تتجه دول العالم، لاسيما المتقدمة منها، منذ عدة سنوات إلى تطبيق ما يُعرف بسياسات "الحياد الكربوني"، وذلك تماشياً مع التزامات اتفاقية باريس للعمل المناخي لعام 2015، والخاصة بتعزيز جهود مكافحة التغير المناخي العالمي، وتقليص الانبعاثات الكربونية العالمية. ويطرح هذا التوجه عدة تساؤلات، ومنها ما يتعلق بمدى تأثر صناعة النفط بسياسات "الحياد الكربوني"، وكيفية مواكبة هذه التغيرات.
وفي هذا الإطار، نظم مركز "المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة"، حلقة نقاشية، استضاف خلالها الدكتور أنس الحجي، الخبير المتخصص في قطاع الطاقة والنفط، لمناقشة قضية "الحياد الكربوني" وتأثيراتها على صناعة النفط العالمية.
التحول إلى "الحياد الكربوني":
في البداية، أكد الدكتور أنس الحجي أن دول العالم، خاصة المتقدمة منها، تبنت 5 مسارات رئيسية في سبيل تحقيق "الحياد الكربوني" في المستقبل، ويمكن استعراضها على النحو التالي:
1- توليد الكهرباء باستخدام الطاقة المتجددة: يبرز هنا اتجاه الدول المتقدمة والنامية منذ عدة سنوات لتعزيز استخدام الطاقة الشمسية، والرياح، وغيرها، في مزيج لتوليد الكهرباء.
2- إطلاق برامج لتعزيز كفاءة الطاقة في الأنشطة الاقتصادية: هي برامج تعمل على توفير الطاقة المستخدمة في الأنشطة الاقتصادية على غرار النقل والبناء. وقطعت الدول المتقدمة شوطاً واسعاً في هذا المسار، على عكس الدول النامية التي تبدو خطواتها بطيئة للغاية في هذا المجال.
3- التوسع في السيارات الكهربائية والهيدروجينية: يشمل ذلك اتجاه حكومات العديد من الدول تدريجياً إلى إحلال المركبات الكهربائية محل السيارات العاملة بالبنزين والديزل.
4- استخدام الوقود الحيوي: ثمة توسع في استخدام الوقود الحيوي في محركات السيارات أو حتى بالقطاع الصناعي في العديد من دول العالم مثل البرازيل. وينقسم الوقود الحيوي إلى نوعين، هما الكتلة الحيوية وهناك خلاف حول تصنيفها ضمن مصادر الطاقة المتجددة، والزيوت الحيوية المستخرجة من المحاصيل الزراعية والمنتشر استخدامها في المناطق الاستوائية مثل ماليزيا وإندونيسيا.
5- التوسع في الوقود النظيف: شددت العديد من دول العالم على قواعد استخدام الوقود النظيف الخالي من الكبريت في قطاع النقل والصناعة، وذلك بالتوازي مع جهود المنظمات الدولية في هذا الصدد. فعلى سبيل المثال، أقرت المنظمة البحرية الدولية وجوب استخدام السفن لزيت الوقود الذي يحوي كمية كبريت تقل عن 0.5%.
محدودية التأثير:
قال الحجي إنه بالنظر إلى الوضع الراهن، سنجد أن الوقود الأحفوري لا يزال يحتل مكانة كبيرة في مزيج الطاقة لدى الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، مشيراً إلى أن اليابان تعتمد على الوقود الأحفوري بنسبة 88% في استهلاك الطاقة، والولايات المتحدة بنسبة 81%، وبريطانيا بنسبة 80%.
وأشار الحجي إلى أنه حتى بالنسبة لحالات خاصة، مثل البرازيل التي يقل اعتمادها على الوقود الأحفوري إلى نسبة 54%، أو فرنسا بنسبة 46%؛ فإن هذا الوضع لا يعود إلى التوسع في استخدام الطاقة الشمسية والرياح، وإنما للقدرات العالية للطاقة الكهرومائية والطاقة النووية، أو التوسع في استخدام الوقود الحيوي في هذه الدول. وأضاف الحجي: "إذا خضنا أكثر في التفاصيل، سنجد أن النفط لا يزال يشكل في المتوسط ما نسبته 35% من مزيج الطاقة في الدول المتقدمة".
ومن هذا المنطلق، أشار المتحدث في الحلقة النقاشية إلى أن تأثير سياسات "الحياد الكربوني" على الطلب العالمي للنفط لن يكون متماثلاً في المناطق الجغرافية أو القطاعات الاقتصادية كافة، موضحاً أن انخفاض طلب الدول النامية على النفط سيكون أقل عنه في الدول المتقدمة، فيما سيكون تأثيره جلياً بشكل أكبر في قطاع الكهرباء، مقارنة بالقطاعات الأخرى. وتابع أنه ليس مؤكداً أن حجم الطلب العالمي على النفط عند 100 مليون برميل يومياً قبل جائحة كورونا، سينخفض بشدة مع التوسع في تطبيق سياسات "الحياد الكربوني"، لافتاً في الوقت ذاته إلى أن هذه السياسات ستُضعف نمو الطلب العالمي على الخام.
واستعرض الحجي مجموعة من الاعتبارات التي ترجح وجود تأثير محدود نوعاً ما لسياسات "الحياد الكربوني" على الطلب العالمي للنفط حتى عام 2050، وأوجزها في التالي:
1- قلة الاعتماد على النفط في توليد الكهرباء بالدول الصناعية: لا يعد النفط منافساً للطاقة المتجددة في توليد الكهرباء بالدول الصناعية. وعادة ما يفاضل صانعو القرار هناك بين استخدام النفط والفحم أو الطاقة النووية لتشغيل المحطات الكهربائية؛ بالنظر إلى عنصر التكلفة التجارية. وحسب الإحصاءات، فإن نسبة الكهرباء المولدة من خلال النفط بالدول الصناعية ضئيلة للغاية، ولا تتجاوز 2% في غالبية الدول.
2- الحاجة إلى طاقة مستقرة يمكن التحكم بها: على الرغم من التوسع العالمي، لاسيما في الدول الأوروبية، في استخدام الطاقة المتجددة لتوليد الكهرباء، فإن هناك اعتبارات قد تجعل هذه الدول غير قادرة على التخلي تماماً عن الوقود الأحفوري، حيث تحتاج إلى تيار متدفق مستقر من إمدادات الطاقة، مثل الغاز والديزل، على عكس طاقة الرياح والشمسية، العُرضة للانقطاع بسبب العوامل المناخية.
وقد اتضح ذلك جلياً في عدد من الدول الأوروبية خلال الأشهر الماضية، حيث استعانت بالفحم والديزل لتوليد الكهرباء بعد أن تراجعت قدرات الرياح فيها.
وجدير بالذكر أن تبني أوروبا مصادر الطاقة الشمسية والرياح في توليد الكهرباء، تسبب في ارتفاع الأخيرة بشكل قياسي، على نحو فرض ضغوطاً على المستخدمين.
3- وجود طلب متصاعد على النفط: في الحقيقة فإن الطلب العالمي على الوقود الأحفوري، ومن ضمنه النفط، سيتزايد في المستقبل؛ نتيجة وجود مصادر جديدة للاستهلاك. فعلى سبيل المثال، يتنامى نشاط تعدين العملات الإلكترونية على المستوى العالمي، إلى جانب توسع مراكز البيانات العالمية، ما يعني أننا بحاجة دائماً لكميات إضافية من الطاقة لتلبية الطلب المتنامي. كما أن تصنيع عنفات الرياح أو السيارات الكهربائية بمكوناتها المختلفة، سيحتاج إلى إمدادات إضافية من منتجات البتروكيماويات المعتمدة على صناعة النفط بالأساس، أي أن هناك طلباً على النفط نتيجة التوسع في صناعات الطاقة النظيفة.
4- تفاوت تأثير السيارات الكهربائية: يبدو أن تأثير التوسع في السيارات الكهربائية في العالم على الطلب العالمي على النفط غير واضح المعالم؛ ويأتي ذلك نظراً لتفاوت تعريف السيارات الكهربائية بين منظمة وأخرى. وإن كان الأهم هنا، التأكيد على أن تأثير التوسع في السيارات الكهربائية على الطلب العالمي على النفط سيبقى محدوداً نوعاً ما، إذا أخذنا في الاعتبار احتياج الصناعة ذاتها إلى إمدادات جديدة من البتروكيماويات المعتمدة على النفط.
5- تعثر محتمل للسياسات الحكومية: تفترض المنظمات الدولية أن دول العالم قادرة على تنفيذ سياسات "الحياد الكربوني" بشكل مثالي، وهو ما سيتواكب معه، نظرياً، انخفاض بالغ في الطلب العالمي على النفط الخام. لكن هذه الفرضية غير صحيحة، فعادة ما تتعثر الحكومات في تطبيق سياستها بالكامل؛ لأسباب مختلفة سواء كانت سياسية أو اقتصادية.
استجابات متباينة:
أكد الحجي أن استجابة الدول المنتجة للنفط للسياسات العالمية لـ "الحياد الكربوني" جاءت متفاوتة وتشكلت في 4 مسارات رئيسية، وهي كالتالي:
1- تجاهل تام للسياسات البيئية، والمُضي في التركيز فقط على إنتاج النفط والغاز فقط، ومن دون الالتفات للتغيرات الطارئة على الساحة الدولية.
2- التمهيد للخروج من قطاع النفط، وإنتاج أقصى كميات ممكنة من الخام، وهو اتجاه من المحتمل أن تتبعه بعض الدول المنتجة للنفط.
3- مجابهة التحولات العالمية، حيث تسعى الدول والشركات لتقليل آثار السياسات الكربونية على مصالحها التجارية والاستثمارية، وذلك من خلال العمل الجماعي لتعزيز جاذبية أسعار النفط، أو حتى مواجهة التشريعات المضادة لصناعة النفط. وهذا ما حدث في الولايات المتحدة مؤخراً، عندما رفعت شركات نفط أمريكية دعاوى قضائية ضد قرار الرئيس الأمريكي المتعلقة بوقف عقود إيجار النفط والغاز الجديدة على الأراضي والمياه الفيدرالية.
4- التكيف الحذر، إذ تقوم الدول المنتجة للنفط والشركات بالتكيف مع التطورات على الساحة الدولية من خلال التوسع في صناعة البتروكيماويات، والتي ستعتمد عليها صناعة الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية في توفير أجزاء كبيرة من مكوناتها. كما يقوم بعضها باتباع سياسات منخفضة التكلفة لتقليل بصمة الكربون، مثل استخدام التقنيات الحديثة كاحتجاز الكربون أو حتى التخلص من أصول الوقود الأحفوري، والتي عادة ما يتم نقلها إلى دول أخرى مثل الصين.
في الختام، أكد المتحدث الرئيسي والمشاركون في الحلقة النقاشية أن اعتبارات انخفاض التكلفة أو تعزيز أمن الطاقة سيدفعان الدول المتقدمة أو النامية على حد سواء لتجنب التخلي التام عن الوقود الأحفوري، وذلك على الرغم مما أعلنته مؤخراً بتبني سياسات "الحياد الكربوني"، وهو ما سيحافظ على مستويات الطلب العالمي للخام مستقراً عند مستوى 100 مليون برميل يومياً أو قل من ذلك بقليل. ولكن أياً كانت التوقعات، سيكون على الدول المنتجة للنفط مواكبة التطورات المتعلقة بجهود مواجهة التغيرات المناخية من خلال التوسع في استخدام تقنيات تقليل البصمة الكربونية لصناعة النفط والبتروكيماويات على غرار تقنية احتجاز الكربون وتخزينه.