أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

إشكالية الطاقة الفائضة:

لماذا تثير الصناعات النظيفة التوتر بين الصين والولايات المتحدة؟

14 أغسطس، 2024


تشهد الصين مؤخراً توسعاً عميقاً في إنتاج وتصدير العديد من السلع المرتبطة بالقطاعات الصناعية عالية القيمة المُضافة كالألواح الشمسية وتوربينات الرياح وبطاريات الليثيوم السيارات الكهربائية. والأمر يتماشى مع مساعي بكين لإرساء نموذج جديد للنمو الاقتصادي يقوم على دعم جانب العرض والقدرة التصديرية للبلاد، بيد أن ذلك يفرض إشكاليات دولية تتعلق بما يسمى "الطاقة الإنتاجية الفائضة" للصين. أثار هذا الأمر قلقاً عالمياً متزايداً، وقد تحدثت وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين عنه مراراً وتكرراً، معتبرة أن الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى الصين تشكل تهديداً جدياً للاقتصاد العالمي والأمريكي معاً. وقد تضع تلك الإشكالية بكين على خط المواجهة مع القوى العالمية الكبرى خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لفترة طويلة. 

اصطلاح الطاقة الفائضة:

عادة ما يشير اصطلاح الطاقة الإنتاجية الفائضة إلى الوضع الذي تتجاوز فيه القدرة الإنتاجية لصناعة ما الطلب على منتجاتها بشكل كبير، مما يؤدي إلى حدوث فائض ملحوظ في العرض، ناجماً عنه انخفاضاً حاداً في الأسعار. بمعنى آخر، تعرف الطاقة الفائضة بأنها الحالة التي تنتج فيها الصناعة أو المصنع أكثر مما يمكنه بيعه. ويربط هذا التعريف بين الطاقة الفائضة واختلال التوازن بين العرض والطلب.

وتظهر مشكلة الطاقة الإنتاجية الفائضة على الساحة الدولية، عندما تبدأ دولة ما بزيادة صادراتها لمستوى يمكن عنده مزاحمة مبيعات الصناعات المماثلة بالأسواق الأخرى، مع إلحاق أضرار كبيرة بها، ويؤثر ذلك سلباً على التنمية الصناعية بالأسواق المنافسة، ما يُطلق عليه "الطاقة الفائضة الإشكالية".

لا ينطبق الاصطلاح السابق إلا مع توافر شروط عدة، من بينها انخفاض أسعار المنتجات الصناعية، وتراجع معدل استخدام القدرة الصناعية (والتي تشير إلى نسبة الإنتاج الفعلي إلى القدرة الإنتاجية) بالأسواق المنافسة. وعادة ما يوصف معدل استخدام القدرة بنسبة 80% في بعض الأحيان بأنه المستوى المثالي، حيث تكون المستويات الأعلى غير مستدامة والمستويات المنخفضة إهداراً للقدرة. 

الخصوصية الصينية:

إن قضية الطاقة الإنتاجية الفائضة في الصين ليست بالمشكلة الطارئة، إذ برزت قبل عشر سنوات، عندما شهدت الصين زخماً كبيراً في إنتاج الصناعات المغذية للبناء قبل عام 2014، وذلك بعد سنوات قليلة من إطلاق الحكومة الصينية حزمة تحفيز لدعم قطاعات البنية التحتية والعقارات، مما ساعد على بناء قدرات كبيرة لمجموعة الصناعات المرتبطة بها. 

ولكن مع ضعف قطاع الإنشاءات بالصين في عام 2014 وبعده، واجه السوق الصيني طاقة فائضة كبيرة في المنتجات الصناعية الثقيلة مثل الصلب والألومنيوم، تلا ذلك زيادة الصادرات الصينية من تلك المنتجات للأسواق الغربية، بهدف تصريف الإنتاج المحلي الزائد. في خضم ذلك، أجرى الاتحاد الأوروبي تحقيقات بشأن إغراق الصلب الصيني للأسواق الأوروبية في عام 2016. 


تجدد ظهور إشكالية الطاقة الإنتاجية الفائضة للصين، مع تركيز السياسة الصناعية حديثاً على تنمية القطاعات الاستراتيجية ذات القيمة المضافة العالية، كالألواح الشمسية، والمركبات الكهربائية، وبطاريات الليثيوم. علماً بأن الصين تلبي نحو 80% من الاحتياجات العالمية من هذه السلع في الوقت الحاضر، بحسب تقديرات "أوكسفورد إيكونوميكس".

سياسة صناعية جديدة:

ركزت السياسة الصناعية الجديدة للصين على تطوير الصناعات ذات القيمة المُضافة العالية كالطاقة المتجددة والنقل الكهربائي والرقائق الإلكترونية، ذلك في محاولة من بكين لبناء نموذج جديد للنمو الاقتصادي يقوم على زيادة الطاقة التصديرية لأقصاها، ولكن ما يصطدم في الوقت نفسه مع طموحات الدول الغربية للسيطرة على سلاسل الإمداد لتلك الأنشطة الاقتصادية. 

لدعم إنتاجية الصناعات السابقة، قدمت الحكومة الصينية بالسنوات الأخيرة حزمة سخية من الحوافز والتسهيلات الائتمانية لتشجيع الشركات والمصانع المحلية على رفع كفاءة إنتاجيتها. على سبيل المثال، ارتفعت القروض الممنوحة من البنوك الصينية الأربعة الكبرى المملوكة للدولة بنسبة 25% في عام 2023 لتصل إلى 1.2 تريليون دولار، مستهدفة بشكل أساسي قطاعات استراتيجية مثل التكنولوجيا والطاقة النظيفة.

مع حزمة الحوافز الحكومية السخية، ارتفعت صادرات الصين من الألواح الشمسية، والمركبات الكهربائية، وبطاريات الليثيوم المعروفة بـــ (المنتجات الثلاثة الجديدة) بنسبة 29.9% على أساس سنوي لتصل إلى 1.06 تريليون يوان عام 2023. وإذا ما تجاوزنا منطق الأرقام المطلقة، فمن زاوية نسبية، قد تمكنت الصين من السيطرة سلاسل الإمداد العالمية لمعظم لتلك المنتجات، بنسبة وصلت 80% من الطاقة الإنتاجية العالمية لوحدات الطاقة الشمسية.


حجج متبادلة: 

ظلت الطاقة الإنتاجية الفائضة الصين محل انتقادات متكررة من قبل الإدارة الأمريكية الراهنة، وقد تحدث جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية عن خطورة هذا الأمر في أكثر من مناسبة. تعتبر واشطن أن القدرة الإنتاجية الفائقة للصين لا تهدد الاقتصاد الأمريكي فبحسب وإنما العالمي أيضاً، لذا ليس مستغرباً أن تتعهد يلين، كما صرحت في شهر يوليو الماضي، بمواصلة الضغوط على بكين لتعديل سياستها الإنتاجية.

وتعكس الانتقادات الأمريكية الموجهة لبكين مخاوف واشنطن من أن تؤدي السياسة الإنتاجية الصينية إلى إغراق الأسواق العالمية بمنتجاتها الرخيصة، ومن ثم إضعاف القدرة التنافسية للمصنعين الغربيين. بعبارة أخرى، تعمل الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى الصين على تقويض تنافسية الشركات الأمريكية والغربية بالأسواق الدولية، مما يمنع بالنهاية الدول الغربية من الحصول على حصتها العادلة في الإنتاج والتوظيف، مع استحواذ الصين على أكبر من حصتها العادلة في الأسواق العالمية.

في مواجهة الاتهامات السابقة، قدمت بكين حججاً مضادة مفادها أن هناك مبالغات غربية في تصوير القدرة الفائضة لدى الصين، معتبرة إياها في الوقت نفسه خدعة أمريكية لقمع الصناعات المميزة بالدول الأخرى. وتدافع بكين عن قدرتها الإنتاجية الفائضة انطلاقاً من أنها تتمتع بمزايا تنافسية ينبغي أن تستثمر فيها، ولا حرج في إنتاج وتصدير كميات تفوق الطلب المحلي، طالما ظل إجمالي المعروض من السلعة لا يفوق الطلب العالمي عليها. 

في الوقت نفسه، تؤكد الصين أن ارتفاع الإنتاجية الصينية مرده وفورات الحجم والابتكار، وليس الإعانات الحكومية المقدمة للمصانع الصينية، كما يحاول الغرب الترويج للأمر. بل على النقيض، تقدم الدول الغربية نفسها وعلى رأسها الولايات المتحدة حوافز بمليارات الدولارات للصناعات النظيفة (كالإعفاءات الضريبية بموجب قانون خفض التضخم الأمريكي لعام 2022). 

مواجهة محتدمة:

حتى قبل أن تثير واشنطن إشكالية "الطاقة الإنتاجية الفائضة لدى الصين"، كانت الحكومة الصينية قد أقدمت على إعادة النظر بشأن بعض من الحوافز الضريبية والإعانات المالية المقدمة للعديد من الشركات الصينية بمختلف القطاعات. بيد أن ذلك لن يضع نهاية للانتقادات الأمريكية الموجهة لبكين، في حين لايزال من المستبعد أن تنهي بكين كافة الإعانات المقدمة للمصانع والشركات الصينية.


علاوة على السابق، تتمسك الصين، وفق تصريحات كبار مسؤوليها، بسياسة رفع كفاءتها الإنتاجية والتصديرية إلى أقصى حد، وهو الأمر الذي تعتبره ليس مفيداً فبحسب لاحتواء التضخم العالمي، وإنما لتعزيز الاستدامة البيئية وتسهيل انتقال الطاقة في كافة أنحاء العالم.

 في مواجهة الإصرار الصيني، قد لا تتوانى الولايات المتحدة وشركائها في اتخاذ إجراءات أكثر حمائية لمواجهة النفوذ التجاري الصيني، بما في ذلك فرض تعريفات جمركية إضافية على السلع الصينية. وقد قامت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالفعل بفرض رسوم على بعض السلع الصينية بالسنوات الأخيرة، وهو ما يسهم مجملاً في تصاعد الحمائية التجارية وتجزئة النظام التجاري العالمي. 

ومع احتدام المواجهة بين بكين وواشنطن بشأن قضية الطاقة الإنتاجية الفائضة، ربما تضطلع الحكومة الصينية بمناورة محدودة، في محاولة منها لتقليل الخسائر التجارية المترتبة على تشديد تقييد وصول سلعها للأسواق الغربية. وقد يتمثل ذلك في عرض الصين بناء شراكات جديدة لنقل جزء من سلاسل الإنتاج ومصانعها بالخارج، مما يساعد على خلق مزيد من فرص العمل، ونقل المعرفة والتكنولوجيا للأسواق الدولية والغربية، ولكن يبقى السؤال المطروح: هل ترحب الدول الغربية نفسها بمثل هذه الاستثمارات الصينية، في ظل تصاعد مخاوف الأولى من تهديد أمنها القومي بسبب الشراكة الاقتصادية مع الصين؟.