عرض: عبدالمنعم علي
يتطلب فهم سياسة الولايات المتحدة وطريقة صنع القرار والسياسات في هذا البلد إدراك سياق وقواعد ومؤسسات نظامها الديمقراطي، فضلاً عن معضلات هذا النظام من حيث تباين وجهات النظر بين جماعات وأعراق عديدة، ونمط الديناميكية السكانية في المجتمع، وتنامي جماعات الضغط، والأهم مدى تمثيل النظام الديمقراطي للأغلبية؛ إذ إن طريقة تمرير مشروعات القوانين في الكونغرس الأمريكي تجعل لـ "موافقة الأقليات" اليد الطولى، وليس حكم الأغلبية، كما القاعدة الأساسية المفترضة في أي نظام ديمقراطي.
في هذا السياق، تأتي أهمية كتاب جون ر. بوند وآخرون بعنوان: "تحليل سياسة الديمقراطية الأمريكية والعلوم السياسية" الصادر في العام 2024، والذي يستهدف وضع إطار تاريخي ودستوري لفهم السياسة الأمريكية ونظامها السياسي وقيمها الديمقراطية، وكيفية التعبير عنها في هيكل وتطور الحكم ومؤسسات صنع السياسة العامة في الولايات المتحدة.
الديمقراطية بين الأغلبية والأقلية:
يستند فهم عملية الديمقراطية الأمريكية إلى ثلاثة مفاهيم أساسية، وهي: السياسة، الحكومة، السيادة الشعبية. تجسد السياسة هنا عملية إدارة الصراع وحله، والتي تنتج عن التفاعلات البشرية، وتقوم بها الحكومة الأمريكية، بينما يعطي مبدأ السيادة الشعبية السلطة ممارسة دورها بشكلٍ قانوني في تخصيص القيم والموارد.
وعلى خلاف نمطي الحكومات الاستبدادية (حكم الفرد) والأوليغارشية (حكم الأقلية)، فإن السيادة في النظام الديمقراطي هي ملك لجميع المواطنين. فالديمقراطية تُجسد عملية تتعلق بكيفية اتخاذ القرارات، وتعتمد على المؤسسات والقواعد التي تنظم وتدير النظام السياسي، وتشمل خصائص تلك العملية: الحق في التصويت، الاختلاف العلني مع قرارات الحكومة والمواطنين الآخرين، تقديم التماس إلى ممثل منتخب، تشكيل منظمة ذات أهداف سياسية، والمشاركة في حملات سياسية وغيرها.
تساعد تلك الديمقراطية على ضمان وجود نظام يتمتع فيه الجميع بالمساواة وحرية المشاركة في اتخاذ القرارات الملزمة. وعملياً، تعتمد السيادة الشعبية على مدى توافق عملية اتخاذ القرارات في النظام السياسي مع ثلاثة مبادئ أساسية: حكم الأغلبية، الحرية، المساواة. وتفترض تلك السيادة أن الناس، في أغلب الأحيان، عقلانيون وقادرون على تقرير ما هو في صالحهم، ولضمان أخذ مصالح الجميع في الاعتبار؛ يحق للجزء الأكبر من السكان التأثير في القرارات التي تؤثر في حياتهم من خلال آليات مثل الانتخابات، وعلى الحكومة الالتزام بجعل ذلك ممكناً من خلال حماية الحقوق الفردية في الحرية والحق في الحياة، وتشكل هذه المعتقدات المركزية التي تقوم عليها الديمقراطية الأمريكية التزاماً عاماً بالسيادة الشعبية.
مع ذلك، فإن عملية الديمقراطية قد تكون لها نتائج غير ديمقراطية، كما يظهر في التاريخ الأمريكي عندما دعمت الأغلبية سياسات حرمان المواطنين من حقوق التصويت والفرص التعليمية والاقتصادية على أساس الجنس والعرق، واستجابت الهيئات التشريعية لهذه التفضيلات بقوانين تحرم بشكل منهجي الحقوق والحريات المدنية لبعض المواطنين. هنا، يمكن اعتبار عملية صنع هذه السياسات من حيث الشكل ديمقراطية؛ إذ يتم إجراء الانتخابات ومناقشة المشرعين، ويصبح تفضيل الأغلبية قانوناً، لكنها من حيث الجوهر أدت إلى تجريد أعداد كبيرة من المواطنين بشكلٍ منهجي من قدرتهم على المشاركة الكاملة في الحياة السياسية. ولم تكن النتيجة النهائية غير عادلة فحسب، بل كانت غير ديمقراطية. فمن خلال حرمان بعض المواطنين من حقوقهم في المشاركة في عملية تحديد من يحصل على ماذا، جعلت العملية الديمقراطية الولايات المتحدة أقل ديمقراطية. لذا فإنه؛ إذا كان حكم الأغلبية هو المبدأ التوجيهي الأساسي لترجمة السيادة الشعبية إلى قرارات سياسية في الديمقراطيات؛ إلا أنه لا بد من موازنته مع حقوق الأقليات.
معضلات الديمقراطية الأمريكية:
تشهد ممارسة الديمقراطية الأمريكية معضلات أساسية أولاها، أن الولايات المتحدة من أكثر الدول اكتظاظاً بالسكان، وبالتالي تتباين خصائصهم من حيث الخلفيات الدينية والثقافية والديمغرافية والجغرافية والعنصرية والإثنية والاجتماعية والاقتصادية. أنتج هذا التنوع نطاقاً واسعاً من المصالح والتفضيلات السياسية المختلفة، فقد يكون لدى السود أو البيض أو اللاتينيين وجهات نظر مختلفة حول الحقوق والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
المعضلة الثانية، تكمن في فكرة ديناميكية المجتمع؛ وهو ما يجعل التعامل بحزم مع السياسة الأمريكية أمراً صعباً؛ لأن الصراعات التي تعالجها الديمقراطية تتشكل على خلفية متغيرة باستمرار، فجغرافياً، نمت الولايات المتحدة غرباً، وتوسعت حدودها بشكل مطرد نحو المحيط الهادئ وما وراءه، وباتت تشمل الولايات الخمسين ما يقرب من 3.6 مليون ميل مربع ويبلغ عدد سكانها حوالي 332 مليون نسمة. وأثَّر النمو السكاني والجغرافي بشكلٍ عميق في السياسة الديمقراطية، فعلى سبيل المثال، يعتمد عدد ممثلي الولايات في الكونغرس الأمريكي على عدد السكان؛ ومن ثم فإن التحولات السكانية يمكن أن تغير حجم وفد الكونغرس في الولاية الواحدة، وبالتالي باتت السلطة في الكونغرس تتبع الاتجاهات السكانية.
تتمثل المعضلة الثالثة، في الأيديولوجيا والحزبية؛ إذ تُعد الأيديولوجية مهمة للسياسة الديمقراطية لأنها تساعد الناس على معرفة ما يفعلونه، وما لا يدعمونه حتى في القضايا التي ليس لديهم سوى القليل من المعرفة أو الاهتمام بها، وفي الولايات المتحدة يمتد نطاق المعتقدات الأيديولوجية عبر طيف من الليبراليين إلى المحافظين ومن اليسار إلى اليمين. وبرز هذا البُعد الأيديولوجي والحزبي بصورة كبيرة في طبيعة العلاقة بين الولايات والحكومة الفدرالية، خاصة فيما يتعلق بمجموعة من القضايا السياسية المهمة للولايات مثل: الهجرة والتنظيم البيئي.
يُمثل الدستور الأمريكي ترجمة لواقع الديمقراطية ويُنظَر إليه باعتباره نصاً علمانياً مقدساً، وهو لا يوفر فحسب الإطار القانوني للنظام السياسي، بل إنه إرث الحكمة الديمقراطية المتفق عليها من الآباء المؤسسين للأمة الأمريكية. يتضمن الدستور مبادئ عدة، أولها، وجود حكومة ممثلة إذ يسمح النظام التمثيلي بالتداول وصقل وجهات النظر العامة من خلال مجموعة من المواطنين الذين تتفوق معرفتهم بالصالح العام على معرفة عامة الناس، كما يسمح أيضاً بالحكم الشعبي الفعال على مساحة أكبر بكثير مما تسمح به الديمقراطية المباشرة، مما يضع تحت سيطرتها تنوعاً أكبر من الأشخاص والمصالح مقارنة بالديمقراطية المباشرة. أيضاً، تجعل الديمقراطية التمثيلية من الصعب على المجموعات ذات المصالح المتنوعة أن تتجمع معاً لتكوين أغلبية يمكن أن تهدد الحقوق الأساسية للأقليات أو عامة الناس.
أما المبدأ الثاني، فيكمن في تجزئة السلطة، كإحدى وسائل حماية الحرية، وهي تقسيم السلطة بين عدد من المؤسسات والمكاتب المختلفة؛ بحيث لا يتمتع أي فرد بسلطة مطلقة، كما لا تتمكن أي طبقة أو فصيل واحد من السيطرة على الحكومة. ويتجلى المبدأ الثالث، في الفصل بين السلطات؛ إذ إن كل فرع من فروع الحكومة الثلاثة مخول بممارسة نوع مختلف من السلطة الحكومية: السلطة التشريعية تضع القوانين، والسلطة التنفيذية تنفذها، والسلطة القضائية تفسرها.
أثر جماعات الضغط:
برزت مشكلة جماعات الضغط أو المصالح الخاصة بجلاء في الديمقراطية الأمريكية في عام 2016 إثر إطلاق دونالد ترامب، خلال حملته الانتخابية للرئاسة وعوداً تتعلق "بتجفيف المستنقع"، والقضاء على تأثير المصالح الخاصة في الحكومة الفدرالية. إلا أنه بعد تولي إدارة ترامب السلطة، لم تكتف فقط بتزويد البيت الأبيض والعديد من الوكالات الفدرالية الأخرى بالعشرات من جماعات الضغط، بل رفضت في البداية تزويد مكتب الأخلاقيات الحكومية بأسمائهم ونسخاً من الإعفاءات التي يجب على المدافعين عن مجموعات المصالح الخاصة تأمينها لهم.
شهدت جماعات الضغط والمصالح نمواً في الولايات المتحدة. فما بين عامي 1959 و1990، زاد العدد الإجمالي لتلك الجماعات بنسبة 281% عبر مجموعة واسعة من القضايا، كان أكثرها بروزاً المصالح التجارية. فقد وجدت بعض الدراسات لجماعات الضغط في واشنطن أن أكثر من 59% منها كانت من جمعيات الأعمال والتجارة، في حين شكلت النقابات أقل من 2%، ومجموعات المواطنين غير الربحية أقل من 10%، وذلك في عام 2001. هذه النتائج لا تزال قائمة؛ إذ يمثل أكثر من 73% من جماعات الضغط في واشنطن في عام 2020 مصالح تجارية مختلفة (44% من الصناعات المالية والبناء والاتصالات والإلكترونيات، 14% من الصناعات الزراعية والطاقة والموارد الطبيعية، 16% من قطاع الرعاية الصحية)، بينما يمثل 2% العمال و15% المصالح التعليمية والدينية وغير الربحية والموظفين الحكوميين.
ويرى الباحثون أن الأحزاب السياسية تتشابه مع جماعات المصالح؛ من حيث أنهما عبارة عن منظمات تشارك في العمل السياسي سعياً لتحقيق أهداف معينة. مع ذلك، فالفارق بينهما أن الأحزاب تنخرط في بيئة صنع القرار، بينما تستخدم جماعات المصالح تقنيات الضغط؛ بما في ذلك دعم انتخاب المرشحين المتعاطفين مع المصلحة الخاصة لجماعة بعينها، إضافة إلى أن الأحزاب السياسية تعالج نطاقاً واسعاً من القضايا، في حين يكون تركيز مجموعات المصالح أضيق.
الكونغرس وصنع القرار:
يُعد الكونغرس آلية رئيسية في صنع السياسة الأمريكية. مع ذلك، فقد وافق أقل من واحد من كل أربعة أمريكيين على الوظيفة التي كان يقوم بها الكونغرس في الفترة بين عامي 2010 و2020. بحلول يناير 2022، انخفضت تلك الموافقة إلى 18% فقط، ويرى حوالي ثلث الناخبين فقط أن أعضاء الكونغرس يستحقون إعادة انتخابهم، وهو ما يُعد مفارقة. فالكونغرس، خاصة مجلس النواب، هو المؤسسة الحكومية التي يفترض أن تكون الأقرب والأكثر استجابة لإرادة الشعب.
بشكل عام، لا يوافق الأمريكيون بشدة على الكونغرس، لكن لديهم آراء إيجابية بشأن ممثليهم؛ يمكن تفسير ذلك بأن الكثير من المواطنين يعتقدون أن هناك اتفاقاً واسعاً على المشكلات التي تواجه الأمة وكيفية حلها ويشاركهم في ذلك من يمثلونهم في الكونغرس. مع ذلك لا يوجد إجماع واسع النطاق حول ما ينبغي للحكومة أن تفعله لحل مشكلات الأمة، أو حتى حول ماهية تلك المشكلات.
ومن المفترض أن الكونغرس الأمريكي، كهيئة تشريعية تتمتع بسلطة سن القوانين وإلغائها، يمثل الشعب، وقوانينه ملزمة. لكن لا يزال التمثيل مرتبطاً بالولايات؛ إذ يضمن لكل ولاية ممثلاً واحداً على الأقل في مجلس النواب واثنين في مجلس الشيوخ، كما أن الاستخدام المستمر لمصطلح الكونغرس المكون من مجلسين، والذي أنشأه الدستور الحالي يعترف بالوضع الخاص للولايات في هذا النظام الفدرالي. فالكونغرس يُعد مؤسسة للتمثيل وصنع السياسات في آن واحد، أي أنه يمثل احتياجات ومصالح الناس العاديين ويسعى إلى ترجمتها إلى قوانين. ومن أجل تمرير مشروع القانون؛ يجب أن يحصل على موافقة مجموعة من المشرعين في كل مرحلة، وأن العملية التشريعية ليست تعبيراً عن حكم الأغلبية بل موافقة الأقليات؛ لأنه في كل مرحلة؛ تتمتع أقلية مختلفة من الأعضاء بسلطة تعطيل مشروع القانون أو منعه من الانتقال إلى مرحلة القرار التالية.
ختاماً، فإن النظام السياسي الأمريكي يتسم بنوع من الديمقراطية التمثيلية التي تشهد مشاركة المواطنين بصورة غير مباشرة في صنع القرار الأمريكي عبر المؤسسات المختلفة؛ في ضوء ما رسخه الدستور من مبادئ ومرتكزات رئيسية تتعلق بالمساواة والحرية؛ إذ يُعد الدستور عاكساً لتطلعات الشعب ومنظماً للعملية السياسية وطبيعة عمل المؤسسات داخل الولايات المتحدة، مع ذلك يواجه هذا النظام معضلات بسبب جماعات الضغط والأقليات وغيرها؛ تنعكس على طريقة صنع القرار والسياسات؛ ومن ثم مخرجات السياسة الأمريكية.
المصدر:
Bond, J. R., Smith, K. B., & Andrade, L. (2024). Analyzing American Democracy: Politics and Political Science (5th ed.). Routledge.