نظم مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، يوم 11 أكتوبر 2022، حلقة نقاشية، استضاف خلالها الدكتور ويليام جريش، أستاذ العلاقات الدولية المشارك بجامعة ولونغونغ في دبي، وبحضور خبراء وباحثي المركز، للحديث عن التحولات السياسية والاقتصادية في القارة الأوروبية في ظل الصراعات الدولية الحالية والناجمة عن الحرب الروسية – الأوكرانية. وقد تطرق النقاش إلى أهم القضايا التي تواجه صانعي القرار في القارة الأوروبية في ظل تداعيات الحرب الحالية وأزمات الطاقة العالمية. وأشار جريش إلى النقاط الرئيسية التالية:
1- تقلبات الأجندة السياسية في أوروبا:
أصبح السياق معقداً للغاية بالنسبة للسياسة الأوروبية بسبب تداخل التحولات الجيوسياسية وتقلبات أسواق الطاقة. فمنذ سنوات قليلة، كانت قضية اللاجئين التي انفجرت مع الأزمة السورية هي الشاغل الأساسي والأولوية للسياسة الأوروبية، ولكن الاضطرابات التي سببها التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا قد أدت إلى تراجع هذه القضية وظهور تحديات أخرى أكثر مساساً بالأمن الأوروبي. ومن الضروري التأكيد على أن حقائق الوضع الأمني في أوروبا تكتنفها خطابات وسرديات حول أصول وأسباب الصراعات الحالية، وبالطبع تختلف حسب الأطراف المنخرطة.
2- الجذور التاريخية للاضطرابات الحالية:
على الباحثين والمحللين أن يتعقبوا جذور الاضطرابات الحالية كي يُعمقوا رؤيتهم المستقبلية، وما يحدث في أوروبا حالياً يمكن تعقب جذوره في ثلاثة تحولات كبرى، وهي كالتالي:
أ- تداعيات انهيار الاتحاد السوفييتي السابق في شرق أوروبا، والتي قزمت الدور الروسي في مواجهة الغرب، وهو ما يجعل الرئيس فلاديمير بوتين يريد استعادة المجال الحيوي للاتحاد السوفييتي، خاصةً مع إخفاق إدماج موسكو في النظام الأمني الغربي.
ب- علاقات الاتحاد الأوروبي مع روسيا في عهد بوتين، حيث كانت أوكرانيا مرشحة للانضمام للاتحاد الأوروبي، إلا أن الفكرة أصبحت مستبعدة بسبب التخوف من التماس مع أكثر نقطة حساسة للأمن القومي الروسي.
ج- التوترات الواقعة بين روسيا وأوكرانيا منذ عام 2014، والتي انتهت بضم روسيا شبه جزيرة القرم بشكل غير شرعي، ودعم الاتجاهات الانفصالية في شرق أوكرانيا، مما جعل الانجرار إلى حرب أوسع أمراً أكثر احتمالاً من ذي قبل، وهي أول حرب موسعة داخل أوروبا منذ عدة عقود.
3- تحولات بنيوية في أوروبا:
بالإضافة إلى التوترات الدائمة في شرق أوروبا، كانت هناك تحولات بنيوية أكثر عمقاً في القارة الأوروبية تمثلت فيما يلي:
أ- تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث لم تكن تداعيات هذا الحدث مقتصرة فقط على عضوية الاتحاد الأوروبي وإمكانية تكراره في دول أخرى، بل إن بريطانيا تعني الكثير للأمن الأوروبي بسبب قوة أسطولها البحري، والحاجة لتأمين بحر الشمال بالأسطول البريطاني، وقوة استخباراتها.
ب- صعود الشعبوية إلى السلطة في عدة دول، وهو الاتجاه الذي بدا مع صعود اليمين المتطرف وفوزه في انتخابات عدد من الدول الأوروبية، كما أنه أصبح أكثر وضوحاً مؤخراً مع استئثار فيكتور أوربان بالسلطة في المجر، ووصول التحالف الفاشي الجديد إلى الحكم في إيطاليا، وقبلها في السويد. وهذه الأحزاب لها توجهاتها المختلفة عن توجهات المؤسسات الأوروبية حيال موسكو، حيث تدعو إلى عدم الانخراط في حرب أوكرانيا، وتُفضل التفاهم مع بوتين.
ج- تداعيات جائحة كورونا، والتي عمّقت أزمة التباطؤ في الاقتصادات الأوروبية التي كانت على وشك التعافي، كما أنها خلقت مناخاً مناسباً للتيارات الشعبوية التي استغلت تداعيات الأزمة الاقتصادية. من ناحية أخرى، كشفت الجائحة عن الانقسام بين التوجهات الليبرالية التي ترفض ضبط المجال العام والحريات الشخصية لمكافحة الوباء، والتقليديين الذين يدعون إلى استعادة ضبط الدولة لهذا المجال.
د- تصاعد أزمة تغير المناخ، والتي أكدت أنه من دون اتخاذ القطاعات الاقتصادية المختلفة إجراءات أكثر صرامة في التعامل مع هذا التهديد، سيكون الجميع خاسراً بما في ذلك آليات الاقتصاد العالمي.
ه- الصراع بين ما هو وطني وأوروبي، حيث أدت الاضطرابات المتعاقبة إلى صعود التيارات المنادية بتحقيق المصالح الوطنية وعدم الالتفاف إلى مصالح الجماعة الأوروبية، وهو ما يعني تصاعد الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي كآلية إقليمية.
4- مبادرات لضمان مستقبل القارة:
على الرغم من هذه الاضطرابات، برزت على السطح مبادرات عديدة للحفاظ على مستقبل القارة الأوروبية، ومن أهمها مبادرة "الجماعة السياسية الأوروبية" التي طرحها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أعقاب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا. وتعمل هذه المبادرة كمنصة للحوار بين دول الاتحاد الأوروبي وجيرانها، خاصةً تركيا ودول البلقان وبريطانيا، وبالتالي فهي تهدف إلى تسهيل تبادل أوثق للأفكار بين دول الاتحاد وتلك التي ما زالت خارجه. وقد عُقد أول اجتماع لـ "الجماعة السياسية الأوروبية" مؤخراً في براغ بالتشيك، بهدف تنسيق الحوار السياسي حول مستقبل القارة، خاصةً في ملفات مثل مستقبل الطاقة. ومن المنتظر أن تُعقد قمة أخرى تضم هذه الجماعة في كيشيناو عاصمة مولودفا، وربما في بريطانيا.
وربما تعيد هذه المبادرة فكرة توسيع عضوية الاتحاد الأوروبي. وحالياً تركيا التي شاركت في القمة الأخيرة، لم تعد راغبة في عضوية الاتحاد كما يبدو في توجهات الرئيس رجب طيب أردوغان وأغلبية الشعب التركي تجاه القارة والاتحاد الأوروبي. أما دول البلقان فأصبحت الآن بؤرة أخرى للتوتر داخل القارة الأوروبية، لاسيما مع مطالبة الصرب مؤخراً بتعديل اتفاقية "دايتون" التي يعتبرونها مجحفة لهم تاريخياً. وعلى الأرجح، ستبقى سويسرا في موقعها المريح على الحياد.
5- أزمة الطاقة نقطة الضعف الأكبر:
تعود جذور أزمة الطاقة في أوروبا إلى تركيز أغلب الاستثمارات المالية في هذا القطاع باعتباره الأكثر ربحية لأصحاب الأسهم. وتبع ذلك زيادة الخطورة والانكشاف بسبب حقيقة أن النفط والغاز من الموارد غير المتجددة، ونموذج الأعمال السائد في هذا ربما يؤدي إلى استنزاف الموارد في نهاية الأمر. وأدت الحرب الأوكرانية الحالية إلى ارتفاع أسعار المواد الخام بنسبة 43% فقط في النصف الأول من عام 2022، وهو ما ترتب عليه ارتفاع معدلات التضخم بشكل مضاعف عما كانت عليه في مرحلة ما قبل وباء كوفيد-19.
وللتكيف مع أزمة الطاقة، اتجهت الدول الأوروبية لاتباع إجراءات لخفض تكاليف الكهرباء بنسبة 10% بحلول مارس 2023، مع تبني إجراءات أخرى وفقاً للأوضاع السياسية والاقتصادية لكل دولة. ومن ناحية ثانية، ثمة اتجاه للحد من أرباح الشركات المنتجة للكهرباء حتى تستطيع الشركات والأسر الاستفادة مما هو متاح. كذلك، تسعى الدول الأوروبية لوجود تضامن من الشركات العاملة في الطاقة الأحفورية لتوزيع الأعباء بشكل عادل بين المنتجين والمستهلكين.
6- مستقبل أوروبا في خطر:
من المؤكد أن الحرب في أوكرانيا مرتبطة بطبيعة النظام الحاكم في روسيا، حيث يرى الغرب أن هذه الحرب أداة لحفاظ بوتين على وجوده في السلطة. كذلك تحاول موسكو أن تقيم علاقات أقوى مع الأحزاب الشعبوية داخل القارة الأوروبية لإحداث شروخ داخل الموقف الأوروبي. وربما يكشف صعود اليمين المتطرف للحكم في إيطاليا بقيادة جورجيا ميلوني، عن تصاعد هذه التوجهات، حيث تحفظ الفاشيون في إيطاليا على اتخاذ موقف واضح من التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا.
وعلى الرغم من محاولة هذه الاتجاهات الحالية للإبقاء على مسافة بينها وبين الحكم الفاشي السابق في أوروبا خلال الثلاثينيات، فإنه على المستوى العملي لا يوجد اختلاف كبير بين الفاشيين القدامى والجدد. لذا يمكن القول إن ما هو على المحك في أوروبا هو أوضاعها الداخلية والمخاطر التي تحدق بالديمقراطية بسبب الاتجاهات الانقسامية التي يحدثها صعود أقصى اليمين الشعبوي.