بالتزامن مع التوترات الجارية في الشرق الأوسط بعد السابع من أكتوبر2023، وزيادة الاهتمام بالدور الإيراني في ذلك المشهد المعقد، خاصة بعد المناوشات المتبادلة بين إسرائيل وإيران عقب استهداف الأولى للقنصلية الإيرانية في دمشق، ثم أخيراً سقوط مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي وموته هو ووزير الخارجية، كان للسينما الإيرانية حضور بارز في مهرجان كان السينمائي، الذي أقيم في الفترة من 14 إلى 25 مايو 2024. ففي واقع الأمر تؤدي السينما الإيرانية دوراً شديد الخصوصية في عرض سردية مغايرة عن إيران؛ تكشف عن أن ثمة وجهاً آخر لها، ولم يكن هذا المهرجان الاستثناء الوحيد، فقد تمكنت السينما الإيرانية، رغم التضييق الشديد عليها، من ترسيخ مكانتها في أهم المهرجانات والمحافل السينمائية الدولية، فيما شكل حالة فريدة في تفعيل دور السينما كإحدى أبرز أدوات الاتصال في العلاقات الدولية.
الوجه الآخر:
في الرابع والعشرين من مايو 2024، وبعد يومين من تشييع جنازة الرئيس إبراهيم رئيسي، خطف المخرج الإيراني محمد رسولوف أنظار العالم، وهو يسير على السجادة الحمراء في مهرجان كان، بعد أن تمكن من الهروب من إيران، حاملاً صور الممثل ميثاق زاره، والممثلة سهيلة غلستاني -اللذين ما زالا في خطر داخل إيران، بعد أن أديا الأدوار الرئيسية في فيلمه الذي أثار غضب طهران- في مشهد تداولته الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي عبر العالم.
أصدرت السلطات في إيران حكماً بالسجن والجلد ومصادرة الممتلكات ضد رسولوف؛ إذ تم اتهامه بتصوير فيلم "بذرة التين المقدس" من دون تصريح، والإضرار بالأمن القومي، فضلاً عن ظهور الممثلات في الفيلم من دون حجاب؛ وهو ما يخالف بشكل صارخ قواعد الرقابة الإيرانية. تمت أيضاً ملاحقة فريق عمل الفيلم واحتجازه والتحقيق معه في محاولة للضغط على المخرج لسحب فيلمه من العرض في المسابقة الرسمية لمهرجان كان. ووجد رسولوف نفسه أمام خيارين: السجن أو الهروب.
أثارت رحلة هروب رسولوف، التي كانت محفوفة بالمخاطر، مشاعر كثيرين؛ إذ هرب عبر طريق سري وعر بين الجبال سيراً على الأقدام، وتنقل من مكان لآخر، في رحلة استغرقت حوالي 28 يوماً إلى أن تمكن بمساعدة السلطات الألمانية من مغادرة الحدود الإيرانية. وقد صرح أنه اختار المنفى بقلب مثقل حتى يتمكن من مواصلة تنفيذ أفلامه وحمل قصص شعبه للعالم؛ إذ قال: "مهمتي هي حمل سردية حقيقية لما يحدث في إيران؛ إذ نجد أنفسنا كإيرانيين عالقين، وهو ما لن أتمكن من القيام به لو تم سجني".
تدور أحداث الفيلم حول محقق يتصرف بشكل مضطرب يتسم بالشك والريبة في كل شيء، في الوقت الذي تكتسح فيه الاحتجاجات شوارع إيران، ولاسيما عقب اختفاء سلاحه الخاص بشكل غامض؛ إذ يشك في أن زوجته وبناته يقفن خلف اختفاء السلاح فيفرض قيوداً صارمة داخل بيته؛ مما يزيد من تصاعد التوترات. ويقول رسولوف، إن الفيلم مستوحى من أحداث وشخصيات حقيقية تجسد واقع المجتمع الإيراني الحالي، وما يحدث خلف أبوابه المغلقة، وفي نفوس شخصياته على تنوعها واختلافاتها.
قبيل عرض الفيلم في مهرجان كان، وبعد أيام قليلة من وفاة الرئيس إبراهيم رئيسي، وقع مجموعة من المخرجين العالميين من مختلف الجنسيات رسالة تضامن مع رسولوف وغيره من المخرجين الإيرانيين، الذين يعانون من الهجوم المستمر؛ استجابة لدعوة رسولوف للسينمائيين حول العالم لدعم السينمائيين الإيرانيين في مواجهة النظام الإيراني، الذي يضيق الخناق على الحياة الاجتماعية حسب ما جاء في الرسالة. كما أصدرت نقابة المخرجين الأمريكية بياناً تندد فيه بما حدث له، وتتضامن معه، وتؤكد أن حرية الإبداع لا يمكن فصلها عن حقوق الإنسان.
وقف رسولوف داخل قاعة النور، التي تصل سعتها لحوالي 2300 فرد بصحبة فريق عمل الفيلم، الذي تمكن من الخروج من إيران، ومنه ممثلات دون حجاب، وتم رفع العلم الإيراني مكتوباً عليه شعار المتظاهرين في إيران "المرأة، الحياة، الحرية" وسط تصفيق الحضور من جميع أنحاء العالم لقرابة 15 دقيقة، في مشهد جسد صورة أخرى لإيران غير تلك الصورة الرسمية التي يصدرها النظام.
توج الفيلم بجائزة خاصة، استحدثتها لجنة التحكيم، من أجل رسولوف وفيلمه تقديراً للتكلفة الفادحة التي اضطر لتحملها هو وفريقه من أجل خروج الفيلم للنور، وفي رسالة بأن الفن ليس جريمة تستحق العقاب، وأثناء تسلمه الجائزة، ذكر رسولوف فريق عمل فيلمه الذي ما زال في خطر في إيران، وعبر عن عمق حزنه لما يعيشه الشعب الإيراني يومياً من ألم ومعاناة تحت حكم النظام، كما دعا للتضامن مع كل الفنانين والسينمائيين العالقين في السجون الإيرانية؛ إذ لم تكن تلك المرة الأولى التي يتعرض فيها رسولوف وغيره من السينمائيين الإيرانيين للسجن أو الملاحقة.
سردية إنسانية:
استطاع السينمائيون في إيران إنجاز أفلامهم في إطار هامش الحرية الذي كان يتضاءل أو يتسع نسبياً حسب توجهات من يحكم الدولة؛ إذ يسمح التيار الإصلاحي بهامش أكبر للسينمائيين من التيار المحافظ. وحتى مع تعدد أحكام السجن والإقامة الجبرية والمنع من مزاولة المهنة، تمكن بعض السينمائيين، مثل: جعفر بناهي ورسولوف وأصغر فرهدي وغيرهم، من تصوير أفلامهم خلسة، وتهريبها لتعرض في أكبر المهرجانات العالمية.
فعلى سبيل المثال، استطاع جعفر بناهي تصوير فيلم "تاكسي" عام 2015 بعيداً عن أعين الأمن، وقام فيه بدور سائق التاكسي الذي يجوب الشوارع ويلتقي بعدة ركاب يمثلون مختلف أطياف المجتمع. وقد تم تهريب الفيلم عن طريق ناقل بيانات (USB) داخل كعكة، وعرض في مهرجان برلين؛ إذ حصل على جائزة الدب الذهبي.
حصل هؤلاء السينمائيون على دعم من المهرجانات الدولية، وأصبح لهم مكان شبه دائم يستطيعون من خلاله تقديم سرديتهم إلى العالم. فمنذ حصول فيلم "طعم الكرز"، لعباس كيارستمي، على السعفة الذهبية في كان عام 1997، لم يتوقف الحضور الدائم للسينما الإيرانية في أهم المهرجانات الدولية حتى الآن. حتى حينما لم يتمكن السينمائيون من الحضور، كانت أفلامهم حاضرة ومقعدهم محفوظ؛ إذ تكرر مشهد المقعد الخالي في المهرجانات الدولية الكبرى، التي حرصت على تركه للمخرجين الإيرانيين الذين غيبهم السجن أو المنع من السفر عن المشاركة في تلك المهرجانات؛ مما كان يجلب تعاطفاً دولياً معهم ومع الشعب الإيراني، وفي المقابل يكرس صورة سلبية عن النظام الإيراني.
أثارت هذه الحالة الفريدة الانتباه العالمي والكثير من التساؤلات حول قدرة السينما الإيرانية على الازدهار رغم كل المعوقات. ففي الوقت الذي يتسم فيه النظام الإيراني بالمحافظة الشديدة، وإخضاع المجتمع لنظام صارم ورقابة مشددة، تأتي الأفلام الإيرانية لتنفذ من هامش المساحة المتاحة لها وتخترق الحواجز قدر المستطاع وتنقلنا لقلب المجتمع الإيراني، وما يحدث خلف أبوابه المغلقة، وقد نجح السينمائيون الإيرانيون في التغلب على كل المعوقات، وتقديم سردية مغايرة تنقل الواقع السياسي والاجتماعي للداخل الإيراني بعذوبة ومهارة جعلتها محط أنظار العالم.
وقد زاد من الاهتمام العالمي بتلك الأفلام، الحضور البارز للدور الإيراني على الساحة الدولية والرغبة في معرفة ما يحدث داخل هذا المجتمع، فهو مغاير تماماً للمجتمعات الغربية ونمط الحياة فيها. وبالفعل نجحت الأفلام الإيرانية في الكشف عن الوجه الآخر لإيران، وجه تعاطف معه العالم من منطلق المشتركات الإنسانية؛ مما خلق حالة التواصل مع الشعب الإيراني حتى في خضم الغضب والعداء للنظام الإيراني.
في حين كان الصراع بين الولايات المتحدة وإيران في أوجه بسبب البرنامج النووي الإيراني، وفرض مزيد من العقوبات على إيران، فاز فيلم "انفصال" من إخراج أصغر فرهدي في 2012 بأوسكار أحسن فيلم أجنبي في سابقة تاريخية؛ ليصبح أول فيلم إيراني يفوز بالأوسكار. وفي عام 2017 فاز أصغر فرهدي بالأوسكار للمرة الثانية عن فيلمه "البائع" الذي يتناول حياة زوجين يقعان تحت ضغوط نفسية واجتماعية شديدة أثناء محاولتهما للبحث عن العدالة بعد تعرض الزوجة للاعتداء، ولم يذهب فرهدي لتسلم الجائزة اعتراضاً منه على قرارات ترامب بحظر السفر على مواطني سبع دول من الشرق الأوسط من بينها إيران. وأرسل خطاباً يندد بتلك القرارات، قرأته في الحفل بالنيابة عنه أنوشي أنصاري، وهي مهندسة ورائدة فضاء أمريكية من أصل إيراني. وقد لاقى هذا الموقف احتفاءً عالمياً كبيراً حتى داخل هوليوود نفسها. وكانت المفارقة أن النظام أثنى على موقف فرهدي وأيد رسالته للولايات المتحدة وهنأه بالفوز.
تأزم اجتماعي:
من خلال التركيز على الحياة العادية اليومية للإيرانيين، ظلت السينما الإيرانية قادرة على الكشف عن تطور الأوضاع في الداخل الإيراني، وتقديم سردية مغايرة أمام العالم على مدار عقود من جيل إلى جيل من السينمائيين. ففي عام 2022 تناول فيلم "أخوات ليلى" من إخراج سعيد روستائي، تدهور أوضاع الطبقة المتوسطة تحت وطأة سياسات النظام الحاكم من جهة، والعقوبات الاقتصادية من جهة أخرى، وجسد الفيلم الوضع الاجتماعي المتأزم لدرجة تنذر بانفجار وشيك. وهو ما حدث بعد أشهر قليلة من عرض الفيلم في مهرجان كان، حين اندلعت احتجاجات واسعة في سبتمبر 2022 على خلفية مقتل ماهسا أميني، ذات الـ 22 عاماً، بعد توقيفها من قبل شرطة الأخلاق؛ لأنها لم تكن ترتدي الحجاب بشكل منضبط. فعقب إعلان وفاتها انطلقت المظاهرات في شوارع إيران مرددة شعار: "المرأة، الحياة، الحرية" وقامت النساء بخلع الحجاب وحرقه وقص شعورهن في الشوارع بشكل يتحدى قواعد النظام الصارمة بشأن فرض الحجاب وانطلقت فيديوهات تحمل تلك المشاهد إلى العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
في هذا الإطار، منع فيلم "أخوات ليلى" في إيران، وتم سجن بطلته حينما نشرت صوراً لها من دون الحجاب تضامناً مع الحراك، كما صدر حكم بالسجن ضد المخرج والمنتج لقيامهما بعرض الفيلم في مهرجان كان من دون تصريح. كما تعرض العديد من السينمائيين الذين دعموا الحراك للتوقيف والسجن والمنع من مزاولة المهنة.
أخيراً، تمكنت السينما الإيرانية من ترسيخ صورة مغايرة عن إيران عبر أفلامها التي انطلقت إلى العالم. ففي العصر الحالي، وخاصة مع ثورة الذكاء الاصطناعي، يصعب احتكار الصورة أو السردية الواحدة، فقد أتاحت أدوات الاتصال الحديثة فرصاً لانتقال صور وسرديات مغايرة في عالم متصل بشكل غير مسبوق، وهذه المتغيرات الجديدة سوف تؤثر في طبيعة الاتصال الدولي، وديناميكيات العلاقات الدولية؛ مما سينعكس حتماً على كل المسلمات التي كانت سائدة على مدار العقود الماضية؛ وهو الأمر الذي يجب أن يدفع الجميع لإعادة الحسابات، وإجادة توظيف وسائل الاتصال في ظل القواعد الجديدة للبيئة الدولية، وعلى رأس تلك الوسائل السينما.