رغم أن إيران ما زالت مصرة على اتخاذ مزيد من الخطوات التصعيدية، على المستويات المختلفة، في تعاملها مع الإجراءات العقابية التي تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية واقتراب المواقف الأوروبية تدريجيًا من السياسة التي تتبناها واشنطن، إلا أن ذلك لا ينفي في الوقت نفسه أن اتجاهات عديدة في طهران تدعو إلى ضرورة البحث عن خيارات أخرى لاحتواء الأزمة الحالية ووقف التصعيد الذي قد يصل إلى مرحلة حرجة لا يمكن معها استشراف المسارات المحتملة التي قد يتجه إليها فيما بعد.
وفي هذا السياق، اتسع نطاق الجدل، داخل وخارج إيران، حول العرض الذي تقدم به وزير الخارجية محمد جواد ظريف، حسب صحيفة "الجارديان" البريطانية في 18 يوليو 2019، والذي تضمن قيام إيران بالتصديق على البروتوكول الإضافي الذي يتيح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية سبلاً أكثر للتأكد من سلمية البرنامج النووي الإيراني مقابل رفع العقوبات الأمريكية.
توافق ملحوظ:
اللافت في هذا السياق، هو أن هذا العرض قوبل برفض وتحفظ من جانب قوى دولية وأطراف داخلية إيرانية. فقد سارعت واشنطن إلى رفض العرض الذي تقدم به ظريف، مستندة في ذلك إلى أنها لن تقدم على دراسة أية عروض إلا إذا كانت مطروحة من جانب القيادة العليا في النظام الإيراني، ممثلة في المرشد الأعلى علي خامنئي، في إشارة إلى أن موقع ظريف داخل النظام لا يتيح له الانخراط في تفاهمات أو صفقات مع أطراف خارجية، إلا إذا حظى بموافقة خامنئي، وهو ما لا يبدو متاحًا في العرض الأخير.
كما انتقدت أطراف داخلية هذا العرض أيضًا، على نحو بدا جليًا في تصريحات النائب البارز في مجلس الشورى علي مطهري الذي قال أن ظريف كان يجب عليه العودة أولاً إلى مجلس الشورى الإسلامي (الذي يمتلك صلاحية التصديق على البروتوكول الإضافي) قبل أن يقدم مبادرة في هذا الشأن، خاصة أن البرلمان قد يكون له رأى آخر في تلك المسألة، في إشارة أيضًا إلى أن إيران قد تقدم، في مرحلة لاحقة، على رفض التصديق على البروتوكول كخطوة تصعيدية أخرى في مواجهة الإجراءات العقابية الأمريكية.
وبالطبع، فإن ذلك لا ينفصل أيضًا عن الجدل الذي أثارته بعض التقارير حول المعطيات الجديدة التي يمكن أن يتضمنها هذا العرض الذي تقدم به ظريف، مستندة في هذا السياق إلى أن إيران تقوم بتطبيق البروتوكول الإضافي بالفعل، وفقًا للاتفاق النووي الحالي الذي توصلت إليه مع مجموعة "5+1" في 14 يوليو 2015.
وهنا، يمكن القول إن ظريف كان يشير تحديدًا إلى تصديق البرلمان على البروتوكول بشكل يمكن أن يضفي عليه طابعًا أكثر إلزامًا بالنسبة لطهران، التي ما زالت تصر حتى الآن على أن التزامها بالبروتوكول هو قرار طوعي ومؤقت. وقد أشار مساعد وزير الخارجية والعضو البارز في فريق التفاوض النووي عباس عراقجي إلى ذلك تحديدًا عندما قال، في 18 ديسمبر 2018، أن "تنفيذ البروتوكول الإضافي سيستمر بشكل طوعي ومؤقت إلى أن يصادق مجلس الشورى عليه بشكل دائمًا"، متوقعًا أن "يتم ذلك خلال السنوات القادمة".
وقد حاولت إيران أكثر من مرة استغلال عدم تصديق البرلمان على البروتوكول الإضافي للتهديد بالتوقف عن تطبيقه، على غرار ما حدث في 15 أكتوبر 2017، عندما لوحت على لسان رئيس منظمة الطاقة الذرية علي أكبر صالحي بأنها "يمكن أن توقف تطبيق البروتوكول في حالة إلغاء الاتفاق النووي، ذلك أنها تنفذه بشكل طوعي دون المصادقة عليه من قبل مجلس الشورى"، بما يعني أنها كانت، وما زالت، تحاول استغلال ذلك كورقة ضغط في مواجهة القوى الأخرى المعنية بالاتفاق النووي.
أهداف خفية:
لا يبدو أن الأهداف التي تسعى إيران إلى تحقيقها من هذه المبادرات تنحصر فقط في رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، رغم أهمية ذلك بالطبع، في ظل التأثيرات القوية التي تنتجها تلك العقوبات على الاقتصاد الإيراني. إذ أن ثمة أهدافًا أخرى لا تقل أهمية يتمثل أبرزها في:
1- التغاضي عن الدور الإقليمي: وخاصة ما يتعلق بالدعم الذي تواصل إيران تقديمه للتنظيمات الإرهابية والمسلحة في بعض دول المنطقة. وبمعنى آخر، فإن إيران تسعى عبر ذلك إلى حصر الخلافات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من القوى الدولية، في البرنامج النووي، دون التطرق إلى القضايا الأخرى التي تحظى باهتمام خاص من قبل تلك القوى إلى جانب دول المنطقة.
وهنا، فإن طهران ترى أن الوصول إلى مثل هذه الصفقة، وهو افتراض يواجه تحديات لا تبدو هينة، سوف يعيد الزخم من جديد إلى دورها الإقليمي، باعتبار أن رفع العقوبات الأمريكية مقابل الالتزام بتطبيق البروتوكول الإضافي، يعني إعادة الاعتراف، الأمريكي والدولي، بدورها كقوة رئيسية في منطقة الشرق الأوسط، وهو الهدف ذاته الذي سعت إلى تحقيقه عبر المفاوضات، السرية والعلنية، التي أجريت مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، ومهدت للمفاوضات التي تواصلت فيما بعد مع مجموعة "5+1"، وانتهت بالإعلان عن الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015.
2- الترويج لـ"سلمية" البرنامج النووي: حرصت إيران بالتوازي مع اتخاذها إجراءات عديدة لتخفيض التزاماتها في الاتفاق النووي، خاصة ما يتعلق برفع مستوى التخصيب من 3.67% إلى 4.5% وزيادة كمية اليورانيوم منخفض التخصيب إلى أكثر من 300 كيلو جرام، على الترويج إلى أن ذلك لا ينفي أن برنامجها النووي سلمي، وأن هذه الإجراءات اتخذت ردًا على العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية وتقاعس الدول الأوروبية عن تنفيذ التزاماتها في الاتفاق النووي، لا سيما ما يتصل بمواصلة التعاملات التجارية والبنكية معها.
ومن دون شك، فإن إيران تسعى من خلال ذلك إلى دفع الأخيرة إلى الاستمرار في إجراءاتها الحالية الخاصة بتفعيل ما يسمى بـ"آلية انستكس" وتجنب مواجهة مواقف أوروبية وأمريكية متقاربة في التعامل معها، على نحو سوف يؤدي، في حالة حدوثه، إلى تحويل المواجهة الحالية من مواجهة إيرانية-أمريكية إلى مواجهة إيرانية-غربية.
3- تحييد البرنامج الصاروخي: تحاول إيران مواصلة تطوير برنامجها الصاروخي، الذي يثير قلقًا خاصًا لدى القوى الدولية والإقليمية، دون المغامرة بالتعرض لعقوبات وعزلة أكثر شدة. وهنا، فإن رفع العقوبات الأمريكية، في حالة إبرام الصفقة وفقًا للعرض الذي تقدم به ظريف، سوف يساعد طهران على المضى قدمًا في تبني هذه السياسة.
وحتى الآن، ما زالت إيران مصرة على إجراء تجارب خاصة بالصواريخ الباليستية رغم الدعوات العديدة التي وجهتها القوى الدولية بالتوقف عن ذلك، باعتبار أنه يخالف الاتفاق النووي وقرار مجلس الأمن رقم 2231، حيث أشارت تقارير عديدة إلى أنها أجرت تجربة أخيرة لإطلاق صاروخ "شهاب 3" بمدى 1000 كيلو في 24 يوليو الجاري.
وبالطبع، فإن أية إشارات قد توجهها القوى الدولية وتوحي من خلالها بإمكانية منح الأولوية للبرنامج النووي على حساب الملفات الأخرى يمكن أن تدفع إيران إلى اتخاذ خطوات تصعيدية أكثر في المرحلة القادمة.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن هذا العرض الذي تقدم به ظريف، ورغم أنه لم يحظ باهتمام أمريكي لافت، يشير إلى أن خيار التفاوض ليس مستبعدًا في إيران رغم كل الإجراءات التصعيدية التي تتخذها ورفضها المتكرر للدعوات الأمريكية التي وجهت في هذا الشأن. فالمشكلة بالنسبة لطهران لا تكمن في التفاوض وإنما في توقيته.