انعقدت فى دبى الدورة الحادية عشرة من القمة العالمية للحكومات، خلال الفترة من 12 إلى 14 فبراير 2024، بمشاركة عالمية واسعة أكدت أهمية هذه القمة بوصفها المنصة العالمية الأهم والأبرز لاستشراف مستقبل الحكومات حول العالم. إذ شهدت هذه الدورة مشاركة العديد من رؤساء الدول والحكومات، وأكثر من 85 منظمة دولية وإقليمية، إضافة إلى 120 وفدًا حكوميًا ونخبة من قادة الفكر والخبراء العالميين، وأكثر من 4000 مشارك، وأكثر من 300 وزير من دول العالم المختلفة.
وفى ضوء الزخم الكبير الذى شهدته أعمال القمة العالمية للحكومات فى دورتها الحالية، والأفكار التى طُرحت فيها، يسعى هذا المقال إلى استقراء أهمية هذه القمة، وأبرز النتائج والإنجازات التى حققتها، ودورها فى استشراف مستقبل حكومات العالم.
منصة عالمية للحوار ودعم الابتكار:
منذ انطلاق دورتها الأولى قبل أكثر من عشر سنوات، تحولت القمة العالمية للحكومات إلى منصة عالمية للحوار الحكومى من خلال ما تضمنته من مئات الحوارات والمنتديات التى ناقشت التحديات والقضايا الأكثر إلحاحًا التى تواجه الحكومات فى العالم، وتسليط الضوء على الحلول الجديدة وغير التقليدية لمواجهتها، وتبادل الخبرات والآراء بشأن كيفية تطوير الخطط والسياسات الحكومية لتحقيق طموحات الشعوب فى التنمية والازدهار، والاستعداد للتغيرات المستقبلية بهدف التكيف معها والاستفادة من الفرص التى تتيحها.
وخلال دوراتها السابقة، شهدت القمة العالمية للحكومات عقد أكثر من 1600 جلسة وورشة عمل، ومشاركة أكثر من 40 ألفًا من الخبراء والمسؤولين الحكوميين والشخصيات العامة، وتحدث فى فعالياتها أكثر من 1550 متحدثًا طرحوا أفكارهم وتصوراتهم تجاه القضايا المطروحة. وفى دورة عام 2024، ناقشت القمة 6 محاور رئيسية، وشهدت انعقاد 15 منتدى عالميًا لبحث التوجهات والتحولات المستقبلية العالمية الكبرى فى أكثر من 120 جلسة حوارية وتفاعلية، تحدث فيها 200 شخصية عالمية من الرؤساء والوزراء والخبراء والمفكرين وصُناع المستقبل، إضافة إلى عقد أكثر من 23 اجتماعًا وزاريًا وجلسة تنفيذية بحضور أكثر من 300 وزير.
كما شهدت الدورة الحالية من القمة تطورًا نوعيًا مهمًا فى مستوى هذه الحوارات من خلال استضافة نخبة من العلماء الحائزين على جائزة نوبل فى تخصصات مختلفة، وأطلقت 25 تقريرًا استراتيجيًا بالتعاون مع شركاء المعرفة من مراكز الفكر والمؤسسات الأكاديمية والبحثية بهدف دراسة التوجهات العالمية فى مختلف القطاعات وتقديم استراتيجيات حكومية قابلة للتنفيذ، الأمر الذى رسخ مكانتها كمنصة عالمية لأصحاب العقول وصُناع القرار.
وهذا الكم الكبير من التنوع فى الفعاليات والجلسات والمنتديات الحوارية والخبراء من مختلف الثقافات والجنسيات، يثرى، بلاشك، النتائج والمخرجات التى خرجت بها القمة، ولاسيما فيما يتعلق بتحقيق الهدف الأساسى من عقدها والمتمثل فى استشراف مستقبل العمل الحكومى والتركيز على أولوية الحلول المبتكرة لمواجهة التحديات العالمية والارتقاء بحياة المجتمعات الإنسانية.
ولا تقتصر مكاسب القمة على تبادل الخبرات والأفكار والرؤى، وإنما تمتد أيضًا لتمثل منصة لتعزيز التعاون والتنسيق بين الحكومات فى العديد من المجالات، إذ شهدت الدورات السابقة من القمة توقيع أكثر من 80 اتفاقية ثنائية بين حكومات العديد من دول العالم لتعزيز التعاون فى مجالات مختلفة. فيما شهدت دورة هذا العام عقد اجتماعات وزارية رفيعة المستوى، مثل: الاجتماع الوزارى للوزراء المعنيين بالتنمية المستدامة، واجتماع وزراء المالية العرب، واجتماع تشاورى لوزراء العمل بدول مجلس التعاون الخليجى، واجتماع وزراء الطاقة لمناقشة مستقبل الطاقة الهيدروجينية، وغيرها من الاجتماعات التى تستهدف تنسيق المواقف وتعزيز التعاون المشترك، الأمر الذى يجعل من القمة مساهمًا مهمًا فى تعزيز التعاون الحكومى الدولى.
ويتمثل المكسب الآخر المهم للقمة فى تشجيع قيم الإبداع والابتكار فى العمل الحكومى، ليس فقط من خلال إبراز أفضل الممارسات الدولية فى العمل الحكومى، ولكن أيضًا من خلال تكريم الوزراء والشخصيات التى حققت نجاحات استثنائية فى عملها بما يخدم تطوير العمل الحكومى، إذ تقدم القمة عدة جوائز عالمية، تقديرًا لوزراء الحكومات والمبتكرين والمبدعين لمساهماتهم الاستثنائية فى بناء مجتمع أفضل للبشرية، من بينها جائزة أفضل وزير فى العالم، وجائزة ابتكارات الحكومات الخلاقة، والجائزة العالمية لأفضل التطبيقات الحكومية، وجائزة التميز الحكومى العالمى.
الذكاء الاصطناعى محور التركيز:
فرضت تقنيات الذكاء الاصطناعى نفسها بقوة على أجندة الاهتمامات الدولية فى السنوات الأخيرة مع تنامى التنافس العالمى فى هذا المجال، ودخول هذه التقنيات مختلف مجالات العمل البشرى، فضلًا عن النمو السريع لسوق الذكاء الاصطناعى عالميًا، إذ تشير بعض التقديرات إلى أن سوق الذكاء الاصطناعى العالمية ستبلغ نحو 1.6 تريليون دولار فى عام 2030 مقارنةً بنحو 165 مليار دولار عام 2023. فيما ذهبت تقديرات أخرى إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، إذ توقعت أن يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعى إلى نحو 15 تريليون دولار بحلول عام 2030.
استنادًا إلى ذلك، حظى ملف الذكاء الاصطناعى بنصيب مهم من مناقشات القمة العالمية للحكومات 2024، وأكدت مداخلات الخبراء المشاركين وكبار المساهمين العالميين فى تقنيات الذكاء الاصطناعى فى الجلسات المختلفة أن هذه التقنيات ستشكل مستقبل المشهد الاقتصادى العالمى، وستسهم فى تحسين جودة الحياة وخلق فرص كثيرة للتعاون والعمل بين شعوب ودول العالم، إضافة إلى مساهمتها فى تعزيز الاستثمارات من خلال تسهيل التواصل مع مختلف المستثمرين فى دول العالم. كما قلل الخبراء المشاركون من المخاوف المرتبطة بتطور تقنيات الذكاء الاصطناعى، فى حين أكدت مداخلات أخرى أهمية حوكمة تقنيات الذكاء الاصطناعى ووضع ضوابط قانونية وأخلاقية لها حتى لا تُستخدم بشكل خاطئ. وكان لافتًا فى الدورة الحالية للقمة حضور عدد كبير من أهم مطورى تقنيات الذكاء الاصطناعى فى العالم، مثل: سام ألتمان، الرئيس التنفيذى لشركة (OpenAl) المطورة لتطبيق «تشات جى بى تى»، وجو ليماندت، مدير شركة (alpha.school)، ود. يان ليكون، الحائز على جائزة (Turing)، ونائب الرئيس وكبير علماء الذكاء الاصطناعى فى (Meta)، وجنسن هوانج، المؤسس والرئيس التنفيذى لشركة (NVIDIA)، وغيرهم، مما جعل من القمة أكبر منصة حوار لمطورى الذكاء الاصطناعى فى العالم.
ويتوافق هذا التركيز على ملف الذكاء الاصطناعى مع اهتمام دولة الإمارات بهذا الملف، إذ أدركت الدولة منذ وقت مبكر أهمية توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعى وتأثيرها الإيجابى فى إحداث طفرة تطويرية فى أساليب تقديم الخدمات الحكومية والعمل الحكومى بشكل عام. وفى سبيل ذلك، عملت الدولة على تبنى العديد من السياسات والاستراتيجيات التى تستهدف تطوير وتوظيف تقنيات الذكاء الاصطناعى فى تحقيق أهدافها المستقبلية الطموحة، ومن ذلك إطلاق استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعى فى أكتوبر 2017، واستراتيجية الإمارات للاقتصاد الرقمى، والبرنامج الوطنى للذكاء الاصطناعى، كما تم تشكيل مجلس الإمارات للذكاء الاصطناعى والتعاملات الرقمية «البلوك تشين» عام 2018، وتمت إعادة تشكيل المجلس عام 2021، بهدف الإشراف على تكامل تقنيات الذكاء الاصطناعى داخل الدوائر الحكومية وقطاع التعليم. وتم تأسيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعى، بهدف تعليم الطلاب من أصحاب المواهب وتطوير قدراتهم فى هذا المجال المهم.
وتم تتويج هذه الخطوات بإصدار صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، بصفته حاكمًا لإمارة أبوظبى، فى 22 يناير 2024، قانونًا بإنشاء مجلس الذكاء الاصطناعى والتكنولوجيا المتقدمة، ليكون مسؤولًا عن تطوير وتنفيذ السياسات والاستراتيجيات المرتبطة بتقنيات واستثمارات وأبحاث الذكاء الاصطناعى والتكنولوجيا المتقدِّمة فى أبوظبى، وتم تعيين سمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، رئيسًا للمجلس، وسمو الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، نائبًا للرئيس؛ فى تأكيد واضح للأهمية التى أصبح يحظى بها هذا الملف ضمن أجندة القيادة الإماراتية.
تصفير البيروقراطية الحكومية:
أصبحت دولة الإمارات نموذجًا عالميًا فى مجال تطوير العمل الحكومى، وتحاول الكثير من الحكومات حول العالم استنساخ التجربة الإماراتية والاستفادة منها. ومع ذلك، لا تتوقف حكومة دولة الإمارات عن مواصلة التطوير لتحقيق هدفها المتمثل فى أن تكون أكفأ حكومة فى العالم وأكثرها مرونة. وضمن هذا السياق، جاء الإعلان فى 8 نوفمبر 2023 عن إطلاق برنامج «تصفير البيروقراطية الحكومية» الذى يسعى إلى تبسيط وتقليص الإجراءات الحكومية وإلغاء الإجراءات والاشتراطات غير الضرورية، إذ تم توجيه الوزارات والجهات الحكومية بالتطبيق الفورى للبرنامج بإلغاء ما لا يقل عن 2000 إجراء حكومى، وخفض ما لا يقل عن 50% من المدد الزمنية للإجراءات، وتصفير جميع الاشتراطات والمتطلبات غير الضرورية خلال عام، وسيتم تقييم نتائج العمل والاحتفاء بأفضل الإنجازات بنهاية عام 2024.
ويتضمن هذا البرنامج رسالة واضحة مفادها أن عملية التطوير الحكومى لا تتوقف، وأن الإصرار على أن تكون حكومة الإمارات هى أفضل الحكومات فى العالم راسخ وثابت، والهدف فى النهاية هو تلبية توقعات المواطنين والمقيمين وتعزيز رفاهيتهم وسعادتهم، وتحقيق الأهداف الطموحة لدولة الإمارات خلال الخمسين عامًا المقبلة.
ولا يبتعد تنظيم القمة العالمية للحكومات عن هذا الهدف الطموح، وإنما يقع فى القلب منه؛ لأن تنظيم القمة يستهدف الوقوف على أفضل الممارسات الحكومية فى العالم من أجل الاستفادة منها فى تطوير العمل الحكومى فى دولة الإمارات، واستشراف مستقبل الحكومات من أجل الإعداد لهذا المستقبل وتعزيز مكانة الحكومة الإماراتية كأفضل حكومة فى العالم حاليًا ومستقبلًا.
* كاتبة إماراتية