من المُقرر إجراء الانتخابات الرئاسية في فنزويلا يوم 28 يوليو 2024، وهي الانتخابات الـحادية والثلاثين منذ بداية عهد الثورة البوليفارية، وسوف تجري كسابقاتها من العمليات الانتخابية في سياق مُعقّد ومليء بالاستقطاب السياسي؛ إذ يسعى نيكولاس مادورو للاستمرار في الحكم، في حين تحاول المعارضة تحقيق الفوز بالانتخابات عبر الدفع بإدموندو غونزاليس.
إجراءات تمهيدية:
سبق إعلان موعد الانتخابات عدد من الإجراءات التي مهّدت لذلك، أهمها ما يلي:
1. مُحادثات بين الحكومة والمُعارضة: جرت عدّة مُحادثات أبرزها التي جرت بين الحكومة والمعارضة "المنصة الديمقراطية المُوحّدة" في أغسطس 2021، والتي أسفرت عن توقيع مُذكرة تفاهم بينهما، ناهيك عن اتفاق "بربادوس" في أكتوبر 2023، والذي تضمن أن يكون الموعد الرسمي للانتخابات الرئاسية في النصف الثاني من عام 2024، وأن من حق كل طرف سياسي اختيار مرشحه بحرية، ووفقاً للآليات الداخلية والدستور والقانون.
2. "ميثاق كاراكاس": في فبراير 2024؛ تم التوقيع بالأحرف الأولى على اتفاق شامل في مقر الجمعية الوطنية الفنزويلية، سُمي "ميثاق كاراكاس"؛ وهو يضمن إجراء انتخابات حرة وديمقراطية وشاملة وشفافة ودستورية، كما يشمل جميع القطاعات الاجتماعية والعمالية والتجارية والثقافية، إضافةً إلى 43 حزباً سياسياً.
3. جهات رقابة: هذا إلى جانب مجموعة من الضمانات للجميع أمام المجلس الوطني الانتخابي، ومنها أيضاً دعوة بعثات فنية من مجموعة الدول الكاريبية، والاتحاد الأوروبي، والاتحاد الإفريقي، وفريق خبراء الأمم المتحدة، واتحاد البلدان الأمريكية للحقوق الانتخابية، ومركز كارتر، من بين جهات أخرى، لمراقبة الانتخابات.
لكن على الرغم من كل الاتفاقيات السابق ذكرها بين الحكومة والمعارضة، فقد ظهرت عدد من الخلافات والتُّهم المتبادلة بينهما بانتهاك الاتفاقيات، فضلاً عن أن السلطة الانتخابية الفنزويلية قررت العودة عن الدعوة التي كانت قد وجهتها للاتحاد الأوروبي للقيام بمهمة مراقبة الانتخابات، وبررت ذلك بأنه للحرص على سيادة الدولة الفنزويلية ومصالح الشعب؛ بسبب العقوبات التي لم يتراجع عنها الاتحاد الأوروبي ضد فنزويلا.
سياق مُعقّد:
تنطلق حملة الانتخابات الرئاسية في فنزويلا وسط سياق مُعقّد مُتعدد المظاهر، على النحو التالي:
1. إقصاء المعارضين: وهو ما تجلى فيما يلي:
• قضت المحكمة العليا في فنزويلا في يناير الماضي، بعدم أهلية زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو للترشح للانتخابات هذا العام، بعد أن فازت بسهولة في الانتخابات التمهيدية لعام 2023 بنيل أكثر من 90% من الأصوات، كما أيّدت الحكم الصادر في حق ماتشادو، الذي يقضي بمنعها من تولي مناصب عامة لمدة 15 عاماً، بعد اتهامها بالمشاركة فيما سُمّي بـ"مخطط الفساد الذي دبّره خوان غوايدو؛ مما أدى إلى فرض الحصار على فنزويلا، وكذلك النهب السافر لشركات الشعب وثرواته في الخارج، والتي تبلغ قيمتها نحو 34 مليار دولار". كما، أصدرت المحكمة قراراً مُماثلاً في حق المرشح هنريكي كابريليس، الذي خاض الانتخابات الرئاسية مرتين.
• رداً على القرار؛ كتبت ماتشادو على منصة "إكس": "اختار مادورو ونظامه المُجرم السبيل الأسوأ.. انتخابات مزورة.. لن يحدث ذلك". من جهته، كتب كابريليس عبر المنصة نفسها عقب الحكم: "اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لا تدعوا أي شيء أو أي أحد يخرجنا من المسار الانتخابي" مضيفاً: "2024 يجب أن يكون عام الشعب الفنزويلي".
• بالإضافة إلى ذلك؛ لم تتمكن المعارضة من الوصول إلى نظام التسجيل الخاص بالمجلس الوطني للانتخابات من أجل تسجيل ترشيح الأكاديمية كورينا يوريس، البالغة من العمر 80 عاماً كبديل لماتشادو، قبل انتهاء مُهلة التسجيل؛ لهذا السبب، منح المجلس الوطني للانتخابات التحالف تمديداً لتسجيل مرشح آخر، دون توضيح أسباب عرقلة تسجيل يوريس.
2. تصاعد موجات العنف: مع انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية، شهدت البلاد موجات عنيفة من المؤامرات والأعمال الإرهابية والانقلابية التي شملت إضافة إلى الرئيس مادورو، وزير الدفاع فلاديمير بادرينو، وقادة مدنيين وعسكريين آخرين، مثل حاكم محافظة تاتشيرا فريدي برنال، والتي ربطها البعض باقتراب موعد الانتخابات.
وفي هذا السياق، تم التخطيط لخمسة من هذه الأعمال العنيفة عام 2023، وأربعة أخرى خلال عام 2024 أبرزها عملية "السوار الأبيض"؛ إذ تم التخطيط للهجوم على وحدة عسكرية في سان كريستوبال في محافظة تاتشيرا في الساعات الأولى من يوم 1 يناير 2024، بمشاركة عدد من الفارين من الخدمة والجنود الذين تم جلبهم من ميامي وبيرو وكولومبيا. وقد شارك مدنيون وعسكريون في كل هذه الخطط، بعضهم متقاعدون وآخرون في الخدمة الفعلية، كما ارتبطوا بشخصيات يمينية فنزويلية في المنفى، وبمسؤولين أمريكيين وكولومبيين.
3. قلق دولي: أعرب عدد من الدول عن قلقه من قمع المعارضة على أيدي الحكومة الفنزويلية؛ إذ أعلنت الرئاسة الأرجنتينية أن قادة من المعارضة الفنزويلية يتعرضون لمضايقات واضطهاد؛ مما دفعهم إلى اللجوء إلى مقر السفير الأرجنتيني في كاراكاس، من دون الكشف عن هوياتهم، كما عبّرت كل من البرازيل وكولومبيا بجانب الولايات المتحدة عن قلقها إثر منع ترشيح كورينا يوريس.
كذلك، أشار متحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية، إلى أن برلين تشعر بالقلق إزاء تقارير تتحدث عن استمرار انتهاكات حقوق الإنسان وعن اعتقالات تعسفية في أوساط المعارضة في فنزويلا، مشيراً إلى أن الانتخابات الرئاسية الحرة والنزيهة تتطلب توافر ظروف ملائمة. كما، طالبت إيطاليا بضرورة تمتع المعارضة الفنزويلية بالحقوق المدنية والحيز الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية.
4. مُنافسة مُحتدمة: وأبرز ملامحها ما يلي:
• تم تسجيل 13 مرشحاً في هذه الانتخابات التي تجري وفق جولة واحدة، ومن بين هؤلاء المرشحين أيضاً، تسعة يُقدمون أنفسهم كمعارضين، لكن المعارضة تعتبرهم قريبين من السلطة وهدفهم تشتيت الأصوات.
• في مارس الماضي، اختار الحزب الحاكم في فنزويلا "الحزب الاشتراكي المُوحّد لفنزويلا" الرئيس الحالي نيكولاس مادورو، الذي يبلغ 61 عاماً، مرشحاً له لولاية ثالثة متتالية في الانتخابات المقبلة، وفق ما أعلن ديوسدادو كابيلو، الذي يُعد الرجل الثاني في الحزب الحاكم.
• تضمنت حملة مادورو وعوداً بانتعاش اقتصادي بعد أزمة غير مسبوقة شهدت انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 80% خلال عشر سنوات، كما غادر سبعة ملايين من أصل 30 مليون فنزويلي البلاد، وفقاً للأمم المتحدة. كذلك، أكد مادورو رغبته في رفع العقوبات وتطبيع العلاقات الدولية لفنزويلا، بعد أن رفض جزء من المجتمع الدولي الاعتراف بفوزه في انتخابات 2018 التي قاطعتها المعارضة.
• على الجانب الآخر؛ اضطر حزب "منصة الوحدة الديمقراطية" بزعامة ماتشادو إلى ترشيح الدبلوماسي إدموندو غونزاليس، الذي كان سفيراً لفنزويلا في الأرجنتين والجزائر، لخوض الانتخابات الرئاسية. ومنذ تقديم ترشيحه رسمياً، لم يقم السفير السابق بأي حدث انتخابي عام، لكن ماتشادو تواصل القيام بجولات، وإظهار صورته للناس في محاولة لإظهار أنه بديلها في الانتخابات. وعوضاً عن ذلك لا يتوقف غونزاليس عن إجراء المقابلات من منزله مع وسائل الإعلام الدولية، وأحياناً مع الصحافة المحافظة في فنزويلا، مع وعوده بالعودة إلى الديمقراطية التعددية، وإعادة بناء المؤسسات.
• في المقابل، تمكن مرشح آخر مُعارض وهو مانويل روزاليس، الحاكم السابق لولاية زوليا النفطية والمرشح الرئاسي الذي هزمه هوغو تشافيز في عام 2006، من التسجيل في اللحظة الأخيرة، رغم اتهام يوريس له بالخيانة لتسببه في شرذمة أصوات المعارضة.
هذ إلى جانب عدد من المرشحين الآخرين مثل: خافيير بيرتوتشي، وخوان كارلوس ألفارادو، وأنطونيو إيكاري، وخوسيه بريتو، ودانييل سيبايوس، ولويس إدواردو مارتينيز، وكلاوديو فيرمين، وبنيامين راسيو، ولويس راتي، وإنريكي ماركيز.
تحديات مُحتملة:
يمكن الإشارة إلى أبرز التحديات التي قد تواجه الرئيس الجديد في فنزويلا على النحو التالي:
1. ملف الهجرة: يُشير العديد من الخبراء إلى أن أزمة الهجرة من أكثر التحديات التي تنتظر الرئيس الجديد، مُضيفين بأنه إذا فاز غونزاليس؛ فإن العديد من المهاجرين قد يقررون العودة إلى فنزويلا، ولكن إذا تشبث مادورو بالسلطة، فسوف يميل المزيد منهم إلى التوجه إلى الحدود الأمريكية؛ لأسباب سياسية وعملية. وفي هذا الإطار، أظهر استطلاع للرأي أجري في شهر مايو الماضي أنه إذا حصل مادورو على فترة ولاية ثالثة في السلطة، فإن 41% من الفنزويليين سوف يفكرون في مُغادرة البلاد والانضمام إلى جالية ضخمة بالفعل في الشتات يبلغ عددها 7.7 مليون شخص.
2. العقوبات الأمريكية: أفادت بعض التقارير بأن الولايات المتحدة ستعمل على إعادة فرض عقوبات النفط والغاز على فنزويلا؛ بسبب مواصلة الحكومة الفنزويلية قمع المعارضة الداخلية، بجانب الحظر الانتخابي المفروض على ماتشادو، وسيزداد الأمر سوءاً حال فوز مادورو؛ لأن الولايات المتحدة سوف تستخدم العقوبات الاقتصادية لتقويض رئاسته مما سيسهم في تفاقم نسب الفقر؛ ومن ثم تردي الأوضاع الاقتصادية للبلاد.
توقعات مُتباينة:
مع اقتراب موعد الانتخابات، ظهرت مجموعة من السيناريوهات والتوقعات حول نتيجة الانتخابات وأهم التحديات التي تنتظر الرئيس الجديد، وهو ما يمكن استعراضه على النحو التالي:
1. فوز مرشح المعارضة غونزاليس: توقعت العديد من التقديرات ارتفاع فرص فوز مرشح المعارضة إدموندو غونزاليس؛ لأنه حصل على نسبة تأييد تتراوح بين 50 إلى 60%، وفقاً للعديد من الاستطلاعات التي تظهر أيضاً أن مادورو يحصل على ما بين 10 إلى 20%؛ وهو ما أكّدته استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة دلفوس المستقلة لاستطلاعات الرأي في ديسمبر 2023، والتي أشارت إلى أن الدعم لمادورو قد تضاءل قليلاً، إذ قال 25% من الناس إنهم سيصوتون لحزبه الاشتراكي الحاكم، وذلك مُقارنة بنسبة تأييد بلغت 30% العام الماضي.
ناهيك عن دعم واشنطن لغونزاليس علناً، مُعتبرة على ما يبدو أن فوزه بالانتخابات الرئاسية لن يساعد فقط على المفاوضات حول سياسة الطاقة والهجرة، بل سيساعد أيضاً على تحويل كاراكاس عن تحالفاتها الأيديولوجية مع كل من الصين وروسيا وإيران.
2. ارتفاع فرص مادورو الانتخابية: إذ هناك بعض العوامل التي تدفع بهذا الاتجاه، أبرزها ما يلي:
• دفعت بعض الآراء بأن مادورو يتمتع بفرص كبيرة للفوز بالانتخابات القادمة؛ نظراً لعدد من العوامل أبرزها، ترشح مانويل روزاليس، الذي سيفتح الباب أمام مشكلات جديدة للمعارضة. ففي الأعوام الأخيرة؛ شكل كل من روزاليس وماتشادو نموذجين داخل المعارضة؛ إذ كانت الأخيرة أكثر تشدداً من الأول؛ وهو الأمر الذي يُشير إلى تشرذم المعارضة وارتفاع احتمالات بقاء نيكولاس مادورو في السلطة.
• كذلك، رجّحت مؤسسة ستراتفور في تقريرها حول التوقعات الجيوسياسية للربع الثالث من عام 2024، إعادة انتخاب مادورو؛ مُبررة ذلك بأن التصويت لن يكون حراً أو نزيهاً؛ نظراً إلى جهود النظام لمنع مرشحي المعارضة الشعبية من الترشح، واحتمال تزوير الأصوات.
• ناهيك عن نجاح مادورو في إنعاش اقتصاد البلاد؛ إذ سجّلت فنزويلا بحلول نهاية عام 2023 ربعاً مُتتالياً من النمو بعد سنوات من الانكماش الاقتصادي، تجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري، ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل النمو إلى 4% خلال الأشهر القليلة المقبلة.
• يُعزز هذا السيناريو أيضاً، اتفاق كلٍ من فنزويلا والولايات المتحدة في يوليو 2024 على تحسين العلاقات الثنائية واستئناف الحوار، وسط مساعي إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الحفاظ على استقرار أسعار الطاقة عن طريق تشجيع تدفقات النفط في الأسواق العالمية، ولاسيما وأن الدولتين بدأتا مفاوضات سرية العام الماضي في قطر، أسهمت في الوصول لاتفاق لتبادل السجناء؛ إذ أفرجت الولايات المتحدة عن رجل الأعمال الكولومبي أليكس صعب، المقرب من الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، مُقابل إفراج كاراكاس عن 10 محتجزين أمريكيين وتسليم السلطات الأمريكية المطلوب فات ليونارد، الذي كان مُتورطاً فيما وصف بأسوأ فضيحة فساد للبحرية الأمريكية.
وفي التقدير، فمن الواضح أنه وعلى الرغم من أن الانتخابات الفنزويلية المقبلة هي الأولى منذ أكثر من عقد من الزمن، التي يتمتع فيها مرشح المعارضة بفرصة معقولة للفوز؛ فإن احتمالية فوز مادورو بولاية ثالثة لا تزال الأكثر ترجيحاً؛ نظراً لاستمرار تصعيد القمع وعمليات اعتقال النشطاء من مختلف الأحزاب السياسية من قبل الحكومة ضد المعارضة، فضلاً عن نجاح مادورو في تحسين علاقته مع واشنطن بجانب تأييد كل من الصين وروسيا له.