في خطاب ناري ألقاه حسن نصر الله، زعيم حزب الله، في 21 يونيو الماضي، أشار إلى جزيرة قبرص المجاورة، وهدد باستهداف الجزيرة الصغيرة المقسمة والواقعة في البحر الأبيض المتوسط؛ إذا ما ساعدت إسرائيل في حرب محتملة بين الجماعة اللبنانية المسلحة وإسرائيل. وصرح قائلا إن: "قبرص ستكون جزءاً من هذه الحرب أيضاً إذا قامت بفتح مطاراتها وقواعدها أمام القوات الإسرائيلية"، وجاء ذلك بعد يوم من تحذير إسرائيل من أن احتمال "التصعيد الشامل للحرب" في لبنان بات "قريباً جداً". ورداً على هذه التصريحات، نفى الرئيس القبرصي نيكوس كريستودوليديس تورطه في الحرب.
وفي محاولة واضحة للسيطرة على الأوضاع المتأججة، اتصل وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب بنظيره القبرصي كونستانتينوس كومبوس، وأعرب عن "اعتماد لبنان المستمر على الدور الإيجابي الذي تؤديه قبرص في دعم الاستقرار بالمنطقة"، وذلك بحسب وسائل الإعلام الرسمية اللبنانية.
وبينما ينفي كثير من الخبراء احتمال اندلاع حرب بين إسرائيل وحزب الله؛ فإن مجرد ذكر قبرص في هذا السياق يضيف بعداً جديداً للصراع الدائر بين إسرائيل وحماس في غزة؛ لأنه يخاطر بجر إحدى دول الاتحاد الأوروبي إلى حرب تعم بالفعل جميع أنحاء الشرق الأوسط، وكذلك يسلط الضوء على العلاقات بين قبرص وإسرائيل.
موقع جيوسياسي مؤثر:
قبرص هي جزيرة تقع في شرق البحر المتوسط، على خط الصدع الجيوسياسي بين الشرق الأوسط وجنوب أوروبا، ولكنها أقرب جغرافياً للصراعات في الشرق الأوسط منها لمراكز القوى الأوروبية.
تبلغ مساحة الجزيرة ضعف مساحة ولاية ديلاوير الأمريكية، وهي مقسمة إلى قسمين: جزء ناطق باليونانية يقع في الجنوب ويعرف باسم جمهورية قبرص، وجزء ناطق بالتركية ويقع في الشمال ويعرف باسم جمهورية شمال قبرص التركية. ويعكس تقسيم الجزيرة التنافس بين الخصمين الإقليميين اليونان وتركيا. ولكن معظم المجتمع الدولي لا يعترف إلا بسيادة الجزء اليوناني من قبرص، وهو الجزء الذي تلقى تهديدات نصر الله.
إن جمهورية قبرص هي عضو في الاتحاد الأوروبي، ولكنها ليست عضواً في تحالف الناتو الدفاعي الذي يلزم الدول الأعضاء بالدفاع عن بعضها بعضاً في حالة وقوع هجوم على إحداها. وهي موطن لحوالي 920 ألف نسمة، وعاصمتها نيقوسيا.
بدأت العلاقات الدبلوماسية بين قبرص وإسرائيل عام 1960، بعد استقلال الجزيرة عن الحكم الاستعماري البريطاني، ولكن قبرص لم تفتح سفارة لها في تل أبيب حتى عام 1994. وقد توترت العلاقات في الثمانينيات والتسعينيات بين البلدين؛ بسبب عدد من القضايا من بينها علاقة إسرائيل الوثيقة بتركيا والصراع العربي الإسرائيلي، ففي ذلك الوقت وقفت قبرص إلى جانب الدول العربية ودعمت إقامة دولة فلسطينية.
ثم انتعشت العلاقات مرة أخرى بين قبرص وإسرائيل في أواخر التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ إذ كانت إسرائيل تتجه نحو شرق البحر المتوسط لإقامة شراكات اقتصادية؛ خاصة بعد اكتشاف الغاز الطبيعي بالمنطقة. ويقول الخبراء إن إسرائيل تنظر أيضاً إلى قبرص كشريك قادر على إحباط التهديدات الإقليمية؛ خاصة تلك الآتية من جهة تركيا والجماعات المرتبطة بإيران.
وعلى الجانب الآخر، استخدمت إسرائيل في السنوات الأخيرة الأراضي القبرصية لتدريب قواتها على الحرب المحتملة مع حزب الله. وصرح الجيش الإسرائيلي، بحسب وسائل إعلام إسرائيلية، أن تضاريس قبرص مماثلة لتلك الموجودة في لبنان.
وفي عام 2022، أجرى الجيش الإسرائيلي مناورة عسكرية مشتركة مع القوات القبرصية. وذكرت وسائل إعلام إسرائيلية أن بعض التدريبات المشتركة ركزت على القتال على جبهات متعددة، والبعض الآخر ركز على التدرب على قتال حزب الله في لبنان. وكانت آخر تدريبات للجيش الإسرائيلي بقبرص في مايو 2023.
بينما من جانبها صرحت الرئاسة القبرصية، عبر منصة إكس أن البلاد: "لم تقم أبداً ولن تقوم بتسهيل أي هجوم أو عمل عدواني ضد أي دولة".
تأكيد الحضور الإنساني:
حرصت قبرص على تبديد أي تلميحات بتورطها في حرب غزة، مشيرة إلى جهودها الإنسانية التي ساعدت في إدخال بعض المساعدات إلى هناك.
ثم في غضون أيام من الحرب الإسرائيلية على غزة، عرض الرئيس كريستودوليدس فتح ممر إنساني إلى القطاع المحاصر. وافقت إسرائيل، ولكن بحذر، وساعدت في إنشاء مرافق تفتيش لضمان عدم استخدام أية مساعدات من التي يتم شحنها من الجزيرة لأغراض عسكرية من قبل حماس أو أي قوات أخرى بغزة.
وقال الرئيس كريستودوليدس: "إن جمهورية قبرص ليست جزءاً من المشكلة، ولكنها جزء من الحل. ودورنا في هذا الصراع، وكما ظهر من خلال الممر الإنساني، معترفٌ به، ليس فقط من قبل العالم العربي ولكن من قبل المجتمع الدولي ككل". بدأت قبرص في مارس الماضي بالسماح لسفن المساعدات بالإبحار من موانئها كجزء من الجهود الدولية لإنشاء طريق مساعدات إنسانية عبر البحر باتجاه غزة.
وقد حملت الشحنة البحرية الأولى 200 طن من المواد الغذائية إلى غزة؛ أي ما يعادل حوالي 500 ألف وجبة. كما تم إنشاء مركز لوجستي للاتحاد الأوروبي بقبرص لتسهيل تدفق المساعدات إلى هناك.
وانتقدت نيقوسيا بعض الإجراءات الإسرائيلية في غزة، وخاصة تلك التي أعاقت إيصال المساعدات الإنسانية إلى هناك. وفي إبريل أصدرت قبرص بياناً مشتركاً مع الإمارات العربية المتحدة، أدانت فيه الهجوم الإسرائيلي القاتل على مجموعة "منظمة المطبخ المركزي العالمي" الخيرية، والذي أدى إلى مقتل سبعة أشخاص. كما أدانت حماس مراراً وتكراراً بسبب هجومها على إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي.
احتمالات التورط في الحرب:
لقد علِقت الجزيرة سابقاً بمرمى نيران الصراعات الإقليمية؛ وهو ما يذكرنا بقربها من الشرق الأوسط المضطرب. ففي عام 2019، انفجر صاروخ يُشتبه بأنه روسي الصنع فوق شمالي قبرص. ويعتقد المسؤولون القبارصة أن الصاروخ مرتبط بالعمليات العسكرية الواقعة في سوريا، وعلقوا قائلين إنه سقط على بعد أقل من 15 ميلاً (24 كيلومتراً) شمال العاصمة نيقوسيا.
أما عن الوضع الحالي، فقد كتب محمد علي شعباني، المحلل الإيراني ورئيس تحرير موقع Amwaj.media، على موقع إكس أنه في حال وقوع سيناريو استخدام إسرائيل القواعد القبرصية لقواتها العسكرية، والذي حذر منه حزب الله؛ فإن من شأن ذلك أن "يوسع حرب غزة فعلياً لتصل إلى الاتحاد الأوروبي"؛ وهذا يعني أن إحدى دول الاتحاد الأوروبي، للمرة الأولى، قد تتورط بشكل مباشر في حرب موسعة على غزة. ولكن ما زالت غالبية الأصوات لا ترجح احتمال تحول الصراع بين إسرائيل وحزب الله إلى حرب شاملة؛ إذ لا يرغب أي من الطرفين في مثل هذا التصعيد.
وهو ما أكدته أيضاً لينا الخطيب، الزميلة المشاركة ببرنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مركز أبحاث تشاثام هاوس بلندن، بتصريح لشبكة سي أن أن جاء فيه: "إن نشر حزب الله لقطات بطائرات من دون طيار لمواقع حساسة داخل إسرائيل يهدف إلى ردع إسرائيل". وأضافت: "من الطبيعي أن يكون لدى إسرائيل وحزب الله خطط عسكرية جاهزة للتعامل مع أي تصعيد محتمل. ولكن في ظل الوضع الحالي، لن يستفيد أي من الجانبين من اندلاع حرب شاملة"، وقالت إن: "حزب الله يعلم أن الحرب مع إسرائيل ستكون مدمرة للبنان، وأنه لا توجد رغبة شعبية في البلاد لمثل هذا السيناريو".
وأضافت أنه من غير المرجح أيضاً أن تسمح إدارة بايدن لإسرائيل بخوض حرب بمفردها على جبهتين، مضيفة أن التدخل الأمريكي قد يجذب "جهات فاعلة أخرى مدعومة من إيران بالإضافة إلى احتمال استهداف إيران نفسها، وهذه تكلفة باهظة تريد إيران تجنب دفعها. كما أن الولايات المتحدة لا تريد أن تجد نفسها في مستنقع آخر بالشرق الأوسط، وخاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية".