عرض: محمد محمود السيد - باحث في العلوم السياسية
مثلما ينشر فيروس "كورونا" المعاناة البشرية في كافة أنحاء العالم، فإنه ينشر كذلك المعاناة الاقتصادية، فهو ليس فيروسًا مُعديًا على المستوى الطبي فقط، ولكنه مُعدٍ اقتصاديًّا أيضًا. ففي 4 مارس 2020، قالت "المفوضية الأوروبية" إن إيطاليا وفرنسا معرضتان لخطر الانزلاق إلى الركود. وقال صندوق النقد الدولي إنه يرى أن الاقتصاد العالمي يتجه إلى مسارات "أكثر خطورة".
وهو الأمر الذي يطرح بدوره عدة أسئلة: كيف وإلى أي مدى وبأي سرعة سوف ينتشر الضرر الاقتصادي؟ وإلى متى سيستمر الضرر؟ وما هي آليات العدوى الاقتصادية؟ وفوق كل شيء، ما الذي يمكن للحكومات أن تفعله حيال ذلك؟
حاول عدد من خبراء الاقتصاد الإجابة عن تلك الأسئلة، واستكشاف مستقبل الاقتصاد العالمي في ظل انتشار فيروس كورونا، وذلك عبر أوراق بحثية وتقديرات جُمعت في كتاب إلكتروني، أصدره "مركز أبحاث السياسات الاقتصادية" بلندن، تحت عنوان: "الاقتصاد في زمن الكورونا". وقد حرره كل من "ريتشارد بالدوين" و"بيتريس ويدر دي ماورو"
أوقات غير عادية
مع مطلع العام الجديد، بدا الاقتصاد العالمي في طريقه إلى انتعاش جيد، وأنه لن يتأثر بشدة بتلك التوترات التجارية والسياسية التي كانت جارية حينئذ، فكانت الأسواق المالية منتعشة وتوقعات النمو متفائلة. كل هذا تحول بعد انتشار فيروس كورونا في معظم دول العالم.
تُسيطر حالة من عدم اليقين حول عمر الأزمة الاقتصادية الراهنة التي تسبّب فيها فيروس كورونا، فمن الواضح أن هذه الصدمة الاقتصادية يمكن أن تسبب آلامًا طويلة، وربما تترك ندوبًا عميقة أكبر بكثير من الأوبئة الأخرى التي كانت تظهر بعد الحروب الكبرى.
هذا الوباء مختلف من الناحية الاقتصادية، لأنه ضرب بشدة الدول الاقتصادية الكبرى، فالدول الأكثر تضررًا تشمل مجموعة السبعة G7، بالإضافة إلى الصين. ورغم تغير البيانات الطبية كل ساعة، إلا أنه اعتبارًا من 5 مارس 2020، كانت الدول العشر الأكثر تضررًا من فيروس كورونا مطابقة تقريبًا لقائمة أكبر عشرة اقتصادات في العالم (باستثناء إيران والهند). وتأتي الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا ضمن العشرة الأوائل الأكثر تأثرًا بالمرض.
ولكي نُدرك حجم الكارثة، وإذا أخذنا فقط الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، فسنجد أنهم يمثلون 60% من العرض والطلب العالميين (الناتج المحلي الإجمالي)، و65% من التصنيع العالمي، و41% من الصادرات الصناعية العالمية.
وبتعبير أحد المحللين الاقتصاديين، فإنه: "عندما تعطس هذه الاقتصادات، ستُصاب بقية دول العالم بالبرد"، فهذه الاقتصادات، خاصة الصين وكوريا واليابان وألمانيا والولايات المتحدة، هي جزء من سلاسل القيمة العالمية، لذا فإن أزماتها ستُنتج عدوى "سلسلة التوريد" في جميع الدول تقريبًا.
لذا، من المرجّح أن يتضرر قطاع التصنيع العالمي من ثلاثة جوانب:
أولًا- تعطل الإمدادات المباشرة سيعيق الإنتاج، حيث يركز الفيروس على قلب التصنيع في العالم (شرق آسيا) وينتشر بسرعة في الشركات الصناعية العملاقة الأخرى في الولايات المتحدة وألمانيا.
ثانيًا- ستؤدي العدوى في سلسلة التوريد إلى تضخيم صدمات التوريد المباشرة، حيث ستجد قطاعات التصنيع في الدول الأقل تأثرًا صعوبة أكبر وأكثر تكلفةً في الحصول على المدخلات الصناعية المستوردة من الدول المتضررة بشدة، ومن ثَمَّ من بعضها بعضًا.
ثالثًا- ستكون هناك اضطرابات في الطلب بسبب حالات الركود وانخفاض الاقتصاد الكلي، وبسبب حالة الترقب والتأخير في الشراء التي تُسيطر على المستهلكين والمستثمرين.
طبيعة الصدمات الاقتصادية
هناك مظاهر عدة للصدمات الاقتصادية التي يواجهها العالم حاليًّا بسبب هذا الوباء، ومن المرجح أن تستمر لأسابيع وشهور مقبلة. أول هذه الصدمات هي القائمة على معتقدات الناس، حيث إن حالة الذعر التي تنتشر بين الناس بسبب انتشار الفيروس، وعدم ثقتها في السياسات والقرارات الحكومية، قد يدفعهم إلى انتهاج ما يُعرف بـ"سلوك القطيع"، حيث تنتشر الفوضى، ويتكالب الناس على شراء المواد الاستهلاكية، وسحب أموالهم من البنوك، وهو ما قد يقود بعض الاقتصادات إلى كوارث مُحققة.
ويتمثل ثاني مظاهر الصدمة في انخفاض العرض وانكماش الإنتاجية، حيث أغلقت السلطات والشركات في العديد من الدول أماكن العمل والمدارس. فقد أمرت العديد من الشركات اليابانية الكبيرة موظفيها بالعمل من المنزل منذ أواخر فبراير، وهو الحال في معظم دول العالم. فمن منظور اقتصادي، فإن عمليات الإغلاق وحظر السفر تُقلل الإنتاجية بشكل مباشر، بطريقة تُشبه الانخفاض المؤقت في التوظيف.
ويتعلق ثالث مظاهر الصدمة بالمدى الزمني والمكاني للأزمة، حيث إن فيروس كورونا ليس أول صدمة إمداد يشهدها العالم، فهناك "الصدمات النفطية" في السبعينيات من القرن الماضي، وتسونامي تايلاند وزلزال اليابان عام 2011. ولكن كل هذه الصدمات والأزمة كان لها نطاق جغرافي مُحدد، دون توسع مادي، وكذلك إطار زمني بلغت خلاله الذروة ثم توقفت؛ إلا أن فيروس كورونا أثبت أنه غير قابل للسيطرة، فهو ينتشر في كافة بقاع العالم ليترك آثار الصدمة على معظم الاقتصادات، وكذلك ليس هناك إطارٌ زمني واضح من المحتمل أن ينتهي خلاله هذا الوباء.
وبالتالي، هناك حالة من عدم اليقين حول حجم الآثار الاقتصادية المحتمل وقوعها في كافة أنحاء العالم، وهو الأمر الذي قد يُولّد بدوره سياسات وردود فعل كارثية التأثير.
ويرتبط رابع مظاهر الصدمة بسلسلة التوريد، فاعتبارًا من أوائل مارس 2020، كان وباء كورونا متمركزًا في الصين، وكانت -بجانب اليابان وكوريا- أكثر الدول تضررًا. وبالنظر إلى مركزية هذه الدول في سلاسل التوريد العالمية في العديد من السلع المصنعة، يمكننا استكشاف آثار الوباء الحالي على سلاسل التوريد العالمي، وتلقي قطاع التصنيع صدمات قوية في آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية، خاصة في ظل التأثير الواضح للوباء على دول مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.
ويظهر خامس مظاهر الصدمة في جانب الطلب، والذي من المتوقع أن يتقلص بشكل كبير، حيث إن حظر التجوال وتقييد حركة المواطنين والسفر سيُقلل من حجم الطلب على السوق بنسبة ما، وذلك على مستوى المستهلكين. أمّا على مستوى المستثمرين، فستسود حالة من الحذر والترقب، التي ستمنعهم من ضخ أي أموال في مشروعات أو استثمارات جديدة.
قنوات العدوى الاقتصادية
يمكن اعتبار أن كافة التدفقات الاقتصادية عبر الحدود هي قنوات عدوى للمخاطر والكوارث الاقتصادية المرتبطة بانتشار فيروس كورونا، من بضائع، وخدمات، وأشخاص، ورأس مال، واستثمار أجنبي، ومصارف دولية.
على مستوى البنوك، يُرجِّح العديد من الخبراء أن القطاع المصرفي قد تعلّم من درس الأزمة المالية 2008، وأصبح من غير المُرجح أن يكون ناقلًا رئيسيًّا للعدوى، حيث أصبحت الاحتياطيات أعلى والنظام المصرفي بشكل عام أكثر أمانًا. ولكن تظل هناك مخاوف من تأثير الصدمات والتوقعات السلبية، التي قد تدفع المواطنين لحالة من الذعر في تعاملها مع البنوك. وكذلك قد تدفع حالة الركود بعض الشركات إلى الإفلاس والتخلف عن سداد القروض والأقساط للبنوك. وهو ما قد يتسبّب في أزمة حقيقية حال توسع نطاق تأثيره.
يتمثل الخطر الأكبر في القطاع المالي غير المصرفي، فالشركات هي الأكثر عرضة للخطر إذا تدهورت حالة الثقة والسيولة. ويتنبأ الخبراء بمشاكل مالية ضخمة، حيث يتعين على الشركات دفع الديون والأجور، ويتعين على الناس دفع أقساط الرهن العقاري أو دفع الإيجارات، وإذا تُركت وحدها دون مساعدات، فيمكن أن تكون هناك موجة ضخمة من الإفلاس التي قد تُؤدي إلى كارثة مالية.
ولكن أغلب المُحللين ركّزوا على انتقال عدوى إغلاق المصانع وكساد بعض الصناعات بين الدول، فالدول المنكوبة ستتقلص صادراتها بشكل كبير، وهو ما سيؤثر على القطاع الصناعي في دول أخرى تعتمد على الدول المنكوبة في إمداداتها الصناعية. وبنظرة أكثر تفصيلًا، سنجد أن الشركات الصناعية داخل الدول الثلاث الكبرى في شرق آسيا (الصين، وكوريا الجنوبية، واليابان) تزوّد الولايات المتحدة الأمريكية بأكثر من 25% من وارداتها الصناعية بشكل عام، وترتفع هذه النسبة لأكثر من 50% عند الحديث عن قطاع الكمبيوتر والإلكترونيات.
فعلى سبيل المثال، هناك مقاطعة في الصين تسمى "هوبي"، يُطلق عليها "وادي البصريات"، نظرًا لوجود العديد من الشركات التي تُصنّع مكونات الألياف البصرية هناك (وهي مدخلات أساسية لشبكات الاتصالات)، حيث يوجد في المقاطعة ما يقرب من ربع كابلات وأجهزة الألياف الضوئية في العالم. مقاطعة "هوبي" أيضًا موقع لمصانع تصنيع الرقائق الدقيقة المتقدمة للغاية، والتي تُصنّع منها رقائق الذاكرة المحمولة المستخدمة في الهواتف الذكية على سبيل المثال. ومن المتوقع أن انتشار الوباء في "هوبي" فقط، يمكن أن يُخفِّض 10% من الشحنات العالمية للهواتف الذكية.
إن قطاع السيارات، وخاصة في شرق آسيا، قد تعطل بالفعل بسبب التمزقات في سلاسل التوريد الدولية. على سبيل المثال، أجبر نقص الأجزاء القادمة من الصين شركة "هيونداي" الكورية لصناعة السيارات على إغلاق جميع مصانع السيارات في كوريا. كذلك أغلقت شركة "نيسان" اليابانية مصنعًا في اليابان مؤقتًا. وقد وصلت الصدمة إلى أوروبا، حيث حذّرت شركة Fiat-Chrysler من أنها قد تُوقِف قريبًا الإنتاج في أحد مصانعها الأوروبية.
ويتوقع الخبراء أنه في حال احتواء الوباء قريبًا، فسيتباطأ نمو الاقتصاد العالمي بنسبة 0.5% فقط خلال عام 2020، وسترتفع تلك النسبة إلى 1.5% في حالة السيناريو الأسوأ، وهو انتشار الوباء على نطاق أوسع في نصف الكرة الشمالي. حينئذ ستكون اليابان هي أكثر دول العالم تضررًا، حيث ستخسر حوالي 10% من الناتج المحلي الإجمالي لديها، تليها ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية بخسائر تبلغ حوالي 8%.
ردود فعل الحكومات
على الرغم من كل ما سبق من توقعات، إلا أن حجم الضرر الاقتصادي واستمراره سيتوقف بشكل أساسي على كيفية تعامل الحكومات مع هذا الوباء، حيث إن طبيعة الأزمة الحالية وانتشارها بين مختلف دول وقارات العالم، فرضت خلق روح تعاونية بين مختلف الحكومات في مواجهة الأزمة، وجعلت من الضروري حدوث عملية تنسيق رفيعة المستوى أثناء عملية صنع القرارات واتخاذها.
ويرى الخبراء أن هناك ثلاثة أطر رئيسية يجب أن تمثل عماد استجابة حكومات العالم للتداعيات الاقتصادية المحتملة لانتشار فيروس كورونا، والتي تتمثل في:
أولًا- أن تتخذ البنوك المركزية قراراتها المتعلقة بالسياسة النقدية بناءً على تنسيق وتعاون مشترك فيما بينها، بدلًا من القرارات المنفردة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، فإن خفض سعر الفائدة الطارئة من قبل الاحتياطي الفيدرالي لم يجعل الوضع أسهل للبنوك المركزية، التي وصلت بالفعل للحد الأدنى الفعّال. فيجب أن تشير جميع البنوك المركزية إلى أنها مستعدة للتدخلات المُنسّقة، وتوفير السيولة في حال حدوث خلل خطير يؤدي إلى الضغط على الوسطاء الماليين.
ثانيًا- نظرًا لطبيعة هذه الصدمة، قد تكون الشركات الصغيرة والمتوسطة من بين أكثر الشركات تعرضًا لأزمات السيولة، وبالتالي من المهم توفير التسهيلات لمواصلة إقراض تلك الشركات الصغيرة والمتوسطة.
ثالثًا- لا بد من اتخاذ قرارات اقتصادية تستهدف مساعدة الأشخاص المتضررين من الحجر الصحي ونقص الدخل، كما تم بالفعل في إيطاليا، سواء من خلال تقديم دعم مالي مباشر، أو في هيئة خدمات أساسية مجانية أو ذات أسعار مُخفّضة، وذلك لمنع الناس من الإفلاس.
وعلى المستوى الأوروبي، يقترح الخبراء رفع درجات التضامن والتنسيق بين الدول الأوروبية، مثل تبادل الأدوات الطبية، وفتح المستشفيات لاستقبال مرضى من دول أوروبية أخرى، وإعارة الممرضات والأطباء. وكذلك هناك دعوة لتوسيع "صندوق التضامن الأوروبي"، وهو الذي تم إنشاؤه عام 2002 لدعم الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في حالات الكوارث الكبيرة، حيث يمكن لهذا الصندوق التدخل لتوفير الإغاثة للمناطق المتضررة خلال الأزمة أو في المراحل التالية.
ويزعم الخبراء أن تحقيق هذا النمط من التعاون ربما يمنح قبلة الحياة للاتحاد الأوروبي مُجددًا، لتكون هذه الأزمة سببًا في تصحيح مسار سياسات القارة العجوز.
بيانات الكتاب
Richard Baldwin & Beatrice Weder di Mauro, "Economics in the time of COVID-19", London, Centre for Economic Policy Research, March 2020.