منذ تولي الرئيس جو بايدن للسلطة في يناير 2021 شهدت السياسة الأمريكية في إفريقيا نشاطاً ملحوظاً كان من بين أهدافه تعويض التراجع الكبير الذي طرأ على العلاقة بين الجانبين خلال سنوات حكم سلفه دونالد ترامب. فقد كانت زيارة الرئيس أوباما لجنوب إفريقيا وإثيوبيا عام 2015 هي الزيارة الأخيرة لرئيس أمريكي للقارة الإفريقية.
وبينما استمر غياب الزيارات الرئاسية الأمريكية خلال ولاية بايدن، إلا أن العديد من المظاهر المتواترة تمكنت من تعويض هذا الغياب، وعلى رأسها عقد القمة الأمريكية الإفريقية الثانية في ديسمبر 2022 بعد ثماني سنوات من عقد القمة الأولى، بجانب التقليد الذي أرساه وزير الخارجية أنتوني بلينكن بالتوجه في جولة إفريقية سنوياً شملت كينيا ونيجيريا والسنغال في العام الأول، ثم جنوب إفريقيا والكونغو الديمقراطية ورواندا في الجولة الثانية، ثم إثيوبيا والنيجر في الجولة الثالثة، والرأس الأخضر وساحل العاج ونيجيريا وأنغولا في الجولة الرابعة.
وقد جاء استقبال الرئيس الكيني ويليام روتو في واشنطن في مايو 2024 ليعكس مظهراً إضافياً من مظاهر تطور العلاقات الأمريكية الإفريقية، إذ تُعد الزيارة أول زيارة دولة لرئيس إفريقي للولايات المتحدة منذ زيارة الرئيس الغاني الأسبق جون كوفور في سبتمبر 2008.
الاستمرارية والتغير:
لا تكشف الخطوات الأمريكية المتسارعة مؤخراً عن تغيرات جوهرية في هوية حلفائها الأفارقة، فعلى سبيل المثال، تشكل كينيا حليفاً أمريكياً تقليدياً منذ استقلالها في ستينيات القرن الماضي، ولطالما شكلت ركيزة أساسية لسياسات الولايات المتحدة للتصدي للمد الشيوعي في إفريقيا إبان مرحلة الحرب الباردة؛ وهو ما تضمن توظيف أدوات عديدة أبرزها التعاون العسكري والأمني والاقتصادي. وبالمثل، كانت الكونغو الديمقراطية لعقود من بين الدول الرئيسية التي تجمعها علاقات وثيقة بالولايات المتحدة، وهو ما يتكرر في حالات أخرى مثل: زامبيا ونيجيريا وساحل العاج وغانا؛ وإذا كانت هوية الحلفاء الأفارقة للولايات المتحدة لم تشهد تغيرات عميقة، إلا أن طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة وبين كل من هؤلاء الحلفاء باتت تكشف عن تبلور نمط جديد في إدارة الولايات المتحدة لعلاقاتها بالقوى الإفريقية الرئيسية.
ويقوم هذا النمط على تغير الأولويات الأمريكية بشأن ما تطلبه من حلفائها الأفارقة، ففي أوقات سابقة أعقبت نهاية الحرب الباردة كانت الأولويات الأمريكية تتعلق فيها بالسياسات الداخلية والالتزام بالديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، مع غض الطرف عن تنامي العلاقات الاقتصادية مع أطراف دولية أخرى على رأسها الصين في ظل الرغبة الأمريكية في تقليص "تكلفة" الحفاظ على علاقات قوية بالدول الإفريقية. لكن مع تنامي التوجهات الأمريكية التي ترى في الحضور الصيني في إفريقيا مصدراً رئيسياً من مصادر تهديد المصالح الاستراتيجية الأمريكية، شهدت هذه الأولويات تغيراً لافتاً، على نحو ما أكدته زيارة الرئيس الكيني لواشنطن.
ويمكن القول بتبلور ملامح مقاربة جديدة لتعامل الولايات المتحدة مع حلفائها الأفارقة؛ تقوم على عدة أسس متكاملة تشمل المراقبة الأمريكية المباشرة لموقف الحكام الأفارقة في الدول الأكثر أهمية للمصالح الأمريكية من العلاقة مع الصين في المجال الاقتصادي والتنموي، وللعلاقة مع روسيا في المجال العسكري والأمني، باعتبار هذا المتغير هو المتغير الحاكم المحدد لموقف الولايات المتحدة من كل من الحكام الأفارقة في الدول المعنية. يضاف هذا إلى إعادة بناء الولايات المتحدة علاقاتها مع الدول الإفريقية ذات الأهمية الرئيسية وفق منطق أكثر براغماتية تحصل من خلاله الحكومات الإفريقية الأكثر تشدداً في مواقفها مع الصين وروسيا على مزايا اقتصادية وتنموية عاجلة عبر دعم الولايات المتحدة لمشروعات البنية التحتية خاصة تلك التي تشمل مشروعات تكاملية إقليمية عابرة للحدود تجمع أكثر من دولة إفريقية متجاورة من أجل تعظيم العائد الاقتصادي والسياسي كذلك.
ومن بين أسس المقاربة الأمريكية الجديدة ربط الأمن بالاقتصاد لمواجهة المنافسة الصينية الروسية المزدوجة، على غرار ما شهدته زيارة الرئيس الكيني لواشنطن من تطوير التعاون العسكري بين البلدين بجانب المزايا الاقتصادية المصاحبة التي حصلت عليها كينيا، مع رفع كثافة التفاعلات ومستواها مع الحلفاء الأفارقة عبر العودة لاستقبال الرؤساء الأفارقة في زيارات دولة بعد سنوات من التوقف، وعبر تكثيف زيارات المسؤولين الأمريكيين رفيعي المستوى للدول الإفريقية، فضلاً عن تكثيف مظاهر انخراط القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) في أنشطة التدريب وبناء القدرات للدول الإفريقية الأكثر أهمية.
دعم مشروط:
بينما لا تزال الملامح التفصيلية للمقاربة الأمريكية الجديدة تجاه الحلفاء الأفارقة قيد التشكل، جاءت العديد من التفاعلات لتكشف عن نمط متكرر يمكن تتبعه بصورة متسقة تكررت في علاقة الولايات المتحدة بعدد من الحلفاء الأفارقة خاصة في العام الأخير.
فلا يُعد ويليام روتو وجهاً جديداً على السياسة الكينية، بعد أن شغل منصب نائب رئيس الجمهورية لعشرة أعوام كاملة قبل أن يفوز في انتخابات الرئاسة لعام 2023. كما أسهمت أزمة انتخابات ديسمبر 2007، وما فجرته من موجة من أعمال العنف واسع النطاق في لفت الانتباه الدولي لويليام روتو المنتمي لجماعة كالينجين بعد أن ظهر اسمه على قوائم المتهمين من جانب المحكمة الجنائية الدولية؛ ليصدر بحقه حكم في يناير 2012؛ بسبب تورطه في جرائم ضد الإنسانية شملت القتل والتهجير القسري؛ وهو ما لم يعرقل توليه منصب نائب رئيس الجمهورية أوهورو كينياتا، قبل أن تقوم المحكمة بإصدار قرار أثار الكثير من الجدل بإسقاط التُّهم الموجهة ضد روتو بسبب ما اعتبرته "تأثيراً سياسياً في الشهود". يضاف هذا إلى تاريخ طويل لروتو في المساءلة القضائية أمام المحاكم الوطنية بسبب قضايا فساد بدأت في عام 2001، واستمرت حتى بعد توليه منصب نائب الرئيس، وتتعلق تلك القضايا بممارسات مالية معيبة تشمل الاستحواذ غير القانوني على الأراضي والفساد المالي وغيرها.
وبدلاً من أن يسهم هذا السجل الممتد لروتو في وضع عقبات أمام تطور علاقته بالولايات المتحدة، جاء عامل آخر ليعزز أهميته كحليف رئيسي في شرق إفريقيا، وهو العامل المتعلق بتوجهاته المعادية لتنامي الحضور الصيني، التي عبر عنها بوضوح نادر في حملته الانتخابية التي تعهد فيها بوقف الاستدانة من الصين لتقليص نفوذها في كينيا، وبالإفصاح عن كافة تعاقدات الحكومة الكينية مع الصين خلال فترة حكم الرئيس أوهورو كينياتا، وبترحيل العمالة الصينية من بلاده فور انتخابه رئيساً لوقف التأثير السلبي لهذه العمالة في ارتفاع معدلات البطالة بين المواطنين الكينيين. وعلى الرغم من أن زيارة روتو لبكين في شهور رئاسته الأولى قد قللت نسبياً من حدة تنفيذ الإجراءات المعادية للصين على النحو الذي عبر عنه خلال الحملة الانتخابية، فإنها لم تسهم في إحداث تغيير على مستوى توجهات روتو الاستراتيجية، وهو ما دفع الولايات المتحدة للتعويل عليه بقوة كركيزة لتبلور كتلة إقليمية تسعى للحد من التمدد الصيني في شرق إفريقيا.
وبالمثل، جاء الدعم الأمريكي الكبير الذي قدم إلى الرئيسين الكونغولي فيلكس تشيسيكيدي والزامبي هاتشيليما، في أعقاب مواقف مماثلة من الصين. فقد أعلن الرئيس الكونغولي تشيسيكيدي في عام 2021 عن اعتزامه مراجعة وإعادة تقييم التعاقدات التي وقعها الرئيس السابق جوزيف كابيلا مع الصين خلال سنوات حكمه، وفي مقدمتها التعاقد الموقع في عام 2008، الذي منح الصين امتيازات كبيرة للتنقيب عن النحاس والكوبالت مقابل تقديم دعم كبير للكونغو الديمقراطية في مجال البنية التحتية. وقد كان ملف مراجعة هذا التعاقد الذي تراه الكونغو غير منصف على رأس الموضوعات محل النقاش خلال زيارة الرئيس تشيسيكيدي للصين في مايو 2023. وبعد ثمانية أشهر من المراجعة التفصيلية والدقيقة تم إقرار تحميل الصين التزامات إضافية في مجال البنية التحتية تقضي بقيام الصين بتعبيد 7 آلاف كيلومتر من الطرق البرية عبر أقاليم البلاد المختلفة.
ومنذ إقدام تشيسيكيدي على مراجعة تعاقدات بلاده مع الصين استقبل صوراً متعددة من الدعم الأمريكي جاء أبرزها في سبتمبر 2023 بإعلان الولايات المتحدة عن قيامها بتمويل مشروع ممر لوبيتو للتنمية الذي يربط الكونغو الديمقراطية بزامبيا وأنغولا عبر طريق بري متطور وخط للسكك الحديدية لتيسير تصدير المعادن الكونغولية عبر الأطلسي، وذلك من خلال الآلية الأمريكية التي تحمل اسم الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار. ولم يقتصر الدعم الأمريكي لتشيسيكيدي عند هذا الحد، بل تجلت أبرز مظاهرة في قيام الولايات المتحدة بغض الطرف عن الانتخابات الرئاسية التي أجرتها الكونغو الديمقراطية في ديسمبر 2023، والتي أسفرت عن فوز تشيسيكيدي بولاية ثانية على الرغم مما شاب العملية الانتخابية من مخالفات إجرائية متعددة كانت تقابل عادة بمواقف أمريكية متشددة.
ولا يختلف الموقف كثيراً بالنسبة لزامبيا التي تم تضمينها في مشروع ممر لوبيتو في أعقاب السياسة المتشددة التي يتبناها رئيسها هاكيندي هيشيليما تجاه الصين. فمنذ أن كان أحد رموز معارضة الرئيس السابق إدغار لونغو، بدأ هيشيليما في إطلاق حملات سياسية مناوئة للتمدد الصيني عبر نشاط الشركات وتصدير الأيدي العاملة؛ وهو ما أدى لمساءلته قضائياً في نهاية عام 2019 بعد أن ندد في تصريحاته باستحواذ شركة صينية على شركة "زافكو" المملوكة للدولة، والعاملة في مجال الأخشاب؛ ما أطلق موجة من الاضطرابات في مدينة كيتوي. وبعد توليه الرئاسة، شهدت العلاقات مع الصين مظاهر متعددة للتراجع أبرزها الحملات الأمنية التي تستهدف "العصابات الصينية" العاملة في مجال المخدرات والجرائم السيبرانية، وما واكبها من مظاهر لتقييد الحضور الصيني في البلاد.
آفاق المستقبل:
تجدر الإشارة إلى ثلاث ملاحظات مهمة تتعلق بمستقبل المقاربة الأمريكية الجديدة في إدارة العلاقة مع الحلفاء الأفارقة، ترتبط الملاحظة الأولى منها بحقيقة أن التحول القائم هو نتاج لمراجعات مكثفة ومطولة للنهج الأمريكي في التعامل مع إفريقيا جنوب الصحراء شاركت فيه العديد من الجهات الأمريكية المعنية وانعكست مؤشراته المبكرة في عدد من الوثائق الرسمية التي تواتر صدورها في السنوات الأخيرة؛ الأمر الذي يعني أن هذه المقاربة تتمتع بفرص حقيقية للاستمرار والتطور بغض النظر عن نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستعقد مطلع نوفمبر 2024. ففي حال فوز الرئيس بايدن بولاية ثانية سيكون من المنتظر تسارع الخطوات الأمريكية في السير وفق المقاربة الجديدة استمراراً لنهج الإدارة الديمقراطية الحالية؛ وهو الأمر الذي يتوقع حدوثه كذلك في حال فوز دونالد ترامب بالانتخابات، في ظل المكانة المركزية التي تتمتع بها قضية المنافسة الاقتصادية مع الصين في إفريقيا في المقاربة الجديدة؛ وهو ما سيشكل نقطة التقاء مهمة مع التوجهات الاستراتيجية لترامب التي عبر عنها في فترة رئاسته بين عامي 2017 و2020.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالآفاق المحتملة لاتساع دائرة الحلفاء الأفارقة المستجيبين للمقاربة الأمريكية الجديدة، خاصة في ظل ما كشف عنه السلوك الأمريكي من عدد من مظاهر التغير الجوهري خاصة فيما يتعلق بتخفيض مستوى الاشتباك مع الأوضاع الداخلية للدول الإفريقية على المستويين السياسي والحقوقي؛ الأمر الذي قد يفتح الباب أمام عدد من الدول الإفريقية الراغبة في تعزيز علاقتها بالولايات المتحدة على الرغم من مشكلاتها الداخلية مثل: إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وموزمبيق وأنغولا، فضلاً عن دول الساحل الإفريقي التي قد تجد مصلحة في كسر الاعتمادية المفرطة على روسيا.
وأخيراً، تتصل الملاحظة الثالثة بصعوبة التقييم المبكر لآثار المقاربة الأمريكية الجديدة على الدول الإفريقية في ظل الحاجة للمزيد من التجارب على أرض الواقع، ولمزيد من الوقت الذي يسهم في الوقوف بدقة على التداعيات الكاملة لهذه المقاربة على الدول الإفريقية في الأمدين المتوسط والطويل. ففي الوقت الحالي تبدو المؤشرات مختلطة إلى حد بعيد. فبينما تقدم المقاربة الأمريكية الجديدة فرصاً حقيقية للدول الإفريقية لتجاوز "الحقبة الصينية" التي أدت فيها بكين الدور الأبرز في المجال الاقتصادي في القارة خاصة في المشروعات الكبرى للبنية التحتية والتعدين بظهور منافس اقتصادي قوي يتمثل في الولايات المتحدة، تظل هناك خطورة كبيرة تتمثل في ارتفاع مستوى الاستقطاب الدولي في القارة الإفريقية؛ الأمر الذي من شأنه أن يضيق هامش المناورة أمام الدول الإفريقية، فضلاً عن تصدير حالة التنافر للبنية السياسية الداخلية للدول الإفريقية بما قد يشكل مصدراً محتملاً للاضطرابات.