انتهت بطولة أمم أوروبا لكرة القدم "يورو 2024" التي استضافتها ألمانيا خلال الفترة من 14 يونيو إلى 14 يوليو 2024، بحصد المنتخب الإسباني الكأس بعد فوزه على نظيره الإنجليزي في المباراة النهائية، وذلك في بطولة أُقيمت وسط مناخ يميني متطرف يسود القارة، وإن حدثت عودة يسارية أثناء مجرياتها في انتخابات بريطانيا وفرنسا. وجاءت هذه البطولة لتكشف عن العديد من الرسائل السياسية التي لا تنفصل عن الأحداث والتطورات التي تشهدها القارة الأوروبية ودول العالم.
كراهية الآخر في تقدم:
تُعد كرة القدم اللعبة أو الرياضة الشعبية الأولى في العالم، وهي ملتقى ثقافات عدة متباينة، كما أنها قد تجمع شعوباً مُعادية لبعضهاً تاريخياً. وفيما يخص بطولة يورو 2024، فقد شهدت لقاءات جماهيرية حدثت لأول مرة منذ تنظيم البطولة، جمعت دول صربيا وألبانيا وكرواتيا معاً، وهي دول عانت من صراعات وحروب فيما بينها. وتبلورت أهم المظاهر السلبية من قِبل الجماهير المشجعة للمنتخبات المشاركة، فيما يلي:
1- صراعات البلقان في المدرجات: تعددت الشعارات والهتافات المُعادية للآخر سواء من الجماهير أم من اللاعبين المشاركين في البطولة، فالمهاجم الألباني ميرليند داكو حمل مكبر صوت عقب تعادل فريقه مع كرواتيا، وشارك بهتافات مُعادية لدول أخرى -سواء أكانت مشاركة أم غير مشاركة في البطولة- مثل: هتافات "اللعنة على مقدونيا" و"اللعنة على الصرب". من جهتها، هددت صربيا بالانسحاب من البطولة؛ إذا لم تتم معاقبة كرواتيا وألبانيا على هتافات وشعارات الكراهية والعنصرية، لكن في نفس الوقت رفع مشجعو صربيا لافتات تُظهر كوسوفو كجزء من الأراضي الصربية، وحملوا شعار" كوسوفو هي صربيا"، مع حمل أعلام روسيا والهتاف باسم الرئيس فلاديمير بوتين.
2- حضور اليمين المتطرف: كانت هيئة الإذاعة والتلفزيون الألمانية (ARD) قد أجرت، قُبيل بداية يورو 2024، استطلاعاً للرأي شارك فيه 1304 ألمانيين، كشف عن أن 21% من المُستطلعين يفضلون وجود المزيد من اللاعبين البيض في المنتخب الوطني لكرة القدم. كما أظهر الاستطلاع انقساماً بين الأحزاب السياسية؛ إذ وافق عليه 47% من مؤيدي حزب البديل لألمانيا، اليميني المتطرف.
وحفلت يورو 2024 بحوادث عدة قام بها أنصار اليمين المتطرف، حملت طابع الكراهية والعداء للآخر، ولاسيما من ذوي الأصول غير الأوروبية من المهاجرين والمسلمين. فعلى سبيل المثال، رفعت بعض جماهير منتخب النمسا لافتات مدون عليها عبارة "الدفاع عن أوروبا"؛ وهي عبارة ترمى إلى نداء جماهيري متعارف عليه مناهض للإسلام والهجرة، فيما حمل بعض مشجعي المنتخب الإنجليزي شعار "أوقفوا القوارب".
ولم يقتصر الأمر على الجماهير فقط، وإنما امتد أيضاً إلى اللاعبين وإن كان في اتجاه مُعاكس، فقد حث لاعبون في المنتخب الفرنسي، ومنهم كليان مبابي وعثمان ديمبلي، مواطنيهم على عدم التصويت لليمين المتطرف في الانتخابات التشريعية "الجمعية الوطنية" التي أُجريت مؤخراً، وذلك "للحفاظ على هوية فرنسا متعددة الأعراق"؛ وهو الأمر الذي أثار غضب مارين لوبان، زعيمة حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، وأعضاء حزبها، منتقدين قائد المنتخب مبابي.
انتقاد البنية التحتية:
وُجهت انتقادات لتنظيم ألمانيا للبطولة، وارتبطت هذه الانتقادات بمستوى البنية التحتية والخدمات المقدمة، للدرجة التي جعلت فيليب لام، مدير اللجنة المنظمة للبطولة وهو قائد سابق لمنتخب ألمانيا، يرى أن بلاده فشلت خلال العقود الأخيرة في تطوير البنية التحتية، مع وجود نقص في الاستثمار. وبخلاف لام وانتقاده للبنية التحتية، فإن هناك أيضاً انقساماً حول حجم الإنفاق على هذه البطولة بين من يرى أن 650 مليون يورو مبلغ قليل لتنظيم بطولة بها 24 فريقاً، وآخر يعتقد أن هذا الإنفاق كبير جداً. وتلخصت أهم الانتقادات فيما يلي:
1- الازدحام وتأخر وسائل النقل: تعرض كل من المشجعين والفرق المشاركة في البطولة لمواقف سيئة، مثل: صعوبة الوصول إلى ملاعب المباريات نتيجة تأخر القطارات عن مواعيدها، أو عدم مجيئها من الأساس. فعلى سبيل المثال، اضطر فريق هولندا لاستقلال حافلة وطائرة قبل مباراته في دور نصف النهائي أمام بريطانيا، بالرغم من أن المسافة بين مدينة فولفسبورغ التي كان مفترض أن ينطلق منها القطار الذي يحمل منتخب هولندا، ومدينة دورتموند حيث ملعب المباراة تقل عن 300 كيلومتر. كما تعرض أيضاً فيليب لام، مدير البطولة، لحادثة من نفس النوع؛ إذ تعذر عليه الوصول مبكراً بسبب تأخر القطارات أيضاً. كذلك توقفت القطارات في مدينة ميونخ التي استضافت مباراة الافتتاح بين ألمانيا وإسكتلندا؛ مما يعني أن أزمات القطارات استمرت من بداية البطولة وحتى نهايتها. ويُؤخذ في الحسبان أن شركة "دويتشه بان"، المنظمة والمسؤولة عن القطارات والسكك الحديدية، تعاني من إضرابات عمالية منذ عدة سنوات بشكل مستمر ومتكرر، وكثيراً ما يهدد عمال الشركة بوقف حركة القطارات.
2- أزمات دخول الجمهور وحمايته: واجه الجمهور في يورو 2024، أزمتين رئيسيتين؛ الأولى الازدحام الشديد؛ ومن ثم الانتظار طويلاً لدخول المدرجات، فقد تعرض الجمهور الإسكتلندي للانتظار أكثر من ساعة حتى يجلس على مقاعده في مباراته الافتتاحية أمام ألمانيا. والأزمة الثانية تمثلت في عدم وجود غطاءات للملاعب في ظل هطول الأمطار بغزارة؛ وهو أمر مُتعارف عليه في الملاعب العالمية التي تغلق غطاءها لحماية الملاعب واللاعبين والجمهور.
3- عدم جاهزية الملاعب: عادةً تنفق الدول المنظمة للبطولات الكبرى أولاً على الملاعب، ويتم بحث وتقييم أرضيتها وسعتها وغيرها من أمور فنية تلزم معرفتها قبل الموافقة على استضافة المدينة أو الدولة ككل لأية فعاليات، بدايةً من ملاعب التدريب الفرعية، ونهايةً بالملاعب المقام عليها المباريات الرسمية. لكن الأمر اختلف في يورو 2024. فألمانيا -التي مُنحت الموافقة على استضافة هذا الحدث الرياضي بعد أن نالت 12 صوتاً مقابل أربعة أصوات لتركيا- كان المُفترض أنها تمتلك عشرة ملاعب جاهزة للبطولة، لكن فوجئ لاعبو المنتخب السويسري مثلاً باعتذار بلدية شتوتغارت عن استقبالهم في ملعب التدريب المخصص لهم نظراً لعدم تجهيزه، بالرغم من أن تلك الأمور التنظيمية كان من المُفترض أن يتم التنسيق فيها بين الاتحاد الأوروبي والاتحاد الألماني مُبكراً قبل البطولة ولا تتفاجأ بها المنتخبات المشاركة. ولم تقف أزمات الملاعب وأرضيتها عند هذا الحد؛ بل اشتكى بعض اللاعبين والمدربين من سوء أرضية الملاعب، ومنها ملعب فرانكفورت الذي أُقيم عليه لقاء الدنمارك وإنجلترا في دور المجموعات.
تسييس الرياضة:
في عام 2018، تم إنتاج مسلسل ألماني يُسمى "حواري برلين" (Dogs OF Berlin)، يتناول قصة مقتل لاعب ألماني من أصول تركية، وعنف وتطرف "النازيين الجدد"، في مقابل وجود عصابات من أصول تركية تهاجم المحال والمتاجر وتُحصل منها رسوماً بالقوة.
وبعد ستة أعوام من التوظيف السياسي للدراما من قِبل ألمانيا والمنافسة مع تركيا على تنظيم يورو 2024، أعاد اللاعب التركي ميريه ديميرال توظيف الرياضة لخدمة أغراض سياسية، فعقب إحرازه هدفاً في مرمى منتخب النمسا، ضمن المباراة التي أُقيمت في دور الـ16 من البطولة، احتفل اللاعب مُستخدماً شعار "الذئاب الرمادية"؛ وهو التنظيم المحظور في النمسا ويخضع للرقابة في ألمانيا منذ 2018، وتم تقديم مقترح بحظره في العام نفسه تزامناً مع عرض مسلسل "حواري برلين"؛ الأمر الذى جعل إشارة ديميرال بمثابة رسالة سياسية تستكمل ما بدأ في 2018.
وتطورت أزمة اللاعب ديميرال إلى تبادل استدعاء سفراء البلدين، ألمانيا وتركيا، ولاسيما بعد فتح الاتحاد الأوروبي لكرة القدم تحقيقاً طبقاً للمادة 31 من لائحته التأديبية حول الواقعة، فضلاً عن تصريح وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فيزر، بأن "اليمين المتطرف التركي ليس له مكان في ملاعبنا". واللافت في هذا التصريح هو اقتران التطرف بتركيا عبر "الذئاب الرمادية"، وكأنه مقبول من أي تيار يميني متطرف آخر. واللافت أيضاً أن التوتر بين برلين وأنقرة كان من الممكن ألا يتطور، ويقف عند حد معاقبة اللاعب التركي طبقاً لقواعد البطولة المنظمة، لكن مسؤولي البلدين مالا نحو التصعيد وربما خلق أزمة دبلوماسية كانا في غنى عنها، وهو ما يُعد أيضاً فصلاً جديداً من فصول توظيف السياسة للرياضة في العلاقة بين البلدين.
استدعاء الماضي:
ارتبط تنظيم ألمانيا ليورو 2024 بجدل آخر حول البنية التحتية لأكبر اقتصاد في أوروبا، وإحدى أهم خمسة اقتصادات في العالم؛ وهو ما دفع البعض في المنطقة العربية إلى مقارنة تنظيم هذه البطولة مثلاً بتنظيم كأس العالم بقطر 2022، والتوتر الدبلوماسي بين برلين والدوحة آنذاك.
وقد قارنت عدة تقارير بين تكلفة تنظيم بطولة قارية أو عالمية مثل كأس العالم، وبين العائد منها، في ظل أن العوائد المالية التي تحصدها الدول المُستضيفة تنقسم بين تلك الآنية في عام الاستضافة، وأخرى على المدى البعيد. ولعل من أبرز التقارير في هذا الإطار، ما نشرته مجلة "الإيكونوميست" في 18 نوفمبر 2022، وقارنت فيه بين الدول التي استضافت كأس العالم منذ عام 1966 في بريطانيا وحتى عام 2018 في روسيا، واستخلصت أن الأخيرة فقط هي التي حصدت عائداً مالياً قريب الأجل قُدر بنسبة 24% إضافية فوق التكلفة.
وغالباً لا تجني الدول أرباحاً كبيرة في نفس العام الذي استضافت فيه البطولة التي جرى الإنفاق عليها لسنوات سبقت التنظيم. والاستثناء في حالات مثل: روسيا وفرنسا وألمانيا له اعتبارات أخرى، فألمانيا اعتمدت في يورو 2024 على البنية التحتية لكأس العالم 2006؛ ولم تحتج للإنفاق مجدداً، بحسب وجهة نظر مسؤوليها؛ ومن ثم فإن الأرباح المتوقعة خلال العام الجاري ليست في مجال مقارنة مع دولة أخرى مثل قطر، التي نظمت لأول مرة بطولة عالمية كبيرة في 2022، وكان طبيعياً أن تنفق الكثير من الأموال؛ لأنها أنشأت بنية تحتية كاملة من مطارات وملاعب وفنادق وطرق وغيرها؛ لن تخص فترة تنظيم البطولة فقط بل سوف توجه بالطبع للاقتصاد القومي عبر عائدات السياحة وخلق فرص عمل أو جذب مستثمرين. وهذا ما فطنت إليه كل الدول التي استضافت أية بطولة رياضية كبرى. فعلى سبيل المثال، نُشر تقرير لشركة "ماكنزي" توقع فيه أن تنظيم روسيا لكأس العالم 2018 سوف يعزز اقتصادها على مدار خمس سنوات تالية بمقدار 13.3 مليار دولار.
إجمالاً، يمكن القول إن يورو 2024 حملت رسائل سياسية كثيرة، عبّرت من خلالها عن آلية التفكير السائدة الآن لدى النخب الحاكمة والجماهير. فالعنصرية وكراهية الآخر وجدتا من هذه البطولة أرضية خصبة في المدرجات والشوارع ومحطات القطارات، لإعلان بقائها وانتصارها على قيم التعايش وقبول الثقافات المغايرة للعرق واللون والدين. كما أثبتت ألمانيا أن فوضى التنظيم لا ترتبط بدول صغرى أو كبرى ولا بثقافة عربية أو غربية؛ بل بعقلية تُحدد متى تمتلك معايير حقيقية، وأخرى مزدوجة. وربما تجني ألمانيا أرباحاً مالية كبيرة في هذا العام أو ما بعده، لكنها سوف تعاني من انتقادات طويلة الأجل من حلفائها الغربيين، بخلاف من توترت علاقاتها معهم في الفترة الماضية.