أعلن ستة عشر عضواً من كبار قادة "الجماعة الإسلامية" المُتمركزة في دول جنوب شرق آسيا، منهم أميرها الحالي بارا ويجايناتو، في بيان يوم 30 يونيو 2024، عن تفكيك جماعتهم، وتوقفها عن العنف، مع إجراء مراجعات تتعلق بمناهج التربية داخل مؤسساتها التعليمية. وأكد البيان حرص متخذي هذا القرار على الامتثال للدولة والقانون في إندونيسيا، وأن تكون جميع المواد التي ستُدرّس في المدارس التابعة للجماعة متوافقة مع الإسلام.
وهنا يبقى السؤال هو: هل قرار حل "الجماعة الإسلامية" من قِبل قيادتها العليا تكتيكي للحفاظ على مصادر تمويلها؟ وما هي دلالاته في هذا التوقيت؟ وتداعياته على أدوار القيادات الوسيطة والعناصر من المستويات الدنيا، خاصةً أن الجماعة شهدت قبل قرار الحل انشقاقات متتالية؟
سياقات ضاغطة:
تعيش "الجماعة الإسلامية" بدول جنوب شرق آسيا في حالة من الارتباك المتواصل على مستوى القيادة والفاعلين من عناصرها الوسيطة منذ القبض على أميرها، بارا ويجايناتو، في يونيو 2019 والحكم عليه بالسجن سبع سنوات في ديسمبر 2020، وإعلانه من داخل محبسه عن تبنيه نهجاً أكثر اعتدلاً، والرغبة في التحول التدريجي بالجماعة من العنف إلى التعليم الإسلامي والسلام المجتمعي.
ومن ثم، مثّل السياق المحيط بـ"الجماعة الإسلامية" خلال السنوات الخمس الماضية، بيئة ضاغطة على استراتيجية صُنع القرار داخلها، وانتقاله من المركز إلى المستويات الأدنى، خاصةً وأن غياب القيادة المؤثرة في تسيير حركة الجماعة؛ أدى إلى حالة سيولة بين عناصرها؛ الأمر الذي ساعد على حدوث انشقاقات متتالية رُصدت داخلها خلال هذه السنوات، ترتب عليها تراجع في دورها مقابل ظهور جماعات جديدة، ربما أصبحت أكثر قدرة على التطور والتجديد، ومن أهمها تنظيم "داعش" المنافس القوي لـ"الجماعة الإسلامية" في هذه المنطقة الجغرافية.
ويمكن تحديد أهم السياقات الضاغطة التي ساعدت على اتخاذ قيادات "الجماعة الإسلامية" قرارها بتفكيك هيكلها، على النحو التالي:
1- تنوع آليات المواجهة: تميزت الاستراتيجية التي اتبعتها دول جنوب شرق آسيا، سواء الجماعية أم التي نفذتها كل دولة على حدة، بتوافر بُعدين: الأول، تمثل في "المواجهة الصلبة"، وتمكن حكومات هذه الدول من شل حركة تمدد "الجماعة الإسلامية" عن طريق قيام الأجهزة الأمنية في إندونيسيا وماليزيا والفلبين باعتقال العشرات من القيادات المؤثرة، ومحاصرة بعض القيادات الوسيطة التي عادت إلى العمل السري خلال السنوات الماضية.
أما البُعد الثاني في الاستراتيجية، الذي ساعد على استرخاء قيادات الصف الأول واتجاههم للتخلي عن العنف، فقد تمثل في "المهادنة المحسوبة"؛ التي تمثلت في مبادرة طبقتها حكومات تلك الدول الثلاث، خاصةً إندونيسيا، وهي الإفراج عن بعض القيادات المؤثرة في الجماعة وعلى رأسهم أبو بكر باعشير، الذي يمثل الأب الروحي لعدد كبير من عناصر "الجماعة الإسلامية" أو "جماعة أنصار التوحيد" المنشقة عنها، ما لقى ترحيباً من قِبل العديد من أنصار "الجماعة الإسلامية". علاوة على قيام مسؤولي مكافحة الإرهاب وقادة الفرقة (88) في إندونيسيا، بوضع برامج تأهيل لبعض أفراد الجماعة الراغبين في الاندماج بالمجتمع. كذلك قيام جهاز الأمن الإندونيسي بالسماح لأمير الجماعة الحالي، ويجايناتو، بالحصول على إجازة من سجنه، والمشاركة في بيان تفكيك الجماعة؛ ما عزز من مصداقية هذا القرار عند القيادات التاريخية.
2- التراجع العددي والتغير في تكليفات القيادات العليا: تشير تقديرات صادرة عن وكالة مكافحة الإرهاب الإندونيسية عام 2023، إلى اعتقال عشرات الموظفين المدنيين وضباط الشرطة والمسؤولين العسكريين المرتبطين بـ"الجماعة الإسلامية" منذ عام 2021، بالإضافة إلى تراجع مقاتلي الجماعة إلى أقل من 1500 مسلح، جميعهم إندونيسيون؛ وهذا ما تسبب في انخفاض مستوى العلميات خلال الفترة من 2021 وحتى الربع الأول من 2024؛ وأدى إلى تغلغل بعض عناصر الجماعة في المؤسسات الدينية والمدنية في إندونيسيا؛ لنشر عقيدتها المنحرفة وفكرها المتطرف، بالإضافة إلى حدوث تغير في دور القيادات من القتال إلى التجنيد وتلقين الأعضاء الجدد بالأفكار التي تزيد من تمسكهم باستراتيجية بقاء التنظيم، والمتمثلة في تأسيس "دولة إسلامية" في دول جنوب شرق آسيا.
3- الخلل الهيكلي وتأثير العلاقات العائلية في الجماعة: يمثل الخلل الهيكلي في "الجماعة الإسلامية"، بالإضافة إلى تزايد مستوى القرابة بين عناصر التنظيم، خاصةً في المستويات الوسطية؛ أحد العوامل الضاغطة على استمرارية القيادات العليا في العمل الجهادي والسري. فمن الواضح أن الخلل في الهيكل الإداري للجماعة خلال الفترة الأخيرة، ولاسيما بعد اعتقال أميرها، عزز إلغاء فكرة المركزية في العمل التنظيمي، ما أوجد خلايا فردية من العناصر التي تأثرت بطول أمد الأوامر، تعمل بشكل مستقل يصعب السيطرة عليها من قِبل القيادات العليا وأجهزة مكافحة الإرهاب.
4- التقسيم المناطقي للعمليات والتزاحم الجهادي: أدى غياب أمير "الجماعة الإسلامية" الذي يرأس مجالسها الأربعة، سواء المختصة بالإدارة والانضباط أم بالتمويل والتدريب والتجنيد أم بالعمليات العسكرية، إلى فقدان الجماعة للمركزية في العمل، ومأسسة التقسيم المناطقي للعمليات التي تفتقد القيادة العليا السيطرة عليها. وهذا ما يشير إلى تزايد عدد الخلايا الإرهابية السرية، التي يتراوح عدد عناصر كل منها بين أربعة وخمسة أفراد، منذ يونيو 2019؛ وهو تاريخ القبض على ويجايناتو.
كما أن التزاحم الجهادي في دول جنوب شرق آسيا؛ أدى إلى إعادة ترتيب التنظيمات في هذه المساحة الجغرافية؛ إذ عاد "داعش" للواجهة، وأصبح منافساً قوياً لـ"الجماعة الإسلامية"، خاصةً أنه يستخدم نفس تكتيكاتها العسكرية في تلك المنطقة؛ والمتمثلة في العمليات الانتحارية والعمل السري؛ وهو ما صاحبه تحول في الولاءات من قِبل العناصر الدنيا والوسيطة؛ أدركت مخاطره القيادات العليا.
دلالات التفكيك:
يشير قرار قيادات "الجماعة الإسلامية" في جنوب شرق آسيا بتفكيك هيكلها بطريقة مفاجئة في هذا التوقيت، إلى مجموعة من الدلالات، يمكن استنباطها من السياقات الضاغطة التي مرت بها الجماعة على مستوى القيادات العليا والوسيطة والدنيا، بالإضافة إلى الترتيبات اللوجستية المتراجعة منذ عام 2019، كالتالي:
1- براغماتية قيادات الجماعة: تشير الحسابات الدقيقة من قِبل قيادات الجماعة الذين أعلنوا عن قرار التفكيك، إلى "البراغماتية المحسوبة"؛ وهو ما يعني إدراكهم للخلل الواقع في الهيكل التنظيمي والإداري للجماعة، وتراجع عملياتها في مقابل تفكيك الأجهزة الأمنية لبعض الخلايا السرية، خاصةً الشبكة المسلحة للجماعة التي يُنسب إليها تنفيذ تفجيرات بالي الدامية عام 2002؛ وهذا ما جعل قيادات الجماعة تأخذ قراراً تكتيكياً؛ كان هدفه حماية ما تبقى من أصول الجماعة العينية والمادية، خاصةً شبكتها من المدارس الإسلامية، التي أُعلن في ذات بيان التفكيك عن السعي إلى مطابقة مناهجها مع مبادئ السلام المجتمعي والإسلام الصحيح.
2- تفكيك الهرم التنظيمي في مقابل عدم السيطرة على العناصر القتالية: إذ إن إعلان الجماعة عن تفكيك هياكلها قد لا يعني بالضرورة توقف عضلة قلب الجماعة عن ارتكاب العنف. وتشير قراءة نص بيان التفكيك وتحليل صورة الحضور، إلى تقارب أعمار القيادات، وحدوث انقسامات جيلية حول هذا القرار؛ ومن ثم فإن تفكيك الجماعة بالنسبة لعدد كبير من العناصر المسلحة يُعد غير مؤثر في أهدافهم القتالية.
3- الاعتراف بالمسؤولية عن ارتكاب العنف: إن قراءة بيان التفكيك وتأكيد قيادات "الجماعة الإسلامية" الالتزام بالمناهج الوطنية في مدارسها وتوافقها مع الإسلام الصحيح، وتأكيدهم امتثالهم للدولة والقانون؛ يشير إلى اعتراف متخذي القرار من القيادات العليا بالخطأ الذي ارتكبته الجماعة منذ الإعلان عن نفسها بشكل رسمي في إندونيسيا عام 1993؛ وهو ما قد يعني محدودية الالتزام بقرار وقف العنف عند "العناصر السائلة" في الجماعة، والخلايا السرية التي تتوزع في مناطق جغرافية بعيدة عن موقع مركز الجماعة، خاصةً أن العناصر الوسيطة والدنيا الفاعلة في الجماعة تدرك أن فقدان الهيكل التنظيمي لدوره بدأ منذ لحظة القبض على ويجايناتو.
4- تزايد التخبط الداخلي في الجماعة: الواضح أن "الجماعة الإسلامية" تشهد في الفترة الأخيرة حالة من انعدام الثقة بين جناحين في التنظيم، الأول: يتبنى الدعوة والتربية وإعادة بناء الموارد الاقتصادية والبشرية، متخذاً المسار المعتدل والاندماج المجتمعي، ليكون بديلاً عن القتال المسلح. أما الجناح الثاني، فيتمسك بالسلاح، وهم المجموعة الأقل عدداً والأصغر سناً، الذين يصرون على استخدام العنف من منطلق سعيهم لتحقيق حلم تأسيس "دولة إسلامية" في منطقة جنوب شرق آسيا، وهذا الجناح يتصرف بعيداً عن القيادات التي أعلنت التفكيك.
ومن ثم، قد يكون قرار قيادات الجماعة بتفكيك هيكلها، غير مُتوافق عليه على مستوى التنظيم الكلي؛ بل هو نتاج لنجاح استراتيجية المواجهة التي اتبعتها حكومات دول جنوب شرق آسيا مع القيادة العليا وقدامى المقاتلين، الذين لديهم الاستعداد للتنازل عن المبادئ الأساسية للجماعة والمتمثل بعضها في رفض الديمقراطية والتعاون مع الحكومات، والالتزام بمفهوم "الجهاد الأكبر"، في مقابل الحفاظ على الموارد الاقتصادية المُعلنة للجماعة.
انعكاسات مُحتملة:
إن دلالات اتخاذ قيادات الجماعة لقرار تفكيك هيكلها، بالإضافة إلى أسلوب المفاجأة الذي اتبعه معلنو بيان التفكيك، وردود الفعل عليه من قِبل بعض العناصر المقاتلة أو الأجهزة الأمنية في دول جنوب شرق آسيا، قد تشير إلى تداعيات مهمة، منها الآتي:
1- احتمالية عدم التخلي عن العنف: تاريخياً، تحولت "الجماعة الإسلامية" في جنوب شرق آسيا من "السرية" إلى "العلنية"، ومن "الجهاد المسلح" إلى "الدعوة"؛ إذ تأسست كجماعة سرية عام 1979 شكّلها مجموعة من الخارجين عن "جماعة دار السلام" بإندونيسيا في أربعينيات القرن الماضي، ثم أعلنت عن نفسها بشكل رسمي عام 1993، وتماسكت حتى وفاة أميرها آنذاك عبدالله سنغكر عام 1999، ثم تولى باعشير قيادتها، وخرج هو وبعض أعضائها منها، وأسسوا "جماعة أنصار التوحيد" عام 2008.
ومن ثم فإن قراءة وتحليل تاريخ "الجماعة الإسلامية" يشير إلى أن تفكيك هيكلها في أواخر يونيو الماضي؛ لا يعني بالضرورة وجود التزام من جميع كوادرها وعناصرها بالتحول من "الجهاد المسلح" إلى "الدعوة"؛ حسب ما تضمنه البيان؛ بل من المُحتمل أن تظهر مجموعات منشقة تعمل بشكل مستقل؛ بحيث تواصل العمل السري وتتمسك بالعنف، تحت استمرارية المظلة الأيديولوجية للجماعة.
وما سبق يبرره اتخاذ عناصر الجماعة، قبل قرار تفكيكها، مسارين يعملان بصفة مستقلة عن مركزية أمير الجماعة الحالي منذ سجنه؛ الأول: يتمثل في الاتجاه نحو "الدعوة"، وهذا المسار تمثله القيادات التي حضرت مشهد بيان التفكيك. أما المسار الثاني، فيتمثل في "الجهاد وارتكاب العنف"، وهذا الطريق يسلكه الفصيل المسلح من الجماعة، والمستمر في التدريب على القتال.
2- الاستغلال السياسي في حالة الاندماج المجتمعي لعناصر الجماعة: يبدو التكوين الهجين لـ"الجماعة الإسلامية" بدول جنوب شرق آسيا، كغيرها من الجماعات التي أعلنت تخليها عن العنف في الشرق الأوسط، والتي تجمع فكرياً بين "الدعوة" و"الجهاد"، و"رفض الديمقراطية" و"شرعنة ممارستها للعمل السياسي"؛ ومن ثم من المُرجح أن يدفع هذا التكوين عناصر الجماعة وقياداتها الموافقين على تفكيك هيكلها، إلى الاستغلال السياسي لأفراد المجتمع عند ممارستها لـ"الدعوة" كبديل عن "العنف"؛ خاصةً إذا لم تجد هذه الجماعة متابعة دقيقة من حكومات دول جنوب شرق آسيا. فكثير من الجماعات التي تراجعت عن العنف ولو مؤقتاً خلال العقود الأخيرة، سلكت هذا المسار.
وعليه، فإنه من المُحتمل أن تسعى "الجماعة الإسلامية"، ولاسيما في إندونيسيا، إلى التحول التدريجي من ممارسة العمل السياسي سراً إلى العلن، وخاصةً أن الحكومة الإندونيسية اكتشفت في نهاية عام 2022 ممارسة الجماعة للعمل السياسي السري، بالإضافة إلى إعدادها مشروعاً للتمكين السياسي، يسمح بتغلغل عناصرها في المؤسسات الدينية والمدنية.
في الختام، يمكن القول إن قرار "الجماعة الإسلامية" في جنوب شرق آسيا بتفكيك هيكلها؛ لا يعني التزام جميع عناصرها بالتراجع عن "العنف" والاتجاه إلى "الدعوة"؛ خاصةً أن تحليل صورة قيادات الجماعة الـ16، أثناء قراءة بيان التفكيك، يشير إلى تقارب جيلي للحضور؛ وهو ما قد يعني أن قيادات المناطق البعيدة والعناصر القتالية غير راضين عن مسار التفكيك. ويعكس ذلك دلالات خطرة ترتبط بعدم التوافق بشأن تفكيك هيكل الجماعة؛ ما يتطلب يقظة من قِبل حكومات وأجهزة الأمن في دول جنوب شرق آسيا خلال الفترة المقبلة.