شهدت العاصمة التشادية إنجامينا، في 28 فبراير 2024، إطلاقاً كثيفاً لإطلاق النار، وذلك في أعقاب إعلان الحكومة عن موعد الانتخابات الرئاسية، بعد نحو ثلاث سنوات من مقتل الرئيس التشادي السابق، إدريس ديبي؛ إذ خلفه ابنه، محمد ديبي (كاكا)، على رأس مجلس عسكري انتقالي، يفترض أن يحكم البلاد لحين إجراء الاستحقاقات الرئاسية المُرتقبة في مايو 2024، وقد أثار التصعيد الأخير في إنجامينا العديد من التساؤلات بشأن مآلات المشهد السياسي والأمني في تشاد، والانعكاسات الإقليمية المحتملة للتصعيد الداخلي الراهن.
تصعيد حاد:
شهدت الأيام الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في حدّة التوترات والعنف داخل تشاد، بعدما اندلعت الاشتباكات في 27 فبراير 2024؛ عقب قيام قوات الأمن باعتقال أحد قيادات "الحزب الاشتراكي بلا حدود" (PSF)، وهو أحمد الترابي، وقتله لاحقاً؛ الأمر الذي دفع أعضاء الحزب لشن هجوم على مقر "الوكالة الوطنية لأمن الدولة" (ANSE)؛ إذ تفاقمت حدة المواجهات بين الطرفين. ويمكن عرض أبعاد هذا التصعيد على النحو التالي:
1- روايات مُتضاربة بشأن أسباب التصعيد: تتضارب الروايات بشأن الأسباب الرئيسية التي دفعت إلى إطلاق النار الكثيف في العاصمة التشادية؛ إذ حمّلت الحكومة في إنجامينا هذا الأمر لـ"الحزب الاشتراكي بلا حدود" (PSF)؛ بدعوى قيام الحزب بشن هجوم على مقر "الوكالة الوطنية لأمن الدولة"؛ رداً على اعتقال القوات الحكومية لأحد أعضاء الحزب، أحمد الترابي، وقتله فيما بعد؛ إذ أوضحت الحكومة التشادية أن الترابي، حاول اغتيال رئيس المحكمة العليا في البلاد، سمير آدم النور.
كذلك، أعلن وزير الاتصالات التشادي، عبدالرحمن كلام الله، أن يايا ديلو ديجيلو، رئيس الحزب الاشتراكي بلا حدود لجأ إلى حزبه في أعقاب قيادته لهجوم استهدف مقر "الوكالة الوطنية لأمن الدولة"، وأنه رفض الاستسلام واستخدم القوة ضد القوات الحكومية، ما دفع الأخيرة للتعامل معه، وهو الأمر الذي تسبب في مقتل ديلو.
في المقابل، نفى حزب (PSF) هذه الادعاءات، متهماً القوات الحكومية بمهاجمة مقر الحزب عقب محاولة عناصر من الحزب انتشال جثة الترابي من مقر وكالة (ANSE)؛ مما أسفر عن العديد من القتلى؛ بما في ذلك رئيس الحزب، يايا ديلو ديجيلو. وكان الأخير قد نفى قبل مقتله أية علاقة لحزبه بمحاولة اغتيال رئيس المحكمة العليا.
2- هدوء حذر في إنجامينا: استمرت عملية الإطلاق الكثيف لإطلاق النار لساعات طويلة في العاصمة التشادية إنجامينا خلال يومي 27 و28 فبراير 2024، قبل أن تبدأ حالة من الهدوء الحذر تعم البلاد، بيد أن هناك عديداً من التقديرات حذرت من إمكانية استئناف التصعيد من قبل قوى المعارضة خلال الأيام المقبلة، ولعل هذا ما قد يفسر استمرار قطع خدمات الإنترنت في البلاد من قبل الحكومة التشادية وانتشار قوات الأمن في العديد من المواقع الرئيسية بالعاصمة إنجامينا.
3- قلق متنامٍ من الارتدادات القبلية: أثار مقتل السياسي التشادي المعارض، يايا ديلو، حالة من القلق المتنامي في إنجامينا بشأن الارتدادات القبلية لهذه الحادثة وردود الفعل المُحتملة من قبل قبيلته وأقاربه ناهيك عن حلفائه السياسيين، ولاسيما وأن هناك بعض الأحزاب المعارضة وعدداً من حركات التمرد المسلحة، بما في ذلك حركة "فاكت" التي قادت في إبريل 2021 هجوماً على العاصمة التشادية أفضى إلى مقتل الرئيس السابق إدريس ديبي، وصفت الحادث بأنه اغتيال سياسي مُدبّر من قبل السلطات الانتقالية في البلاد للتخلص من خصومها.
وتجدر الإشارة إلى أن "الحزب الاشتراكي بلا حدود" كان قد تأسس في عام 2015؛ باعتباره حزباً معارضاً لنظام الرئيس السابق، إدريس ديبي، لكن بعد وفاة الأخير؛ عمد الرئيس الانتقالي الحالي، ديبي الابن، إلى تعليق أنشطة الحزب لمدة ثلاثة أشهر؛ بدعوى مشاركة الحزب في الاحتجاجات المناهضة للسلطة الانتقالية.
سياقات مُتداخلة:
يأتي التصعيد الأخير في تشاد مُتسقاً مع السياقات الداخلية والإقليمية المُتشابكة، والتي تضفي على المشهد الداخلي في إنجامينا مزيداً من التعقيد؛ إذ يمكن عرض أبعاد هذه السياقات على النحو التالي:
1- تحوّل الولاءات القبلية: تُعد إشكالية الولاءات القبلية المتحولة أحد أبرز محددات التوترات السياسية في تشاد، والتي تضفي على المشهد السياسي مزيداً من حالة عدم اليقين، وقد كشفت التطورات الأخيرة في إنجامينا، وأعمال العنف التي أدت إلى مقتل يايا ديلو؛ عن الروابط العرقية المعقدة والمتغيرة التي تربط النخبة السياسية التشادية، وربما يدعم هذا الطرح صلة القرابة التي تربط رئيس "الحزب الاشتراكي بلا حدود"، والذي قُتل خلال الاشتباكات الأخيرة، يايا ديلو، بالرئيس الانتقالي الحالي للبلاد، محمد إدريس ديبي، كما أن ديلو كان أحد قيادات حركة الإنقاذ الوطني الحاكمة في البلاد، والتي كانت قد تأسست من خلال ديبي الأب، قبل أن ينشق ديلو عن الحركة ويؤسس حزب (PSF) المعارض في 2015، ويصبح أحد أكبر المنتقدين لنظام حكم أسرة آل ديبي.
وقد ربطت بعض التقديرات بين تصاعد حدّة التوترات بين يايا ديلو والرئيس الانتقالي الحالي، ديبي الابن، من ناحية والتصدعات المتفاقمة داخل أسرة آل ديبي من ناحية أخرى، ولاسيما بعد انشقاق الأخ الأصغر لديبي الأب، صالح ديبي، في 10 فبراير 2024، وانضمامه لـ"الحزب الاشتراكي بلا حدود"، بعدما قرر حزب "حركة الإنقاذ الوطني" الحاكم دعم محمد ديبي كمرشح له في الانتخابات المقبلة.
2- الاستعداد للانتخابات الرئاسية المُقبلة: يأتي التصعيد الأخير الذي شهدته إنجامينا بعد أيام قليلة من إعلان هيئة الانتخابات في البلاد عن تحديد موعد للاستحقاقات الرئاسية المقبلة في 6 مايو 2024، بعد مرحلة انتقالية استغرفت نحو ثلاث سنوات، بدأت بعد مقتل الرئيس السابق، إدريس ديبي، في إبريل 2021، ورغم أن هذه الخطوة كانت أحد أبرز مطالب قوى المعارضة التشادية، فإن كثيراً من هذه القوى اعتبرت أن الانتخابات المقبلة، والتي سبقها إقرار دستور البلاد في ديسمبر 2023؛ تستهدف بالأساس تعزيز شرعية نظام ديبي الابن.
ويتسق هذا الطرح مع التقديرات التي ألمحت إلى أن ديلو كان يُعد المرشح الأكثر قدرة على منافسة محمد ديبي في الانتخابات المقبلة، ولاسيما في ظل شبكة علاقاته الداخلية الواسعة. وفي هذا الإطار، اعتبرت بعض التقديرات أن التصعيد الراهن للحكومة التشادية ضد حزب "PSF"؛ يستهدف بالأساس احتواء التهديدات المتزايدة من الأطراف المعارضة لحكم ديبي الابن داخل قبيلة الزغاوة قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
مسارات مُحتملة:
في إطار المتغيرات الأخيرة التي طرأت على المشهد الداخلي في تشاد، هناك عدد من المسارات المحتملة التي يمكن أن تفضي إليها هذه المتغيرات خلال الفترة المقبلة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تفاقم الأوضاع الأمنية: حذّرت العديد من التقديرات من احتمالية تفاقم الأوضاع الأمنية في تشاد خلال الفترة المقبلة، فعلى الرغم من الهدوء الحذر الذي يهيمن على المشهد الداخلي حالياً، فإن هذه التقديرات ألمحت إلى أن ثمة اعتقاداً سائداً بين قوى المعارضة السياسية مفاده أن النظام الحاكم بقيادة محمد ديبي مسؤول عن عملية قتل رئيس "الحزب الاشتراكي بلا حدود"، يايا ديلو، ولاسيما بعدما انتشرت تصريحات منسوبة لديبي الابن، وتأكيده ضرورة اعتقال كافة المتورطين في الاعتداء على "الوكالة الوطنية لأمن الدولة"، وهو ما قد يزيد من حالة الاحتقان الداخلي في إنجامينا، ويدفع نحو مزيد من الحشد ضد نظام محمد ديبي؛ خاصة بعدما أفادت بعض التقارير الغربية بأن قوات الأمن قامت باعتقال صالح ديبي، عم الرئيس الانتقالي الحالي، محمد ديبي.
وتتسق هذه التقديرات مع بعض التقارير الأخرى التي ربطت بين حادث مقتل ديلو خلال الأيام الأخيرة، وبين مقتل والدته وعمة الرئيس الانتقالي الحالي محمد ديبي في فبراير 2021، بعدما حاصرت قوات الأمن مقر إقامة يايا ديلو بأمر من الرئيس السابق، إدريس ديبي، إذ ترشح ديلو آنذاك ضد ديبي في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البلاد، وبعد نحو شهرين فقط من هذا الحادث قتل ديبي الأب خلال مواجهات جرت مع بعض الحركات التشادية المتمردة التي استهدفت آنذاك الإطاحة بنظام حكمه، بيد أنه حتى الآن لا يزال هناك كثير من الشكوك يهيمن على مقتل ديبي الأب.
2- إعادة استخدام تكتيكات ديبي الأب: لطالما نجح إدريس ديبي منذ وصوله للسلطة مطلع التسعينيات في استقطاب قوى المعارضة وإدارة الخلافات القائمة معها، وتوظيف التوترات الداخلية لتبرير استخدام القوة بما يُعزز سلطته واستمرار نظام حكمه لفترة وصلت لحوالي ثلاثة عقود، ولا تستبعد بعض التقديرات احتمالية نجاح ديبي الأبن في إعادة استخدام هذه التكتيكات مع قوى المعارضة الراهنة، وربما يعزز هذا الطرح نجاح محمد ديبي في استقطاب بعض مجموعات قوى المعارضة المسلحة خلال جلسات الحوار الوطني، فضلاً عن تمكنه من التحالف مع أحد أبرز قادة المعارضة السياسية ورئيس حزب المتحولون، سكيسيه ماسرا، وتولي الأخير رئاسة الحكومة التشادية الحالية.
وفي هذا الإطار، رجّحت بعض التقديرات أن يكون مقتل يايا ديلو، واعتقال صالح ديبي، حال تم تأكيد هذا الأمر، يشكل محاولة من قبل ديبي الابن لتوظيف الهجوم الذي قام به "الحزب الاشتراكي بلا حدود" على الوكالة الوطنية لأمن الدولة من أجل التخلص من خصومه الرئيسيين وأبرز مصادر التهديد داخل قبيلة الزغاوة.
وعلى المنوال ذاته، أشار تقرير صادر عن "نيويورك تايمز" الأمريكية إلى أن مقتل ديلو؛ سيفرز فراغاً كبيراً داخل قوى المعارضة السياسية في تشاد، وهو ما قد يؤثر في تماسك هذه القوى خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة، الأمر الذي سيعزز فرص نجاح ديبي الابن.
3- محورية الدور الخارجي: يشكل الدور الخارجي من قبل القوى الدولية الرئيسة الفاعلة في منطقة الساحل الإفريقي محدداً حاسماً بشأن مآلات المشهد الراهن في إنجامينا، وفي هذا الإطار رجحت بعض التقديرات احتمالية أن تعمد بعض قوى المعارضة التشادية إلى محاولة الحصول على دعم خارجي من قبل قوات "الفيلق الإفريقي" الروسي المنتشرة في منطقة الساحل الإفريقي لمحاولة الإطاحة بنظام ديبي الابن، لكن حتى الآن يبدو الموقف الروسي غير واضح إزاء الاستجابة لأي طلبات للدعم من قبل المعارضة التشادية في ظل الاجتماع الذي عقده محمد ديبي مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نهاية يناير 2024.
في المقابل؛ يمكن أن يُشكل الدعم الفرنسي لنظام ديبي الابن محدداً رئيسياً لتعزيز فرص استمراريته في السلطة؛ خاصة في ظل التجارب السابقة التي نجحت فيها باريس في دعم نظام ديبي الأب ضد محاولات بعض حركات التمرد للإطاحة به. بيد أن هناك بعض التقارير الغربية لفتت إلى أن التطورات الراهنة في تشاد ربما تدفع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، نحو تسريع وتيرة الانسحاب من منطقة الساحل؛ بما في ذلك تشاد، فقد أعلنت وزارة الدفاع الفرنسية في ديسمبر 2023 أنها بصدد تقليص الوجود العسكري الفرنسي في كافة أنحاء القارة الإفريقية، وبالتالي فحال عمدت باريس لتقليص عدد قواتها الموجودة في إنجامينا؛ فغالباً ما سيزيد هذا الأمر من احتمالية الإطاحة بنظام حكم أسرة آل ديبي في تشاد، بل وربما يخلق حالة من الفراغ الأمني التي ستكون لها ارتدادات إقليمية واسعة تزيد من تدهور البيئة الأمنية الإقليمية.
لكن، حتى الآن ما تزال تشاد تشكل أهمية خاصة بالنسبة للغرب؛ في ظل محورية دور تشاد في جهود مكافحة الإرهاب وشراكتها الفاعلة مع القوى الغربية والإقليمية؛ إذ تحتفظ فرنسا حتى الآن بنحو ألف جندي لها داخل إنجامينا، فضلاً عن طائرة حربية متمركزة هناك، كما تمتلك الولايات المتحدة مجموعة من الطائرات من دون طيار داخل تشاد، فضلاً عن استضافة الأخيرة لمقر فرقة العمل الإقليمية لمكافحة الإرهاب، وهو ما قد يزيد من صعوبة تخلي الغرب عن دعمه لنظام حكم أسرة آل ديبي.
وفي الختام، تُشكل المتغيرات الراهنة التي طرأت على المشهد الداخلي في تشاد نقطة فاصلة، يمكن أن تؤول بالبلاد نحو حافة الهاوية، من خلال تفاقم الأوضاع الأمنية، بل واحتمالية حدوث تغييرات في النظام السياسي، وفي الوقت ذاته يمكن أن تشكل هذه المتغيرات بداية سلسلة من التحركات الداخلية من قبل الرئيس الانتقالي الحالي لتعزيز سيطرته داخلياً قبيل موعد الانتخابات المقبلة؛ الأمر الذي ربما يعيد إفراز نظام شبيه بنظام ديبي الأب؛ خاصة في ظل الدعم الفرنسي لهذا النظام.