منذ أن صرح رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، بإطلاق مشروع "المشرق الجديد" في القمة الثلاثية التي عقدت في بغداد، التي جمعته مع الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، والملك الأردني، عبدالله الثاني، لقيت المبادرة اهتماماً واسعاً من قِبل المتابعين والمهتمين السياسيين والاقتصاديين. وبين متفائل ومتشائم، ظهرت العديد من التحليلات والرؤى حول المشروع الذي يجمع كلاً من العراق ومصر الأردن، فهناك من أعطى للمشروع أكثر مما يحمله من أبعاد، وآخرون رأوا أنه لن يحقق من أهدافه الكثير بسبب التحديات التي تحيط به. وعلى الرغم من كثرة التحليلات حول الموضوع، مازالت التساؤلات تتصاعد حول مشروع "المشرق الجديد"، منها كيف تبلور هذا المشروع حتى تم الإعلان عنه؟، وما هو محتواه الاقتصادي؟، وما الأبعاد السياسية التي جاء بها؟، وما المستقبل الذي ينتظره؟
فكرة المشروع:
تعود فكرة إقامة تعاون ثلاثي بين العراق ومصر والأردن إلى عام 2019، ابتداءً من القمة التي جمعت رئيس الحكومة العراقية السابق، عادل عبدالمهدي، والرئيس السيسي، والملك عبدالله الثاني، التي عُقدت بالقاهرة في 25 مارس 2019، ثم تلاها لقاء ثان بين الرئيس المصري والملك الأردني والرئيس العراقي برهم صالح على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2019، والقمة الثانية عُقدت في عمّان في 25 أغسطس 2020 التي مثلت التأكيد على المضي في تحقيق التعاون بين البلدان الثلاثة.
وكان الاتجاه صوب مأسسة هذا التعاون من خلال إنشاء سكرتاريا دائمة للتنسيق حول ملفات التعاون بين أطرافه، وتتجلى مهمة هذه السكرتاريا في متابعة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين هذه البلدان بغية وضع التعاون حيز التطبيق الفعلي، وعدم اقتصاره على بيانات وخطب الزعماء، وكذلك من أجل تجاوز حالات إخفاق مشاريع التعاون السابقة التي طرحتها هذه الدول، ويكون مقر هذه السكرتاريا في كل دولة لمدة سنة ابتداءً من العاصمة الأردنية عمّان في سنتها الأولى.
بيد أن مصطلح "المشرق الجديد" قد أُطلق على لسان رئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي – لأول مرة - خلال زيارته الولايات المتحدة الأمريكية في أغسطس 2020، عندما ذكر في لقاء له مع صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية أن هناك مشروعاً استراتيجياً، يسعى إلى الدخول فيه، ويحمل اسم "المشرق الجديد"، وأوضح أنه: "مشروع اقتصادي على النسق الأوروبي، يجمع القاهرة ببغداد، وانضمت إليه عمّان، لتكوين تكتل إقليمي قادر على مواجهة التحديات". وأشار الكاظمي حينها إلى المشروع بأنه فكرة جديدة، تتوجه من خلالها العراق نحو مصر والأردن لبناء محور فاعل في المنطقة، يقوم على التعاون الاقتصادي والسياسي.
وجاءت قمة بغداد نهاية يونيو 2021، لتجمع بين الأطراف الثلاثة، وتتضمن الاتفاق على طرح مشروع "المشرق الجديد"، الأمر الذي أشار إليه الكاظمي بقوله: "طرحنا مبدأ أو مشروع المشرق الجديد للتعاون والتكامل الاقتصادي بين العراق ومصر والأردن". وأضاف أن: "الاقتصاد يقرب وجهات النظر لأنه يمثل مصالح الشعوب"، كما ذهب إلى أن المشروع هو "نواة لمشروع التكامل.. لوجود عناصر نجاح متوفرة مثل الجغرافيا والثروات، والعنصر الأهم هو العنصر البشري، ويمكن أن يكون هناك مشروع جديد نواته البلدان الثلاثة". ورأى الكاظمي أنه بالإمكان أن تنضم دول أخرى إلى المشروع، قائلاً: "نحن نبحث عن تأسيس وأهمية النواة أن تكون جاهزة وناجحة، والمستقبل سيفرض من يحب أن ينتمي ضمن الشروط والظروف الاقتصادية للبلدان، وأبوابنا مفتوحة للجميع ويهمنا مصالح واستقرار دول المنطقة التي تحيط بهذه الدول".
وبالفعل ناقشت قمة بغداد الثلاثية مشروع "المشرق الجديد" وبحثت سُبل بلورة وتجسيد المشروع على أرض الواقع عبر عقد اتفاقيات وتفاهمات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية والتعليمية، ناهيك عن التركيز على ملفات الطاقة والاستثمار، مثلما ركزت هذه القمة على أهمية تعزيز التعاون الثلاثي بين العراق والأردن ومصر والاستفادة من التواصل الجغرافي بين الدول الثلاث والسعي لتحقيق تكاملات اقتصادية فيما بينها، والتأكيد على أهمية استمرار التواصل وعقد الاجتماعات الدورية لتنسيق المواقف وتوثيق التعاون الثلاثي لتحقيق المصالح ولمواجهة التحديات المتمثلة في مكافحة الإرهاب والتطرف وتداعيات جائحة كورونا وغيرها.
فرص اقتصادية:
لا يجد المتابع أي صعوبة في استنتاج الطابع الاقتصادي لمشروع "المشرق الجديد"، الأمر الذي أكده المتحدث باسم الخارجية العراقية، أحمد الصحاف، في أحد تصريحاته عندما قال إن "المشروع يكرس لشراكات اقتصادية تستهدف العديد من القطاعات تحقيقاً لاستجابة فاعلة للمتطلبات الوطنية العراقية". وأضاف: "التنسيق الثلاثي هو تنسيق اقتصادي وليس موجه ضد طرف، ويأتي ضمن أهداف السياسة الخارجية العراقية لتحقيق شراكات اقتصادية متعددة".
ويرتكز هذا المشروع في الأساس على ربط العراق بثرواته وموارده النفطية الكبيرة، مع مصر بثقلها السكاني وخبراتها في العديد من المجالات وموقعها على البحرين المتوسط والأحمر، ومع الأردن بما تمتلكه من مزايا للنقل والموقع الجغرافي وما تمثله من حلقة ربط بين العراق ومصر، بحيث يركز المشروع على عناصر التكامل بين أطرافه الثلاث التي تتمثل في مصادر الطاقة والنقل والتبادل التجاري والاستثمار، والاستفادة من تجارب كل هذه الدول فيما بينها لاسيما في القطاعات الاقتصادية وتسهيل تدفق رأس المال وقطاع التكنولوجيا.
وفي هذا الإطار، اتفقت الدول الثلاث، بحسب البيان الختامي لقمة بغداد الأخيرة، على عدة مجالات، منها ضرورة تعزيز مشروع الربط الكهربائي وتبادل الطاقة الكهربائية بين الدول الثلاث، وربط شبكات نقل الغاز بين العراق ومصر عبر الأردن، وإنشاء خط البصرة - العقبة الخاص بنقل النفط الخام، والتعاون في مجال الطاقة المتجددة والبتروكيمياويات وبناء القدرات والخبرات، والتعاون في المجال الصناعي والزراعي واستكمال إنشاء شركة إقليمية لتسويق المنتجات الزراعية، والتعاون في مجال النقل العام وتسهيل إجراءات الحصول على تأشيرة المرور، وتوأمة الأكاديميات البحرية بين الدول الثلاث، وتوفير المناخ المناسب لدعم شركات القطاع الخاص لتنفيذ المشروعات في الدول الثلاث، فضلاً عن حصول الأردن على النفط بأسعار تفضيلية يقدمها العراق.
أبعاد سياسية:
على الرغم من أن الهدف المُعلن لمشروع "المشرق الجديد" هو التنسيق والتعاون الاقتصادي بين الدول الثلاث، فإن الواقع يشير إلى وجود أبعاد سياسية عديدة يدل عليها هذا المشروع وما يمكن أن يحققه من أهداف ومصالح أخرى، إذ إن توجه العراق لإيجاد صيغة تعاون مع الدول العربية مثل مصر والأردن ودول الخليج يُشكل بحد ذاته خطوة نحو العودة إلى القاطرة العربية بعد أن كانت العلاقات العراقية - الإيرانية قد رجحت كفتها مقابل العلاقات العربية - العراقية، حتى صارت إيران الدولة الإقليمية الأكثر تأثيراً وفاعلية في الساحة العراقية، على المستوى السياسي والاقتصادي وحتى الأمني. وقد يشكل مشروع "المشرق الجديد" خطوة باتجاه "إعادة التوازن" في مجال علاقات العراق العربية والإقليمية.
كما أن التنسيق بين العراق ومصر والأردن لم يتوقف عند التعاون الاقتصادي فحسب، بل حصل اتفاق في قمة بغداد على التعاون والتنسيق بشأن مستجدات وتطورات الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية وجهود مكافحة الإرهاب، مثلما توافقت كل من العراق ومصر والأردن على العمل العربي والتنسيق بشأن أحداث وقضايا المنطقة، لاسيما التركيز على الملف السوري واليمني.
فضلاً عن ذلك، فإن مشروع "المشرق الجديد" يحقق فرصة للعراق في تنويع علاقاته مع مختلف الدول العربية، مثلما يعطي فرصة لكل من مصر والأردن للانفتاح على العراق والاستفادة من موارده اقتصادياً.
كما يساهم وجود العراق في أي تفاهم أو اتفاق مع الدول العربية في تقليص النفوذ الإيراني داخل الساحة العراقية، ويدفع بالعراق إلى الحاضنة العربية وممارسة دور عربي أكبر مستقبلاً. ويمثل المشروع محاولة مشتركة بين أطرافه الثلاثة نحو توحيد الرؤى والمواقف إزاء الصراعات والتحديات السياسية الإقليمية، بالشكل الذي يحافظ على سيادة البلدان ووحدتها والسعي لمعالجة التدخلات الإقليمية والدولية في شؤون دول المنطقة وشعوبها، ناهيك عن أن مشروع "المشرق الجديد" من الممكن، إذا كُتب له النجاح، أن يعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، كونه يربط المشرق العربي بشمال أفريقيا، ويؤدي إلى اكتشاف مساحات جديدة من التعاون والمصالح المشتركة، وإيجاد معادلة سياسية جديدة في المنطقة ترتكز على مبدأ "الاستثمار في الاستقرار" عبر توظيف إمكانيات الدول الثلاث من أجل نشر السلام والتعاون بين دول المنطقة.
نجاح مشروط:
يبقى نجاح مشروع "المشرق الجديد" مستقبلاً قائماً على تحقق العديد من شروط هذا النجاح، والتي تتمثل في الاستقرار السياسي والأمني في البلدان الثلاث، واستمرار وجود نخب سياسية في مراكز صُنع القرار العراقي تسعى إلى عودة العراق إلى الحاضنة العربية، وتعزيز العلاقات العراقية - العربية وتقبل الدول العربية للعراق في ظل أوضاعه الراهنة، وعدم ترك الساحة للتحرك والنفوذ الإيراني غير الراغب في الحضور العربي في العراق، لاسيما في ظل وجود دوافع عراقية سواء بتوجهات الحراك الشعبي في البلاد والرافض للتدخل الإيراني، أو وجود قوى وشخصيات عراقية ضاقت ذرعاً بالنفوذ الإيراني، ودوافع عربية وأمريكية تعمل على ربط العراق بالمنظومة الخليجية والعربية وتعزيز علاقاته معها، فضلاً عن توجهات الدول العربية لتعزيز سُبل التعاون مع العراق وتطوير علاقاته معها. ويشكل كل ذلك عوامل محفزة لتحقيق مشروع "المشرق الجديد" ونجاح أهدافه.
ولكن في المقابل، هناك العديد من المعوقات التي تؤثر سلباً على مشروع "المشرق الجديد" لاسيما في ظل وجود أزمات سياسية وأمنية يشهدها العراق، يُضاف إليها وجود قوى سياسية وأخرى عسكرية لها علاقات وثيقة مع إيران، وستعمل على إعاقة أي خطوات من شأنها إبعاد بغداد عن طهران لصالح علاقاتها مع الدول العربية، علاوة على أن إيران لا تناسبها عودة العراق إلى حاضنته العربية، وما يترتب عليها من تراجع في مكتسبات إيران التي حققتها في الساحة العراقية على المستويات كافة؛ السياسية والأمنية والاقتصادية. وعلى الجانب الآخر، لا يمكن تجاهل أن الانتخابات الوطنية في العراق أصبحت قريبة جداً، ومن الممكن أن يؤدي تغيير النخبة الحاكمة إلى إعادة النظر ليس فقط في "المشرق الجديد" بل وفي مجمل علاقات العراق بمحيطه العربي والإقليمي.