المتتبع لتحولات مفاهيم القوة وتأثيرها يعرف أن استخدام «القوة الناعمة» بات أكثر أهمية على مستوى العلاقات الدولية، وكذلك على مستوى التعامل مع الرأي العام الداخلي، ولدينا تجارب كثيرة أكدت ذلك، خاصة خلال فترة ما كان يسمى بـ «الربيع العربي».
اقتصار الموضوع على «الرغبة» دون التطبيق ينطلق من حقيقة أن هذه القوة أصعب في تطبيقها من القوة الخشنة، وليس من السهل على صناع القرار استخدامها، فهي تحتاج إلى صفات قيادية كاريزمية معينة لا تتوافر لدى كل القيادات، لهذا تجد أن هناك دولاً نجحت في استخدامها ووظفتها لصناعة صورة بلدها أو تحسينها لدى الرأي العام، مثل: تركيا من خلال المسلسلات التلفزيونية، أو الهند من خلال ثقافة اليوجا التي استقطبت العديد من الناس حول العالم لتعلمها ووظفتها في الترويج لدورها، وبالتالي في التأثير على الصورة الذهنية تجاه الهند وشعبها.
دول قليلة استفادت من هذه القوة الجديدة في العلاقات الدولية، أي القوة الناعمة، وهو مصطلح وضعه الأستاذ في جامعة هارفاد الأميركية جوزيف ناي، على اعتبار أنه ما زالت هناك دول لم تستوعب بعد التغيرات الحادثة في العالم، أو أنه ليس لديها القدرة على التأقلم معها، فاستمرت في الاعتماد على القوة الخشنة التي بات الرأي العام العالمي ينفر منها، وخير مثال على ذلك روسيا التي تمتلك مقومات الدولة الكبرى، ولكن حجم تأثيرها بسيط، كما أن قبولها على الساحة الدولية يكاد يكون معدوماً، لهذا لا يمكنها أن تكون دولة قائدة في مجال القوة الناعمة.
إعلان دولة الإمارات تشكيل «مجلس القوة الناعمة» في بداية هذا الأسبوع، جدد اهتمام المراقبين داخل الإمارات وفي محيطها العربي بمفهوم هذه القوة التي تعمل على كسب قلوب الرأي العام العالمي تجاه قضايا الدول، وفي أوقات الأزمات، وهي قضايا كثيرة في عالم اليوم. ويأتي اهتمام المراقبين من خلال أن العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط لديهما من مقومات القوة الناعمة الكثير، لكن قلّ من يجيد توظيفه في السياسة الدولية أو حتى محاولة الاستفادة منه في تغيير الصورة النمطية حول أبناء الشرق وشعوبه.
ورغم أن القوة الناعمة هي خليط ما بين السياسة والإعلام وما يندرج تحتهما من أدوات التواصل الاجتماعي والآليات المختلفة لصناعة الصورة، إلا أن هذه القوة أثبتت أن حجم تأثيرها السياسي كبير على الكثير من القضايا الدولية.
ومعروف أن «القوة الناعمة» لدولة الإمارات لديها سجل كبير في العديد من المجالات الإنسانية والحضارية منذ قيام الدولة، سواء من خلال صفات الكاريزما التي تمتلكها القيادة السياسية، وما لها من بصمات مشرِّفة في مجالات بناء الدولة وتحقيق التنمية الإنسانية، أو من خلال ترسيخ القيم الإنسانية العالمية مثل قيم التعايش المشترك بين الشعوب والثقافات وقبول الآخر.. وذلك من خلال استضافة أكثر من 200 جنسية بمختلف أعراقها ودياناتها دون حدوث أي احتكاك بين التنوع الهائل، أو من خلال المشاركة في العمليات التي تسهم في تحقيق الأمن والسلم الدوليين في مناطق وبلدان مثل كوسوفو والصومال وأفغانستان.
وبشكل عام، فإن مقومات الدولة وقدرة قيادتها هي التي توضح مكامن القوة الناعمة في أي دولة، لذا فهي تتنوع وفق إمكانات كل دولة، فالبرازيل على سبيل المثال قوتها الناعمة تكمن في كرة القدم، أما ألمانيا فتكمن قوتها الناعمة في المجال الصناعي. وهكذا، فإنه لكل بلد جانب تميز فيه، ويمكن من خلاله تسويق نفسه لدى الشعوب الأخرى. وتبرز دولة الإمارات في الإقليم باعتبارها القوة الإقليمية الأولى على الساحة العربية من خلال سيطرة «الجواز الإماراتي» بوصفه الجواز الأول عربياً، وهذه واحدة من معايير القوة الناعمة في عالم اليوم. كما أنها تبرز في الكثير من المجالات الأخرى، بل هي «أيقونة» إبهار شعوب العالم حتى في ظل كل التحديات التي تواجهها دول المنطقة والعالم.
أحدث تلك القصص الجميلة أنها تبذل جهداً كبيراً من أجل إعادة تقديم صورة الدين الإسلامي، وذلك من خلال مجموعة من المؤسسات والمراكز البحثية والمبادرات التي توضح للرأي العام العالمي صورة الإسلام الحقيقية، مثل: مركز هداية، وصواب، والموطأ، وجامع الشيخ زايد الذي يقوم بدور أكبر من كونه مسجداً لإقامة الصلاة، هذا غير ما هو معروف عنه لكونه أحد فنون العمارة الإسلامية.
مواقف سياسية كثيرة منحت دولة الإمارات قناعة وقبولاً لدى الرأي العام العالمي، فزاد تأثيرها بما تفعله، وبالتالي، فإنه تمكن الاستفادة منها في خدمة قضايا الأمة العربية على المستوى العالمي، لاسميا أنها مواقف وجوانب تميز تدار ضمن إطار مؤسساتي منظم ومنضبط، ما يجعل العمل في هذا الخصوص أكثر تنظيماً وحرفية.
دولة الإمارات تتعامل مع نظرية القوة الناعمة منذ نشأتها، باعتبارها إحدى أدوات شخصيتها كما هي مُعاشةٌ بشكل عملي، حيث منحت هذه الدبلوماسية أو القوة الناعمة دولة الإمارات قناعة لدى الرأي العام العالمي بمواقف الدولة، كما عززت الصورة الذهنية حولها باعتبارها الدولة الناجحة وذات المصداقية العالية، فانعكس ذلك على الإنسان الإماراتي نفسه.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد