النمسا يوم الثلاثاء (١٣ ديسمبر ٢٠١٦) بتجميد محادثات الانضمام التي يُجريها الاتحاد الأوروبي مع تركيا في جلسة لبحث مستقبل المحادثات عقدت في بروكسل. وخلافًا لرغبة الدول الأعضاء في تعطيل المحادثات دون الإعلان عن ذلك رسميًّا، طالبت النمسا -بدعمٍ من بلغاريا وهولندا- بخطوات رسمية في هذا الشأن. في حين ترى دول أخرى كألمانيا وفرنسا أن الإقدام على مثل تلك الخطوة سيُعقِّد من التعاون مع تركيا في ملفات حيوية كملفي اللاجئين ومكافحة الإرهاب، كما ستُعطي لروسيا نفوذًا أكبر في منطقة الشرق الأوسط الكبير من خلال تحييد تركيا. وقد ظهر ذلك في المبادرة الثلاثية بين موسكو وطهران وأنقرة بشأن تسوية الأزمة السورية.
ولكن من جهة أخرى، يحاول الاتحاد الأوروبي تعزيز أواصر التعاون الاقتصادي مع تركيا كضامن لاستمرار الشراكة الاستراتيجية بين تركيا ودول الاتحاد؛ حيث تسعى المفوضية الأوروبية إلى تطوير الاتفاق الجمركي الذي يربط الطرفين. وفي ظل التراجع الذي يشهده أداء الاقتصاد التركي على خلفية عدم الاستقرار الأمني الذي تشهده البلاد، سيقوِّض استمرار تدهور العلاقات بين أنقرة وبروكسل من قدرة الأولى على جذب رؤوس أموال أوروبية. ولذا ستستمر تركيا في سعيها لتعزيز التعاون الاقتصادي، ولكن مع البحث عن شركاء استثماريين آخرين وتوسيع أسواق صادراتها.
وتدرك تركيا حاجتها لترميم شراكاتها الاستراتيجية مع جوارها الأوروبي وشركائها من حلف شمال الأطلنطي (الناتو) بالتوازي مع اشتباكها مع المشروع الروسي بالمنطقة الذي لا يزال في طور التشكل. كما تحاول تركيا -في الوقت الحالي- استكشاف ملامح السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الملف السوري. فقد صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه سيبحث مع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إنشاء منطقة حظر جوي في شمال سوريا. فبناء على شكل السياسة الأمريكية القادمة تجاه أوروبا وملفات منطقة الشرق الأوسط، ستتضح المساحات التي تستطيع فيها أنقرة المناورة مع بروكسل.
---------------------------------------------------------
(*) ينص الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في مارس ٢٠١٦ على مبدأ "واحد مقابل واحد"، والذي يعني استبدال كل لاجئ تتم إعادته من الجزر اليونانية إلى تركيا، بلاجئ آخر من تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وينص أيضًا الاتفاق على تقديم الاتحاد الأوروبي دعمًا ماليًّا إلى تركيا لمساعدتها في إعادة توطين اللاجئين.