عرض: نشوى عبد النبي
مع تصاعد مكانة الصين خلال العقد الأخير في السياسة العالمية، طُرحت تساؤلات غربية من قبيل، هل: سيكون المستقبل للصين، كيف يمكن منعها من الإضرار بالقوى الغربية الديمقراطية؟ حتى إن بعض النخب الغربية تدعو إلى حرب باردة جديدة ضد الصين. على الجانب الآخر، تتخذ بعض النخب في الصين موقفاً أكثر عدوانية ضد الغرب، خاصة تجاه الولايات المتحدة.
في ظل سوء الفهم المتبادل بين الغرب والصين، يسعى الكاتب ديفيد داوكوي لي، في كتابه "رؤية الصين للعالم: إزالة الغموض عن الصين لمنع الصراع العالمي" إلى فحص مخاوف الغرب من الصعود الصيني، واستعراض الاختلاف الغربي الصيني، والذي يتركز حول التنافر الفكري والأيديولوجي بين الجانبين؛ إذ يصعب على النخب الغربية فهم الأيديولوجية الصينية. فضلاً عن أن تعداد سكان الصين الهائل يثير قلق الغرب؛ فإمكانية نمو الصين بوتيرة أسرع وتربعها على صدارة أكبر اقتصاد في العالم تبعث على التوتر في ظل مرور القوى الغربية، بما فيها الولايات المتحدة بظروف سياسية واقتصادية صعبة. من هنا، يستهدف الكتاب محاولة تعزيز التفاهم بين الصين والغرب، من خلال فهم الداخل الصيني ونظرة العالم ومدى استفادته من صعود بكين.
الصين من الداخل:
لا يمكن فهم نظام الحكم في الصين المعاصرة، دون فحص دور الحزب الشيوعي الحاكم والذي خاض قبل توليه السلطة حروباً عسكرية، واستخدم تكتيك البراغماتية والقدرة على التكيف من أجل الفوز والبقاء في السلطة، وفي هذا الصدد يختلف هذا الحزب اختلافاً جوهرياً عن الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية وروسيا (الاتحاد السوفيتي سابقاً). كما أن الحزب منظم ومُدار بشكل مدروس؛ إذ يستفيد من تاريخ الحكم السياسي الصيني الذي يمتد لآلاف السنين.
ويشرح الكاتب كيفية طريقة عمل الحكومة المركزية في الصين، مع التركيز على دور الحزب الشيوعي الصيني في التنسيق بين مختلف الهيئات الحكومية وشبه الحكومية؛ وهو ما يشكل نظاماً متطوراً للحكم الاجتماعي والسياسي.
تطرق الكاتب أيضاً إلى كيفية اختلاف الحكومات المحلية الصينية عن نظيراتها الغربية في ثلاثة جوانب رئيسية: (1) يتمتع مسؤولو الحكومات المحلية الصينية بنطاق أوسع من بكثير من العمليات والصلاحيات مقارنة بنظرائهم الغربيين (2) يعمل مسؤولو الحكومات المحلية الصينيين كرؤساء تنفيذيين للاقتصاد المحلي (3) يحتاج مسؤولو الحكومات المحلية الصينية إلى التفاعل بشكلٍ وثيق مع المسؤولين على المستويات الأعلى، كما يتنافسون مع نظرائهم على الترقيات التي يقررها هؤلاء المسؤولين ذوي المناصب العليا.
من جانب آخر، يُعد الفساد قضية اجتماعية مهمة في الصين، ففي الحياة اليومية، مثل: تخليص الجمارك على الحدود، والتعرض للفحص من قبل شرطة المرور، والتقدم بطلب جواز سفر، أصبحت الصين خالية إلى حد كبير من الفساد؛ إذ يخضع المسؤولون المعنيون لمراقبة صارمة للغاية، وفقاً للكاتب.
أما نظام الاقتصاد الصيني، فالأساس فيه هو تدخل الحكومة في العديد من الجوانب الاقتصادية، وهو ما يعتقد الغربيون عادة أنه عيب كبير. مع ذلك، لو كان هذا عيباً حقاً -بحسب الكاتب- لما تمكن الاقتصاد الصيني من النمو بهذه السرعة ولمدة طويلة. علاوة على ذلك، تجنبت الصين بنجاح أزمة مالية خلال العقود الأربعة الماضية من خلال النمو السريع، والتي واكبت حلقات النمو الاقتصادي السريع في كلٍ من: الولايات المتحدة، واليابان، وألمانيا، وكوريا.
كما أن غالبية مؤسسات الدولة تعمل وتتنافس في السوق مثل، الشركات الخاصة، وتخضع مؤسسات الدولة لإصلاحات مستمرة، وسيتحول معظمها إلى شركات حديثة مشابهة لشركة (IBM) أو (Bosch) بدلاً من السيطرة المباشرة على مؤسسات الدولة، كما تحتفظ الحكومة الصينية في الغالب بأسهم في شركات مختلفة. وتشكل الشركات الخاصة القوى الأكثر ديناميكية وراء النمو الاقتصادي للصين؛ إذ تمثل أكثر من 75% من الناتج الاقتصادي للبلاد، وتسهم في توفير نحو 90% من فرص العمل غير الحكومية. لهذا السبب، من الضروري فهم آلية عمل الشركات الخاصة ومؤسسيها، ورواد الأعمال الصينيين.
في مجال التعليم، تحتل الاختبارات مركز الصدارة في نظام التعليم الصيني؛ مما يؤدي إلى تفاقم قلق الطلاب وأولياء الأمور. وعلى الرغم من أنه من المحتمل تنفيذ إصلاحات كبيرة في نظام التعليم؛ فإنه من المتوقع أن يستمر النظام في إنتاج مجموعة ضخمة من العمالة الماهرة والمكتسبة انضباطاً عالياً، وفي الوقت نفسه، سيحتاج استقطاب المواهب الإبداعية من الخارج أو تنميتها إلى التعاون الدولي في هذا القطاع.
يشرح الكاتب أيضاً أن الإنترنت والإعلام الصينيين يتميزان بخاصيتين مثيرتين تتجاوزان ظاهرة الرقابة الحكومية الصارمة المعروفة، إحداهما أن بنيتهما الداخلية أكثر انفتاحاً بكثير من الطبقات الخارجية، والأخرى أن هنالك ضغطاً متزايداً من أجل مزيد من الانفتاح؛ إذ من المتوقع أن يشهد الإنترنت والإعلام الصينيين إصلاحات كبيرة ستؤدي إلى تخفيف الرقابة.
ومع ازدياد ثراء الصين يتسع اهتمام السكان بالبيئة، علاوة على ذلك، حددت القيادة العليا الصينية حماية البيئة كأولوية قصوى ليس فقط لكسب شعبية لدى السكان المحليين، لكن أيضاً لعرض قدرتها على الحكم الرشيد للعالم، إذ إن نظام الحكم المركزي الصيني يمنحه القدرة على أن يكون فعالاً بشكل خاص في هذه القضية.
أما على مستوى التعداد السكاني، فبعد سرد بعض الأسباب المحتملة التي تجعل الصين تتمتع بعدد سكان ضخم، والتي أوضحها الكاتب في تناوله للداخل الصيني، إلا أنه في بداية عصر الإصلاح والانفتاح، تم تنفيذ سياسة الطفل الواحد؛ مما أدى إلى تقليل النمو السكاني العالمي بما يصل إلى ثلاثمئة مليون نسمة، وتم بعد ذلك التخلص التدريجي من سياسة الطفل الواحد بحلول عام 2020.
يخلص الكاتب في تحليله للداخل الصيني إلى أن قادة هذا البلد يستلهمون التاريخ عند اتخاذ قرارات مصيرية، كما يضعون في اعتبارهم كيف سيحكم عليهم التاريخ؛ مما يؤثر في قراراتهم. كما يشير أيضاً إلى أن معظم الصينيين يدركون أن الولايات المتحدة هي الدولة الأقوى والأكثر هيمنة في العالم، ولا تزال كذلك. على النقيض من ذلك، يعتقد العديد من الصينيين أنه من الأهمية مقاومة أية جهود تقودها الولايات المتحدة لاحتواء الصين.
الاستفادة من الصعود:
ينتقل الكاتب ديفيد داوكوي إلى طرح عدد من الأسئلة التي تكشف عن نظرة العالم للصين، منها: هل صعود الصين فقاعة عملاقة ستنفجر، كما حدث مع الاتحاد السوفيتي واليابان؟ هنا يرى الكاتب أن الصين تختلف عن الاتحاد السوفيتي السابق واليابان، ومن المرجح جداً أن يستمر صعودها، بسبب اقتصاد السوق في الصين، كما أن متوسط مستوى الدخل في الصين لا يزال يمثل حوالي 20% من متوسط الدخل في الولايات المتحدة، كما يتمتع النظام السياسي الصيني بدعم شعبي من السكان.
أما السؤال التالي الذي طرحه الكاتب فهو: هل تتبع الصين نموذجها الخاص للحكم الاجتماعي والسياسي؟ أي، هل يوجد نموذج صيني؟ وهل يختلف عن الغرب؟ وهل من المرجح أن تستمر قوة الصين ونفوذها في الارتفاع؟ هنا، يشير الكاتب إلى أن العديد من الباحثين الصينيين غير راغبين في مناقشة مثل هذا السؤال؛ إذ يشعرون أنه لا يزال يتعين حل العديد من المشكلات. وحتى لو كان هناك نموذج صيني، فمن غير المحتمل أن تقوم بكين بتصنيفه وتصديره إلى بقية العالم؛ إذ يدرك القادة في الصين جيداً أن البيئات الثقافية والتاريخية الصينية تجعل مثل هذا العمل مستحيلاً.
وعلى الرغم من أنه من السابق لأوانه الادعاء بأن الصين أنشأت نموذجاً صينياً للحكم الاجتماعي والسياسي؛ فإن هناك بالفعل سمات بارزة للحكم الصيني تشمل حكومة تتحمل المسؤولية الكاملة وانضباطاً داخلياً لحزب مهيمن ودبلوماسية تركز على الاحترام، كما أنها تحتاج قبل تصدير نموذجها إلى معالجة قضاياها الداخلية بشكل صحيح، ومحاولة الحفاظ على التعاون مع الولايات المتحدة مع التمسك بموقف حازم بشأن القضايا ذات الأهمية المحورية بالنسبة للصين؛ أي قضية تايوان وقدرة التحسين التكنولوجي.
أخيراً، يتساءل الكاتب: هل سيكون صعود الصين جيداً أم سيئاً لبقية دول العالم، بما في ذلك الغرب؟ هنا، يجادل بأن صعود الصين سيكون جيداً للناس العاديين في بقية أنحاء العالم؛ إذ يرى أن ذلك الصعود لن يتسبب في حرب باردة أو ساخنة بين الصين والولايات المتحدة، على الرغم من أن العديد من الباحثين توقعوا أو حتى جادلوا بوقوع مثل هذه الحرب.
تكمن حجة الكاتب الرئيسية في هذا الصدد أن الصين لم تتبع مسار صعود قوة غربية؛ ومن ثم فإن توقع حدوث حرب صينية أمريكية بناءً على التاريخ الغربي غير قابل للتطبيق، كما أن صعود الصين سيوفر فرصاً اقتصادية جديدة لمعظم سكان العالم، وسيجلب المزيد من السلع العامة العالمية مثل: التقدم الأسرع في العلوم والتكنولوجيا واستكشاف الفضاء وحفظ السلام في المناطق التي مزقتها الحروب ومكافحة أكثر فعالية لتغير المناخ. أضف إلى ذلك، أن صعود الصين سيرفع ضغط المنافسة؛ ومن ثم يدفع العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة، إلى إنفاق المزيد على العلوم والتكنولوجيا والتعليم؛ وهو أمر مفيد لهذه الدول.
المصدر:
David Daokui Li, China's World View: Demystifying China to Prevent Global Conflict, Norton & Company, 2024.