عقد مسؤولو الدفاع والخارجية لكل من الصين وإندونيسيا محادثات في 13 أغسطس 2024، وجاءت هذه المحادثات في سياق متشابك، فبالرغم من تقارب العلاقات بين الطرفين في الأعوام الماضية؛ فإن هناك عدداً من القضايا الخلافية، أهمها: ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وتزايد العجز التجاري لصالح الصين، وتخوفات إندونيسيا من احتمالية أن تطالها العقوبات الغربية على الصين بسبب تعاونهما المشترك.
تطرقت المحادثات إلى عدد من القضايا، منها قضية تايوان وبحر الصين الجنوبي؛ إذ أكدت إندونيسيا التزامها بمبدأ الصين الواحدة، وتمت الدعوة إلى إدارة النزاعات البحرية في بحر الصين الجنوبي سلمياً عبر المفاوضات، وتم الاتفاق على التمسك بالمبادئ الخمسة للتعايش السلمي، ودعم التعددية، وحماية بنية إقليمية مفتوحة وشاملة. إلا أن هناك عدداً من القيود التي قد تكون حاكمة في تطور العلاقات بين البلدين، أهمها كيفية تعاطي الحلفاء الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة مع هذا التقارب، بالإضافة إلى مدى نجاح الطرفين في اكتساب ثقة بعضهما بعضاً عبر ترجمة ما تم الاتفاق عليه لحقائق على الأرض، وبالأخص قضية ترسيم الحدود البحرية.
سياق متشابك:
تأتي هذه الجولة من الحوار الوزاري في ظل عدد من المحددات والعوامل، يمكن إيجازها على النحو التالي:
• محادثات سابقة: تأتي الجولة كجزء من مجموعة من الحوارات الثنائية التي بدأتها الصين مع العديد من الدول منذ 2023، كما سبق خلال العام الجاري أن أجرت محادثات أخرى مع إندونيسيا بشأن التعاون العسكري والدفاعي، ففي منتصف إبريل زار وزير الخارجية الصيني وانغ يي، جاكرتا للقاء الرئيس الإندونيسي حينها جوكو ويدودو، ووزيرة خارجيته ريتنو مارسودي، كما عقد اجتماعاً مغلقاً مع وزير الدفاع حينها -والرئيس الحالي- برابوو سوبيانتو، من أجل تعظيم التعاون في مجالات التدريب العسكري والصناعات العسكرية، كما أن أول زيارة خارجية للرئيس الإندونيسي بعد انتخابه كانت إلى الصين، والتقى خلالها بالرئيس شي جين بينغ، ورئيس الوزراء لي تشيانغ.
• توترات اقتصادية وسياسية كامنة: فبالرغم من تنامي التقارب في العلاقات الثنائية بين البلدين خاصة مع تولي الرئيس سوبيانتو زمام الحكم في إندونيسيا؛ فإن ثمة العديد من الملفات العالقة بينهما، وعلى رأسها العلاقات الاقتصادية، فثمة شراكات اقتصادية وتجارية باعتبار أن الصين هي الشريك التجاري الأكبر لإندونيسيا، إلا أن ذلك لم يمنع وجود بعض المخاوف منها على سبيل المثال، مسألة العجز التجاري؛ إذ بلغ العجز التجاري في يوليو 2024 نحو 1.7 مليار دولار لصالح الصين مقابل 635.7 مليون دولار في العام الماضي، كما أن الاستثمارات والديون الصينية يُنظر إليها باعتبارها تهديداً يستنزف موارد إندونيسيا ويقع بها في فخ الديون من خلال المشروعات الصينية الكبرى المنبثقة عن مبادرة الحزام والطريق، مثل خط السكك الحديدية؛ بل إن التقارب الاقتصادي يثير المخاوف بشأن إمكانية تضرر الاقتصاد الإندونيسي من الوقوع في الحروب التجارية الغربية، خاصة في ظل الدور الإندونيسي في صناعة السيارات الكهربائية الصينية عبر توفير النيكل لبكين.
أما على الصعيد السياسي والعسكري، فإن التوترات ببحر الصين الجنوبي تمثل مصدراً للتهديد المستمر للعلاقات الثنائية، فثمة نزاع على ترسيم الحدود البحرية فيما يتعلق بالمنطقة الاقتصادية الخالصة لإندونيسيا؛ مما دفع الأخيرة لاتخاذ العديد من الخطوات للتصدي لنمو الخطر الصيني المتمثل في التوسع في إنشاء القواعد العسكرية على جزر ناتونا (رياو) بالمناطق المتنازع عليها، إلا أنه على الصعيد الرسمي السياسي لم تتم بلورة ذلك الصراع علناً، مع وجود حرص على إدارته خلف الأبواب المغلقة قدر المستطاع بخلاف الحال في الخلافات البحرية بين الصين ودول أخرى بالإقليم.
• التقارب الإندونيسي مع الولايات المتحدة: بالرغم من المحادثات العسكرية التي تجريها إندونيسيا مع الصين، فإن ذلك لا يعني تحالفها معها واستعداءها للشريك الأمريكي؛ إذ أجريت ذات المحادثات الثنائية للمرة الأولى مع الولايات المتحدة في أكتوبر الماضي بواشنطن بين مسؤولي الدفاع والخارجية من البلدين، وخلصت تلك المحادثات لاعتزام التوجه للارتقاء بالعلاقات التعاونية إلى شراكة استراتيجية شاملة في العديد من القطاعات. وعقدا النية بشأن تعميق التعاون الدفاعي خاصة في مجالات الأمن البحري والطب العسكري وحفظ السلام والتعليم العسكري المهني والتدريبات العسكرية الثنائية والمتعددة الأطراف، فضلاً عن تعزيز آفاق التعاون الاقتصادي والمناخي الإقليمي.
• محدودية العلاقات العسكرية: إذ لم تكن آفاق التعاون العسكري الصيني الإندونيسي مزدهرة على مدار التاريخ؛ نظراً للتوترات البحرية بين الجانبين، فضلاً عن التعويل الإندونيسي على الغرب والولايات المتحدة لتأمين الأسلحة وتعزيز التدريب والتعليم العسكري، بما يجعل ذلك الإرث التاريخي بمثابة عائق يتطلب تذليله، وهو ما شرع فيه الطرفان بالفعل، إذ باتت إندونيسيا ضمن أكبر عشرة شركاء دبلوماسيين عسكريين للصين في الفترة من 2003 إلى 2016 وفقاً لتقديرات جامعة الدفاع الوطني الأمريكية في عام 2017، إلا أن ذلك التعاون لا يزال بحاجة للمزيد من التعزيز النوعي والكمي؛ إذ لا تحصل إندونيسيا سوى على الأسلحة والمعدات الثانوية من الصين، كما أنه خلال الفترة من عام 2003 إلى عام 2022، أجرت إندونيسيا 4 مناورات عسكرية مشتركة بين الطرفين، في مقابل أكثر من 100 مناورة مع الولايات المتحدة خلال الفترة ذاتها.
تفاصيل الحوار الوزاري ومخرجاته:
شهدت تلك الجولة من المحادثات الوزارية التطرق للعديد من الملفات، وانتهت للتوافق حول عدد من القضايا، ومن ثم، يمكن إيجاز أهم ملامح ومخرجات هذه الجولة فيما يلي:
• المشاركون في المحادثات: تمثل الوفد الصيني في نائب وزير الخارجية سون وي دونغ، ونائب مدير مكتب التعاون العسكري الدولي باللجنة العسكرية المركزية تشانغ باو تشون، أما على الجانب الإندونيسي، فقد شارك المدير العام لإدارة شؤون آسيا والمحيط الهادئ وإفريقيا بوزارة الخارجية عبدالقادر جيلاني، والأمين العام للمديرية العامة للاستراتيجية الدفاعية بوزارة الدفاع العميد أوكتاهيروي رامسي.
• أسباب الانعقاد: يأتي انعقاد تلك المحادثات استناداً إلى مخرجات مذكرة التفاهم التي تم إبرامها خلال زيارة الرئيس الإندونيسي السابق جوكو ويدودو إلى بكين في أكتوبر 2023.
• موضوعات النقاش: شهدت تلك الجولة بالأساس تبادل وجهات النظر بشكل العلاقات الثنائية وخاصة التعاون الاستراتيجي على الصعيدين الدبلوماسي والدفاعي، وقد أشاد الجانبان بتطور العلاقات مع تأكيد الاستعداد لتعزيز الاتصالات والتنسيق والتعاون السياسي والأمني الثنائي والثقة المتبادلة الودية؛ من أجل المضي قدماً نحو تعزيز آفاق المستقبل المشترك.
• الحوار حول المخاوف والقضايا الخلافية: تم التطرق لإشكالية قضية تايوان وبحر الصين الجنوبي، وأكدت إندونيسيا التزامها بمبدأ الصين الواحدة، وتمت الدعوة إلى إدارة النزاعات البحرية في بحر الصين الجنوبي سلمياً عبر المفاوضات، وتم الاتفاق على التمسك بالمبادئ الخمسة للتعايش السلمي، ودعم التعددية، وحماية بنية إقليمية مفتوحة وشاملة، مع تعزيز الحوكمة العالمية، من أجل المساهمة في السلام والاستقرار والتعاون والتنمية على المستويين الإقليمي والعالمي.
كما تم التطرق لمشروع خط السكك الحديدية فائق السرعة، وتم التوافق على جعله نموذجاً للتعاون في إطار مبادرة الحزام والطريق، على نحو يمهد السبيل أمام المضي قدماً في مشروعات أخرى مثل الممر الاقتصادي الإقليمي الشامل، مع الاتفاق على توسيع التعاون في مجالات الاقتصاد الرقمي والتنمية الخضراء وتحسين مستويات المعيشة ومكافحة الفقر وكذلك التعاون البحري.
• القضايا والصراعات الدولية: إذ تباحث الجانبان بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعدد من القضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك، فقد أعربت إندونيسيا عن تقديرها لجهود الصين الرامية نحو تحقيق المصالحة ووحدة الشعب الفلسطيني، معربة عن استعدادها للتعاون من أجل تنفيذ إعلان بكين.
وتم تأكيد تأييد رؤية الأمن المشترك والشامل، وأبدت الصين استعدادها للعمل مع إندونيسيا لتعزيز الحوار والاتصالات والتنسيق والتعاون بشأن تنفيذ المبادرات الثلاث الكبرى المقترحة من قبل الصين (مبادرة التنمية العالمية ومبادرة الأمن العالمي ومبادرة الحضارة العالمية).
• التطلع لتعميق آفاق التعاون المستقبلي: إذ ارتأى الجانبان أن المحادثات الراهنة هي بمثابة فصل جديد في الشراكة الشاملة بين البلدين، وهي خطوة تحضيرية للاجتماع التالي في العام المقبل، وتم الاتفاق على التعاون من أجل تنمية قدرات الدبلوماسيين والتدريب العسكري المشترك، مع التعاون من أجل تعزيز الأمن والاستقرار الإقليميين، ومكافحة الإرهاب، ومعالجة الجرائم العابرة للحدود.
الدلالات والتداعيات المحتملة:
يمكن في هذا الصدد الإشارة لبعض الدلالات التي تحملها تلك الجولة -بخلاف تأكيد التفاهم والعلاقات الإيجابية- من المحادثات الوزارية ومخرجاتها؛ وهو ما يمكن إيجازه على النحو الآتي:
• تأمين المصالح الإندونيسية ضد التحركات الإقليمية الأخرى: وذلك من خلال التخوف الإندونيسي من التدهور الأمني ببحر الصين الجنوبي، خاصة من قبل الفلبين، في ظل تقارب الأخيرة مع الولايات المتحدة على نحو قد يُنظر إليه بأنه تهديد لوحدة رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان"؛ فذلك الاستقطاب قد يجبرها هي ودولاً أخرى على الوقوع في شرك التنافس بين القوى الدولية المتكالبة على الإقليم؛ وهو ما تسعى جاكرتا لتجنبه.
• فتح المزيد من الآفاق للتفاهمات الإقليمية: إذ تشير بعض التقديرات الصينية إلى أن ذلك الحوار الثنائي قد يمثل نموذجاً لدول الإقليم ممن لديها علاقات متوترة وخلافات مع الصين، على نحو من شأنه تخفيف حدة المخاطر في بحر الصين الجنوبي، وحلحلة الخلافات بالسبل السلمية، مع تعزيز الثقة المتبادلة، فضلاً عن أن من ضمن مخرجات المحادثات تأكيد أهمية الأطر الإقليمية مثل "آسيان"، على نحو يحفز التعويل على تلك الأطر التعاونية لخفض مخاطر التوترات الإقليمية المتأججة.
• المرونة البراغماتية وعدم الانحياز: تشير هذه المحادثات إلى اتساع قدرة الفاعلين بالمنطقة على التحلي بالمرونة، واتخاذ مواقف محايدة بين الأطراف المتنافسة؛ إذ لم يمنع دخول إندونيسيا في هذا الحوار الاستراتيجي مع الصين من أن تستعد للمشاركة في التدريبات العسكرية المشتركة (مناورات درع سوبر جارودا) بقيادة الولايات المتحدة خلال الفترة من 26 أغسطس الجاري إلى 5 سبتمبر؛ بما يمثل تأكيداً لموقفها المحايد بشأن التنافس الإقليمي بين الولايات المتحدة والصين.
• قيود محتملة: فبالرغم من التطلع الإندونيسي نحو تعميق آفاق التعاون العسكري الثنائي والارتقاء به، ومع استعداد الجيش الإندونيسي لإجراء تدريبات مشتركة مع الصين قد تبدأ العام المقبل؛ فإن ثمة عدداً من القيود التي قد تحد من آفاق ذلك التعاون، فإذا توسعت آفاق التنسيق والتعاون لمجالات العمليات القتالية والتشغيل البيني فقد يثير ذلك حفيظة الحلفاء العسكريين التقليديين لإندونيسيا، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، بل قد تجد إندونيسيا ذاتها إزاء خطر إمكانية تعرضها لتقييد وصولها لإمدادات الأسلحة المتقدمة من الحلفاء التقليديين مثل: كوريا الجنوبية وفرنسا واليابان.
هذا فضلاً عن القيود المتعلقة بإشكالية الثقة واستمرارية التوترات والنزاع البحري الكامن بين البلدين، والذي قد يتأجج ليصبح نقطة انطلاق لصراع جيوسياسي أوسع في ظل استمرارية النهج الصيني في إقليم بحر الصين الجنوبي عموماً، وهو ما تزيد معه المخاوف على نحو يحول دون تعميق التنسيق المعلوماتي والاستخباراتي بما قد يمتد أثره السلبي للتعاون في مجالات الأمن غير التقليدي المنشودة.
• التعاطي الأمريكي مع تحركات الصين: إذ إن التقديرات الأمريكية للتحركات الدبلوماسية الصينية ينظر إليها بأنها بمثابة مساعٍ لتعميق الاستقطاب الإقليمي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ على غرار الحرب الباردة، من خلال السعي لتأسيس نظام إقليمي تهيمن عليه الصين؛ وهو ما ترفضه الأخيرة، والتي تنظر لتحركاتها بأنها على عكس التُّهم الأمريكية؛ فهي تسعى لدعم السلم والاستقرار الإقليميين من خلال تحركات دبلوماسية تستهدف نزع فتيل النزاعات والتوترات؛ بل إن الصين ترى أن التحركات الأمريكية ومساعيها نحو إحكام هيمنتها هي التي تسهم في تأجيج التوترات والاستقطاب والصراعات عالمياً.
وفي التقدير، يُعد نهج إندونيسيا في محاولة التوفيق البراغماتي بين مصالحها مع الحليف الأمريكي والشريك الصيني؛ بمثابة امتداد لتحركات أغلب القوى الإقليمية بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ، التي باتت بؤرة الاستقطاب والتنافس الدولي، فصارت تحالفات تلك القوى مرنة وتحمل قدراً من التناقض، وإن كان التطلع الإندونيسي نحو الانتقال من التعاون والشراكة التجارية والاقتصادية مع الصين للمجالات العسكرية؛ يظل محفوفاً بالمخاطر وعليه الكثير من القيود التي من شأنها أن تحد الآفاق المستقبلية لذلك التعاون؛ خاصة لو بلغ مستويات تثير حفيظة الحلفاء العسكريين التقليديين لها، كما يبقى تعميق التعاون مرهوناً بنجاح التحركات الصينية في تعزيز الثقة لاكتساب المزيد من الشركاء الداعمين لسردية دورها الإقليمي في مواجهة الدور الأمريكي؛ وهو أمر يتوقف على مدى ما يمكن للمحادثات الثنائية أن تحققه بشأن حلحلة القضايا الخلافية العالقة، وفي مقدمتها ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والجزر المتنازع عليها بين الجانبين.