عندما نتحدث عن الإبداع فأول ما يخطر بالذهن هو الفنون، فهى عنوان الحضارة ومظهرها، ولم يشارك الإنسان فيها أحد من المخلوقات على هذا الكوكب، فهى سمة بشرية خالصة، ودليل قاطع على أن هناك بشريًا قد مر من هذا المكان، يشمل ذلك الرسم والتصوير والموسيقى والآداب، وإذا استطاع الذكاء الاصطناعى إتقان هذه النوعية من الفنون، فهل يعنى هذا أن الذكاء الاصطناعى أصبح بشريًا إلى حد كبير، وأنه ولأول مرة سوف تكون لدينا حضارة جديدة ليست من صنع الإنسان وحده؟. أم سوف نعتبرها تقليدًا لما تعلمته الخوارزميات من فنون؟.
التفوق الإبداعى:
ليس هناك شك فى أن الذكاء الاصطناعى أصبح هو الفرشاة التى ترسم، والإزميل الذى ينحت، والقِيثَارَة التى تُطرب، والطبل الذى يدمدم، والوتر الذى يطنطن، بل إن الأمر تعدى ذلك، فأصبح هو الممثل الذى يقوم بمشاهد البطولة عبر القفز من أعلى المبنى المحترق لإنقاذ البطلة كما فى أفلام السينما، من دون أن يكون لهذا الشخص وجود من الأساس، فهو مجرد رسوم تخيلها وحركها الذكاء الاصطناعى، بتعديل طفيف من المبرمجين، دون أن تكون هناك كاميرات تصور أو مخرج ينفذ أو مصمم للأداء يراقب الحركة أو أفراد للسلامة يحافظون على حياة هذا الممثل، ليس البطل فحسب هو الذكاء الاصطناعى، بل حتى المشاة فى الشوارع داخل الأفلام، والمقاتلون فى المعارك الحربية، والديناصورات التى تعود من الماضى، كل ذلك من فعل الذكاء الاصطناعى.
فهو المخرج للمشهد، والمنفذ للحركة، والمؤلف للموسيقى التصويرية، بل قد يكون هو أيضًا مؤلف القصة وكاتب السيناريو، وما دورنا نحن البشر إلا المشاهدة فقط، ثم التصفيق الحاد إعجابًا بهذا العمل الإبداعى. ولكن هل فعلًا ذلك فن؟، هل يُعبر عن روح العصر والثقافة السائدة؟، هل هو انعكاس لحياتنا؟، قد تكون الإجابة بنعم، فهو يعبر عن واقع نعيشه بالفعل، لكن اسمح لى بأن أعيد صياغة السؤال مرة أخرى، هل هو انعكاس لما يدور بخيالنا نحن البشر من هواجس وأفكار ومخاوف وأحلام؟، أم انعكاس لما يدور بخيال الذكاء الاصطناعى؟، فى هذه الحالة فإن الإجابة قد تحتوى معانى كثيرة يصعب الحسم أيهما أدق.
فقد تحول الذكاء الاصطناعى من كونه أداة تساعد البشر على فنونهم كالفرشاة والقلم إلى عنصر مستقل بذاته مُفعم بالحركة وله رؤيته المستقلة، صحيح أنه تعلم هذه الرؤية من تجارب إنسانية بحتة استغرقت من الإنسان السنين الطويلة، لكنه أتقنها وتفوق عليها فى دقائق معدودة حتى أصبح مبدعًا بنفسه، مستقلًا بذاته.
فالقلم قد هرب من يد المؤلف، وأصبح يكتب من خالص أفكاره وتجاربه التى تعلمها فى دقائق قليلة، والفرشاة تخلصت من أسر الرسام، وانطلقت تجرى على اللوحة تُصور ما يدور بخيالها، والإزميل يتمايل مستقلًا داخل الحجر، والخشب ينحت نقوشًا قد تظل قرونًا من الزمان، أما بول ووكر فقد عاد بعد سنوات من موته لكى يستكمل سلسلة أفلامه (Fast and Furious).
هذا الواقع الذى قد نعيشه قريبًا ويمهد لبداية «عصر السايبورج» حينما يذوب كل ذلك فى يدٍ صناعية متطورة قادرة على الرسم والنقش والنحت والتأليف والكتابة، تم بيعها لبشر ضعفاء محدودى المعرفة والعلم والفكر، فأصبحوا فنانين ومبدعين، بل وإن شئت فقل سحرة.
إبداع أم تعلُّم؟
فحينما نرى لوحة جميلة أو تمثالًا رائعًا لمن سوف نصفق؟، هل لذلك الإنسان البشرى؟، أم لهذه اليد الحديدية؟، هل سيتعاطف البشر مع لوحة لفتاة صغيرة يجرى دمعها على الخد؟، أم سوف يتساءلون عن قدرة الذكاء الاصطناعى على إتقان هذه الرسمة؟، هل سنرتبط عاطفيًا بالفنون أم نعتبرها مجرد سلع استهلاكية لا تعبر عن شىء مطلقًا ولا تحوى بداخلها قصة يمكن سردها؟.
قد تكون هناك وجهات نظر مختلفة حول الإبداع وحول الاحتفاء بالمُبدع، فإذا كانت نظرتنا للإبداع على أنه عملية بشرية بحتة، وأن الفنون يجب أن تحاكى حياة البشر، فلماذا نُعجب بشكل بيت العنكبوت ونتأمل فى جماله الهندسى؟، ولماذا تعجبنا خلية النحل وأشكالها السداسية المنتظمة، ولم ننبهر بجمال مستعمرات النمل؟، وإذا قصرنا رؤيتنا للإبداع على أنه عملية بشرية، فإنها ستكون نظرة متحيزة وقاصرة، وإذا تجردنا من هذه النظرة، واعترفنا نحن البشر بأننا لسنا فقط المبدعين على هذا الكوكب، فلم لا نتعاطف مع فنون الذكاء الاصطناعى؟، قد تكون المشكلة الحقيقية ليست فى رؤيتنا للإبداع، بقدر ما هى فى موقفنا منه وشعورنا نحوه.
قد يجادل البعض فى أن الإبداع عملية ناتجة عن خبرات وعواطف البشر، وأن ما يمكن تحقيقه من خلال الخوارزميات والبيانات ليس إبداعًا بقدر ما هو تعلُّم. لكن من قال إن الإبداع البشرى هو ضرب من الخيال؟، بل هو أيضًا عملية تعلُّم، هو نبتة لفكرة صغيرة فى عقل الإنسان استقاها من كلمة أو مشهد أو خبرة مر بها فى حياته، فلقحها ونمّاها وكبرها حتى أبدع فيها، لكن حينما سألناه عن مصدرها قال إنما هو فقط الإلهام. وما هو فى الحقيقة إلا عملية تعلُّم أيضًا.
* رئيس وحدة التطورات التكنولوجية