على مدار سنوات لم ترضخ كوريا الشمالية للحصار الدولي والضغوط الإقليمية غير المسبوقة لدفعها للتخلي عن سلاحها النووي، والتي وصلت إلى حد تهديد الولايات المتحدة الأمريكية باللجوء للخيارات العسكرية بما فيها السلاح النووي في مواجهة تهديدات بيونج يانج بقصف جزيرة جوام الأمريكية، والتجارب الصاروخية والنووية الكورية.
وتعددت التفسيرات لظاهرة "الجمود النووي" لكوريا الشمالية ما بين تحليلات النسق العقيدي والفكري للزعيم الكوري "كيم جونج أون"، ومراجعة أسس وركائز نظام الحكم في بيونج يانج، وتقييم حالة النظام الدولي والاتجاهات العالمية التي أدت إلى تقويض دعائم نظام منع انتشار الأسلحة النووية، وفقًا لبعض المحللين الذين تصدرهم "ريتشارد هاس" (رئيس مجلس الشئون الخارجية بالولايات المتحدة الأمريكية)، إلا أن المنظور التاريخي ظل بعيدًا عن التفسيرات المتداولة لتمسك كوريا الشمالية بالسلاح النووي. وفي هذا الصدد، يمكن طرح افتراض مفاده أن صياغة السياسة النووية الكورية ترجع جذورها إلى سياقات تأسيس دولة كوريا الشمالية، والحرب الكورية التي أسهمت في ترسيخ معضلة الأمن لدى النظام الحاكم في بيونج يانج.
معضلة الأمن النووي:
يُعد الارتباط بين امتلاك السلاح النووي وتحقيق الأمن من القضايا الرئيسية في حقل العلاقات الدولية منذ استخدام الولايات المتحدة له في الحرب العالمية الثانية، إذ لم يحسم الجدل بين النظريات والمدارس الرئيسية حول مدى تحقيق السلاح النووي للأمن. وفي هذا الصدد يركز دارسو تاريخ العلاقات الدولية على بعض تهديدات الاعتماد على السلاح النووي لتحقيق أمن الدول، ويتمثل أهمها فيما يلي:
1- مخاطر سوء الإدراك: قد يؤدي سوء الإدراك إلى انجراف الدول النووية إلى مواجهة عسكرية مُدمرة، وفي هذا الصدد يطرح "بنيوت بلوبدياس" (الأستاذ المتخصص في دراسات الأمن بمعهد الدراسات السياسية بباريس) في مقاله بدورية "تاريخ العالم" في أكتوبر 2017، عدة فرضيات حول أن تجنب الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي لمواجهة نووية خلال أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 لم يكن نتاج حسن تدبير القيادات السياسية في الدولتين، بقدر كونه نتاج عامل الصدفة الذي منع حدوث حادث عارض يحفز المواجهة العسكرية.
وخلال فترة الحرب الباردة تعددت الحوادث التي تزايدت خلالها احتمالات استخدام السلاح النووي، على غرار تهديدات الجنرال "دوجلاس ماك آرثر" قائد العمليات العسكرية الأمريكية في آسيا بتوظيف السلاح النووي ضد كوريا الشمالية، وشن حرب شاملة ضد الصين، وتكررت التهديدات الأمريكية خلال الحرب الفيتنامية، كما تُعتبر حادثة "آبل آرشر" من أهم النماذج التاريخية على تهديدات السلاح النووي، والتي وقعت حينما كثف الاتحاد السوفيتي استعداداته العسكرية والنووية بسبب المناورات العسكرية لحلف الناتو في غرب أوروبا عام 1983 لاعتقاد القيادات العسكرية أنها إعداد لحرب نووية ضد دول أوروبا الشرقية.
2- تهديدات اختلال الردع: ينطوي الاعتماد على الردع النووي على تهديدات ضمنية تتمثل في احتمالات اختلال التوازن النووي، حيث إن معادلة "التدمير المتبادل المحقق" (Mutually Assured Destruction- MAD) التي سادت العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة لم تحقق الأمن لقطبي التفاعلات الدولية، بل أسهمت في معضلة "انعدام الأمن" واستدامة التهديدات، مما دفعهما للدخول في سباق ممتد لتطوير قدراتهما العسكرية التقليدية، كما أن الردع يعتمد على وجود يقين لدى الخصم بأن الدولة لديها القدرة والاستعداد والتصميم على استخدام السلاح النووي للرد على الإجراءات العدوانية، وهو ما قد لا يتحقق في بعض الحالات على الأقل على مستوى القيادات الميدانية.
ويستشهد "مايكل جودمان" أستاذ الاستخبارات والشئون الدولية بجامعة "كينجز كوليدج" في لندن بإمكانية تفجر حرب نووية إذا ما قرر "فاسيلي آرخيبوف" قائد الغواصة السوفيتية توجيه أيٍّ من الأسلحة النووية ضد السفن الحربية الأمريكية.
3- عدم الكفاية النووية: لا يعد امتلاك السلاح النووي ضمانًا لتحقيق الانتصار في المواجهات العسكرية التي تخوضها الدول، فيما يمكن أن يُطلق عليه "القصور النووي" (Nuclear Insufficiency)، حيث تعرضت القوى الكبرى التي تملك ترسانات نووية ضخمة لانتكاسات عسكرية محققة، على غرار حرب فيتنام التي خاضتها الولايات المتحدة الأمريكية في سبعينيات القرن الماضي، والغزو السوفيتي لأفغانستان في 1979. ففي المواجهات العسكرية التقليدية يتلاشى تأثير السلاح النووي طالما وضعت الدولة في عقيدتها العسكرية تجنب استخدامه لتحقيق انتصار عسكري لتجنب مواجهة الإدانة الدولية وانتهاك قواعد القانون الدولي.
وفي هذا الصدد يُشير "مالكولم كرايج" (المحاضر المتخصص في السياسة الخارجية بجامعة ليفربول) إلى أن السلاح النووي لم يعد قابلًا للاستخدام العسكري، وأنه بات أداة لتحقيق الردع الإقليمي والمكانة الدولية.
4- احتمالات فقدان السيطرة: أدى اتجاه عدد كبير من الدول والقوى الإقليمية لامتلاك السلاح النووي لتصاعد احتمالات فقدان السيطرة على السلاح النووي، واحتمالية توظيفه في حسم الصراعات الإقليمية، مع تراجع وزن وتأثير حسابات الرشادة لدى قيادات بعض الدول. وفي هذا الصدد يؤكد "بنيوت بلوبدياس" ضرورة مراجعة الثقة الزائدة في القدرة على التحكم في استخدام السلاح النووي، وأمان الترسانات النووية، وإحكام السيطرة الدولية على تداول المواد النووية.
ويستدل على ذلك بشبكة التهريب النووي التي قادها الباكستاني عبدالقدير خان، والتي أسهمت في انتقال القدرات والتكنولوجيا النووية لكلٍّ من كوريا الشمالية وليبيا وإيران، وهو ما يعتبره دليلًا على تهديدات امتلاك دول غير مستقرة مثل باكستان للسلاح النووي.
ملامح "العقدة الكورية":
لم يكن تفكير كوريا الشمالية في امتلاك السلاح النووي نتاج التفاعلات الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة الماضية؛ إذ يرجع الإصرار الكوري على امتلاك السلاح النووي إلى الحرب الكورية في خمسينيات القرن الماضي، فلقد تسبب التهديد الأمريكي بتوجيه ضربة نووية ضد كوريا الشمالية والدول الداعمة لها في توجيه انتباه الزعيم الكوري "كيم إيل سونج" لأهمية السلاح النووي لمواجهة ضغوط قوة عظمى مثل الولايات المتحدة، والخروج من فلك التبعية للاتحاد السوفيتي. ويمكن القول في هذا الصدد إن أهم ملامح "العقدة النووية" لكوريا الشمالية تمثلت فيما يلي:
1- إرث الاستغلال الأجنبي: خلال احتلالها شبه الجزيرة الكورية منذ 1910، خصصت اليابان موقعًا بمقاطعة يونجبيون في كوريا الشمالية لإقامة منشآت برنامجها النووي (وهو الموقع الحالي، مركز يونجبيون للأبحاث النووية العلمية بكوريا الشمالية)، ووصل البرنامج النووي الياباني إلى أعلى مراحل تطوره في عام 1944 قبل عام من قصف جزيرتي هيروشيما وناجازاكي بالأسلحة النووية.
وخلال هذه المرحلة استعانت اليابان بعدد من المتخصصين والدارسين في كوريا، ومنحتهم تدريبًا أساسيًّا في المجالات النووية بالجامعات اليابانية للاستعانة بهم في برنامجها النووي، وعقب استسلام اليابان ونهاية الحرب العالمية الثانية بدأ الاتحاد السوفيتي في التنقيب عن اليورانيوم في كوريا الشمالية لتصنيع سلاحه النووي، وهو ما رسَّخ لدى قادة الحزب الشيوعي الكوري اعتقادًا بأن بلادهم معرضة دائمًا للاستغلال التقني والاقتصادي من قبل القوى الكبرى، وتحتاج لسلاح نوعي لحماية بقائها.
2- ضغوط معضلة الأمن: دفعت الحرب الكورية والدور الأمريكي في حماية كوريا الجنوبية، بالإضافة إلى نشر الولايات المتحدة لقواتها في الجوار الجغرافي لبيونج يانج، إلى تعاظم إدراك القيادات الكورية لمعضلة الأمن، وخلال هذه الفترة اتجهت كوريا لعقد اتفاقيات عسكرية وأمنية مع الاتحاد السوفيتي والصين خلال عام 1961 لردع الولايات المتحدة وحماية بقائها، إلا أن كافة هذه الاتفاقيات لم تتضمن أي ضمانات بمد المظلة النووية للدولتين إلى كوريا الشمالية، على غرار الحماية النووية الأمريكية لكوريا الجنوبية واليابان.
وجاء قرار النظام الحاكم في كوريا الجنوبية في عام 1969 بتطوير برنامج نووي ليزيد من حدة معضلة الأمن لدى بيونج يانج، حيث دفع ذلك الأمرُ الزعيمَ الكوري "كيم إيل سونج" للإسراع في تطوير البرنامج النووي.
3- مقاومة الاحتكار النووي: أسهمت أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 في انتشار قناعة ثابتة لدى قادة كوريا الشمالية بأن الاتحاد السوفيتي بدأ سياسة المهادنة مع الولايات المتحدة، وأن الاتفاقيات الخاصة بالحد من انتشار الأسلحة النووية التي تَوَافَقَ عليها قادة القطبين الدوليين تمثل بداية عهد "الاحتكار النووي" لمنع الدول الصغيرة والمتوسطة من امتلاك قدرات نووية، وهو ما دفع بيونج يانج للإسراع في تطوير برنامجها النووي بالتعاون مع الصين.
4- عقيدة الاعتماد على الذات: أعلنت كوريا الشمالية في منتصف سبعينيات القرن الماضي تبنيها عقيدة الاعتماد على الذات (Juche Doctrine)، وتقوم هذه العقيدة على تطوير القدرات الذاتية تقنيًّا وعلميًّا واقتصاديًّا، والاستقلال عن الكتلة الشيوعية خاصة في المجال النووي، من ثم تم تأسيس المنشآت النووية في مقاطعة يونجبيون لتقليل الاعتماد على الصين والاتحاد السوفيتي في تطوير البرنامج النووي الكوري الذي تحول إلى رمز للتضامن الوطني في مواجهة الأعداء الخارجيين للدولة، ودفع ذلك بيونج يانج في مرحلة لاحقة للاعتماد على شبكات التهريب والسوق النووية السوداء في تأمين احتياجاتها التقنية والحصول على المعدات والمواد اللازمة لاستكمال برنامجها النووي.
5- شرعية الخلافة السياسية: سعى "كيم إيل سونج" منذ سبعينيات القرن الماضي إلى إقرار الخلافة السياسية كنظام لتداول السلطة في الدولة، وهو ما دفعه إلى تبني الخطاب القومي الذي يرتكز على امتلاك القوة النووية والتصدي للولايات المتحدة وحلفائها في الجوار الآسيوي لتعزيز شرعية الحكم، وعندما أعلن عزمه نقل السلطة بعد وفاته إلى ابنه "كيم جونج إيل" في عام 1980 تعرض سونج لانتقادات حادة من جانب قيادات النظم الشيوعية فيما عدا الصين، وهو ما عزز لدى القيادات الكورية أن بقاء نظام الحكم في كوريا يرتبط بصورة وثيقة بالاستمرار في التقدم في البرنامج النووي الوطني وامتلاك السلاح النووي.
6- مقاومة موجات الانفتاح: أدت موجات الانفتاح الاقتصادي التي اجتاحت القارة الآسيوية في ثمانينيات القرن الماضي إلى تصاعد الضغوط على النظام الكوري الشمالي، حيث أدى تبني "دينج زياوبينج" في الصين للإصلاح الاقتصادي والانفتاح على العالم إلى تصاعد أصوات ليبرالية داخل كوريا الشمالية تدعو لإجراءات مماثلة، وهو ما اعتبرته القيادات الكورية تهديدًا للتماسك الداخلي والاصطفاف خلف نظام الحكم، وكان التركيز على تطوير السلاح النووي هو المشروع الوطني البديل للتنمية الاقتصادية الذي اعتمد عليه النظام الحاكم في مواجهة ضغوط المد الليبرالي، والحفاظ على سياسة العزلة والانغلاق في مواجهة التيارات العالمية.
ويمكن اعتبار الانسحاب الكوري من معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية عام 2003، والإعلان عن التفجير النووي الأول لكوريا الشمالية في 2006، المحصلة النهائية للتطور التاريخي الممتد الذي أدى لترسيخ "العقدة النووية الكورية" على مدار عقود.
ختامًا، يكشف التصعيد النووي الكوري عن عدة دلالات رئيسية، يتمثل أهمها في امتلاك كافة الدول -بغض النظر عن معطيات الموقع والمساحة والسكان والموارد والمكانة الدولية- للقدرة على تطوير قدرات نووية عسكرية، ومقاومة العقوبات الاقتصادية والضغوط الدولية والإقليمية، كما يؤكد تطور البرنامج النووي الكوري تراجع فاعلية النظام الدولي لمنع انتشار الأسلحة النووية، بالإضافة إلى هيمنة دوافع الأمن والمكانة الدولية وشرعية الحكم والتصدي للاختراق الخارجي على سياسات الدول الساعية لامتلاك السلاح النووي، وهي اعتبارات يصعب ردعها من جانب القوى الكبرى أو السيطرة عليها من جانب المؤسسات الدولية.