أخبار المركز
  • د. أمل عبدالله الهدابي تكتب: (اليوم الوطني الـ53 للإمارات.. الانطلاق للمستقبل بقوة الاتحاد)
  • معالي نبيل فهمي يكتب: (التحرك العربي ضد الفوضى في المنطقة.. ما العمل؟)
  • هالة الحفناوي تكتب: (ما مستقبل البشر في عالم ما بعد الإنسانية؟)
  • مركز المستقبل يصدر ثلاث دراسات حول مستقبل الإعلام في عصر الذكاء الاصطناعي
  • حلقة نقاشية لمركز المستقبل عن (اقتصاد العملات الإلكترونية)

استراتيجية البقاء:

كيف تفكر الجماعات الإرهابية في أفريقيا؟

24 سبتمبر، 2019


على الرغم من الضربات الموجعة التي تلقتها الجماعات الإرهابية العنيفة في إفريقيا طوال العقد المنصرم، إلا أن الإعلان عن هزيمة الإرهاب بالضربة القاضية لا تزال بعيدة المنال. وربما يدفعنا ذلك إلى محاولة فهم العوامل التي أسهمت في استمرار انتشار ثقافة العنف والتجنيد للحركات الإسلامية الجهادية في إفريقيا، ولا سيما مناطق بحيرة تشاد والقرن الإفريقي. صحيح أن ثمة مؤثرات تاريخية ترتبط بتطور الخطاب الإسلامي في العالم العربي ومنطقة جنوب شرق آسيا، مثل قضايا: "الجاهلية"، و"الحاكمية"، و"الفرقة الناجية"، بالإضافة إلى تحولات الواقع السياسي والاقتصادي في الشمال العربي الإفريقي تحديدًا، لكن العوامل المحلية الإفريقية تمثل الركيزة الأهم والأبرز في التفسير، وعليه فإن أسباب النزوع الراديكالي العنيف في إفريقيا ترتبط بقضايا: غياب الدولة الوطنية، وتفشي الفساد، والتهميش الاقتصادي والاجتماعي، وانتشار السخط العام بين جيل الشباب، والانقسام الفكري بين المدارس الإسلامية، وغيرها. ولعل ذلك التحليل يصطدم بحقيقة طبيعة "الإسلام الإفريقي" إن صح التعبير الذي يعد أكثر تسامحًا وقبولًا للآخر نظرًا لارتباطه الشديد بتقاليد الأخوة الصوفية مثل القادرية والتيجانية.

ومثّل إسلام الغرب الأفريقي ذي النزعة الروحانية الصوفية قد دائمًا حائط سد منيع ضد أفكار الغلو والتطرف، بيد أن عمليات الحداثة والتحولات السياسية التي شهدتها كثير من الدول الأفريقية في أعوام التسعينيات قد فتحت الباب واسعًا أمام مؤثرات فكرية وأيديولوجية مستوردة. عندئذ تسللت جماعات سلفية عديدة إلى داخل هذه الدول تحت اسم الإحياء الإسلامي، مما أدى إلى اصطدامها بكلٍّ من الفكر الصوفي السائد ومؤسسات الدولة "العلمانية" سواء بسواء. ولا شك أن هذا الانقسام الديني والأيديولوجي قد مثّل حاضنة خصبة لظهور التيارات الدينية المتشددة والعنيفة في منطقة الحزام الإسلامي الكبير في الساحل والغرب الإفريقي.

وفي ظل عولمة الظاهرة الجهادية العنيفة فقد أسهم كل من تنظيم "القاعدة" و"داعش" في توفير الدعم الأيديولوجي والمادي لجماعات إسلامية محلية في الفضاء الأفريقي. وطبقًا لمؤشر الإرهاب العالمي في نهاية عام 2018، ‏ُتعد كل من "حركة الشباب المجاهدين" وجماعة "بوكو حرام" ضمن المجموعات الإرهابية الأربع الأكثر دموية في العالم. وقد استطاعت هذه الجماعات الإرهابية تبني استراتيجيات براجماتية أكثر قدرة على البقاء من خلال الانخراط في شبكات الجريمة المنظمة، واستغلال الروابط مع السكان المحليين عبر علاقات النسب والتجارة تارة وعبر التهديد والقمع تارة أخرى. ولقد استفادت هذه التنظيمات الإرهابية يقينًا من غياب الدولة، وضعف نظم المراقبة على الحدود، بالإضافة إلى تنامي مشاعر السخط ضد الأنظمة الحاكمة بين السكان المحليين، فضلًا عن انتقائية استراتيجيات مكافحة الإرهاب الدولية، وتضارب مصالح الأطراف المشاركة فيها.

من الأيديولوجية إلى الإجرام: 

انطلاقًا من خبرة الأصولية الجهادية المتطرفة المطالبة بتحقيق مثاليتها الدينية من خلال دولة الخلافة في الواقع الإفريقي المأزوم، نستطيع أن نشير إلى مصادر ثلاثة تفضي ‏إلى العنف الديني:

أولها فكرة الخلاص من المجتمع الفاسد انطلاقًا من رؤية مثالية تذكرنا بأفكار "السهروردي" ‏في كتاباته عن "المظهر الأعظم" الذي يفسره المتصوفة بالإنسان الكامل. فالمشهد الأعظم أفضل من جميع الأكوان حتى من العرش والجنان. هناك دائمًا دعوة للخلاص ‏والخروج من هذا العالم، والطريف أن فكرة الخلاص تلك استخدمتها أدبيات جيش الرب للمقاومة في أوغندا ‏استنادًا إلى فهم معين للتقاليد المسيحية. الإنسان الكامل في الفكر العربي والإسلامي يوجد -في الأساس- من أجل المجتمع، فهو الذي يخلِّص المجتمع الإنساني من المفاسد والنقائص والشرور، ويسير به إلى الكمال، فيكون مجتمعًا مماثلًا بحق لمجتمع السماء. ولهذا فقد اعتبره "الفارابي" "العضو الرئيس" في مدينته الفاضلة، واعتبره "إخوان الصفا" -والفكر الشيعي عمومًا- أنه الإمام، ورأى فيه "ابن باجة" إنسانًا إلهيًّا.

أما المصدر الثاني للتطرف الديني فهو يتمثل في مفهوم الجماعة ‏المختارة، أو تلك التي تعتقد أنها ناجية، ولعل ذلك يبرر مظاهر عدم التسامح مع الجماعات الأخرى. فقد قامت "‏بوكو حرام" باغتيال أمير جوزا المسلم، وأحرقت عددًا من المساجد. ويتمثل المصدر الثالث في الهوس ‏بفكرة معينة، والتي تدفع إلى تطوير مبادئ دينية بديلة من أجل التبرير وإضفاء الشرعية. وعلى سبيل المثال فإن فكرة الخلافة وعدم موالاة الكفار كان لها دائمًا مكانة محورية في الفكر السياسي والديني السائد في غرب ‏إفريقيا منذ القرن التاسع عشر.‏

حاولت كل من "بوكو حرام" و"الشباب" بناء دولة الخلافة، وتطبيق الشريعة على الأقاليم التي تسيطر عليها. ففي منطقة حوض بحيرة تشاد، التي تضم الكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا، تعد القدرة على البقاء والسيطرة الاقتصادية مهمة ‏لفهم عقلية جماعات الإرهاب من خلال تكتيكاتها العسكرية أو أيديولوجيتها. إذ يعمل تنظيم الدولة الإسلامية في غرب إفريقيا‎ الذي يتزعمه "أبو مصعب البرناوي"‎، وهو فصيل من "‏بوكو حرام"، على كسب الدخل والتمويل من المجتمعات النائية في مقابل تقديم عدد من الخدمات والسلع العامة للمواطنين‎.‎ لقد أقامت "داعش" من خلال احتلالها عشرات القرى في بحيرة تشاد هياكل تشبه الدولة في مناطق الحكم المحلي شمال شرق نيجيريا. وطبقًا للسكان المحليين، تتحكم "داعش" في التجارة، وتفرض الضرائب وفقًا للشريعة الإسلامية، وتسهّل سبل المعيشة للمواطنين. أضف إلى ذلك تقوم بتوفير الخدمات، بما في ذلك الأمن، والمراحيض العامة، والعيادات، ومياه الشرب من خلال حفر الآبار. ‎كل ذلك يدفع إلى توفير حواضن اجتماعية وثقافية لجماعات الإرهاب في المنطقة.

والعجيب أن العمليات العسكرية الحكومية الهادفة للقضاء على مصادر تمويل "داعش" أدت إلى تعريض سبل عيش المدنيين للخطر. ‏وقد شجّع هذا المواطنين على إيجاد طرق مبتكرة للتحايل على القيود الحكومية، وذلك بمساعدة "داعش" بالطبع. يقوم الصيادون وتجار الأسماك ومربو الماشية في المناطق التي تسيطر عليها "داعش" بدفع الضرائب. وقد استطاعت "بوكو حرام" أن تقدم بديلًا أو متنفسًا لأولئك المحبطين من الحكومة النيجيرية. وبالفعل نجحت المجموعة في استغلال الظلم والانقسامات الدينية والاجتماعية والسياسية في إنشاء قاعدة دعم لها في شمال نيجيريا.

في المقابل، لجأت حركة "الشباب" بشكل متزايد، ولا سيما بعد الضربات الأمنية التي وجهت لها وفقدان السيطرة على كثيرٍ من أراضيها، إلى النشاط الإجرامي لتمويل أنشطتها. إن القاعدة الضريبية التي التزمت بالشريعة الإسلامية ونفذها الجناح الاستخباراتي للحركة تضاءلت كثيرًا بسبب فقدان الأراضي والجهد العالمي المكثف لتجفيف منابع تمويل الإرهاب. وقد بدأت حركة "الشباب" مؤخرًا في ابتزاز زعماء العشائر ورجال الأعمال، بما في ذلك المقيمون خارج منطقة "الشباب". وعلى الرغم من أن حركة "الشباب" فرضت منذ فترة طويلة ضرائب على الأراضي، وضرائب عينية على المزارعين الصوماليين ‏المفترض أنها تتوافق مع الشريعة الإسلامية؛ إلا أنها بدأت في الآونة الأخيرة في المطالبة بفرض ضرائب ثابتة دون مبرر شرعي. كانت الجماعة ‏-بشكل عام- تفرض ضريبة ربع العشر بنسبة 2.5٪ على المحاصيل، وضريبة ثابتة قدرها 50 دولارًا على كل هكتار من الأراضي. وفي حال رفض الالتزام بالدفع يتم ‏تهديد غير المتعاونين بالقتل وتدمير الممتلكات. وبعد تراجع تجارة الفحم التي تورطت فيها "الشباب" لجأت إلى استيراد السيارات المستعملة وتجارة الهيروين بعد تحويل طرق تهريب المخدرات عبر شرق إفريقيا.

البراجماتية ومستقبل الإرهاب:

لا شك أن هذا التطور في تفكير الجماعات الإرهابية يؤدي إلى خلاصات مهمة عند استشراف المستقبل. فاستراتيجيات البقاء لدى "الشباب المجاهدين" أدت إلى تراجع الأيديولوجيا كعامل محرك؛ إذ إن كثيرًا من أنشطة تمويل المنظمة الإرهابية اليوم ليس لها أساس يذكر في الشريعة الإسلامية أو الأيديولوجيا الجهادية. على سبيل المثال، تجارة الهيروين لا تتعارض فقط مع المعتقدات الإسلامية، بل تتطلب أيضًا التواصل مع غير المسلمين الذين تعتبرهم المنظمة من أهل الكفر. وينطبق هذا أيضًا على نزعتها الاستبدادية المتزايدة وبعد نظامها "الضريبي" عن مؤسساتها الإسلامية المزعومة.

ونحن -إذن- أمام تحول من نظام أيديولوجي جهادي قائم على الشريعة -كما يزعمون- إلى نظام قائم على عددٍ من الأنشطة الإجرامية العنيفة. وربما يدفع ذلك في سياق عملية التنافس والانقسام بين الحركات الجهادية العنيفة إلى خفوت الروح الجهادية لصالح الأنشطة الإجرامية التي تحافظ على بقاء واستمرار الجماعة، وفي المقابل يمكن التنبؤ بأن "داعش" سوف تستمر في إعطاء الأولوية لأنشطتها الجهادية العنيفة على الأقل في المدى القصير. وعليه، إذا استمر هذا الاتجاه البراجماتي على المدى الطويل، ولا سيما مع مزيد من الفعالية لاستراتيجيات مكافحة الإرهاب، فقد تتوارى الشخصية الجهادية لجماعات الإرهاب لتحل محلها تدريجيًّا الشخصية الإجرامية العنيفة وكفى. ولعل هذا التحول ينال من سرديات الخطاب الجهادي العنيف، وذلك لمصلحة الاقترابات الناعمة لمحاربة الإرهاب.