تسلم الرئيس الصيني، شي جين بينغ، في 30 يناير 2024، أوراق اعتماد السفير الأفغاني لدى بكين، بلال كريمي، في خطوة تباينت بشأنها رؤى المراقبين. ففي حين عدّها البعض بمثابة أول اعتراف بحكومة حركة طالبان في أفغانستان من إحدى القوى الدولية، فقد اعتبرها آخرون تنطوي على تناقض من جانب بكين في ظل تعاملها مع طالبان من دون الاعتراف بها رسمياً كحكومة.
وكانت الصين أول دولة تُعين رسمياً سفيراً جديداً في أفغانستان منذ سيطرة حركة طالبان على السلطة، بعد أن قدم سفيرها أوراق اعتماده في سبتمبر 2021.
وبالتالي ثمة تساؤلات مطروحة بشأن دوافع الصين لتبادل السفراء مع حكومة طالبان الأفغانية، والنتائج والتداعيات التي قد تترتب على هذه الخطوة، فضلاً عن حدود وقيود القرار الصيني في هذا الشأن.
دوافع بكين:
تحظى أفغانستان بمكانة مهمة في المنظور الاستراتيجي الصيني، باعتبارها مجالاً حيوياً ومنطقة يمكن النفاذ منها إلى العالم، في ظل رغبة بكين في استعادة وتعزيز نفوذها في جوارها الآسيوي. وبالتالي فإن ما يمكن وصفه بـ"اعتراف الصين الضمني" بحركة طالبان، يرتبط بمساعي بكين لتحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية في أفغانستان، يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- رغبة الصين في تعزيز نفوذها وسد الفراغ الأمريكي: يبدو أن الصين أدركت جدية الحكومة الأفغانية بزعامة حركة طالبان في الالتزام بوعودها بعدم استخدام الأراضي الأفغانية في تهديد أو الإضرار بمصالح دول الجوار، وعلى رأسها الصين، وهو ما جعل الأخيرة ترى أن من مصلحتها إضفاء الصفة الرسمية على علاقاتها مع الحركة. وهو ما لا يمكن فصله عن وجود رغبة صينية حثيثة في تعزيز دورها ونفوذها الإقليمي في آسيا، من خلال محاولة ملء الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021. إذ يمكن النظر إلى تقارب الصين مع طالبان باعتباره جزءاً من الصراع الاستراتيجي بين القوتين العظميين، وحرص بكين على طرح نفسها كبديل لواشنطن. ويرتبط بما سبق، رغبة الصين في إضعاف مساعي الهند، منافستها التقليدية، لتقوية نفوذها في أفغانستان، وما يعنيه ذلك من الحد من نفوذ نيودلهي في كابول لمصلحة النفوذ الصيني.
2- الاستفادة من الثروات الطبيعية الأفغانية: تمتلك أفغانستان كميات هائلة من الثروات الطبيعية والموارد المعدنية تحتاج إلى التطوير والاستفادة منها، كالنحاس والليثيوم والمعادن النادرة. كما يبلغ عدد سكانها نحو 43 مليون نسمة طبقاً لإحصائيات فبراير 2024. وبالتالي، فإن الصين تسعى للوصول إلى هذه الثروات المعدنية غير المستغلة، وإيجاد سوق لتصريف سلعها ومنتجاتها، بجانب توجيه شركاتها للاستثمار هناك. كما تُبدي الصين اهتماماً كبيراً بتأمين إمدادات النفط الأفغاني إليها، إذ بدأت عمليات استخراج النفط في 18 بئراً في حوض أمو داريا شمال غرب أفغانستان.
ويُعد الليثيوم من أهم المعادن التي قد تستفيد منها الصين في أفغانستان، خاصةً أنه يُستخدم في إنتاج بطاريات الليثيوم أيون، التي تعتبر مكوناً مهماً في الأجهزة الإلكترونية المحمولة، والسيارات الكهربائية، ولاسيما أن الصين تُعد من أكبر دول العالم في إنتاج السيارات الكهربائية. كما تُستخدم هذه البطاريات في تخزين الطاقة المولدة من مصادر متجددة، كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وهي مجالات تمتلك فيها بكين خبرات رائدة، يمكن أن تستفيد منها أفغانستان، إذ تخطط شركات صينية لاستثمار 500 مليون دولار في مجال الطاقة الشمسية هناك.
وعلى الجانب المقابل، فإن حركة طالبان تحتاج إلى الاستثمارات والمشروعات الصينية، للبدء في عمليات إعادة إعمار الاقتصاد الأفغاني الذي دمرته الحروب وأنهكته العقوبات الدولية، وهو ما سيمثل فرصة كبيرة للصين لاستئناف العمل في المشروعات الخاصة بمبادرة الحزام والطريق في أفغانستان، ومنها خط السكك الحديدية الذي يربط الصين وإيران عبر قرغيزستان وطاجيكستان وأفغانستان. وكذلك، مشروع ممر واخان لربط أفغانستان بالصين. فضلاً عن زيادة استثماراتها في مختلف قطاعات الاقتصاد الأفغاني، خاصةً قطاعات التعدين والتصنيع والزراعة والخدمات. كما تُعد أفغانستان مهمة بالنسبة للصين باعتبارها حلقة وصل لتوسيع مبادرة الحزام والطريق إلى غرب ووسط آسيا.
3- تفادي التهديدات الأمنية المُحتملة: توجد العديد من المخاوف الأمنية التي ربما دفعت الصين إلى تبادل السفراء مع حركة طالبان الأفغانية، ولاسيما أن هناك حدوداً مشتركة بين الدولتين تمتد إلى نحو 76 كيلومتراً. إذ تتخوف بكين من إمكانية قيام المسلحين الإيغور، الذين ينتمون إلى إقليم شينجيانغ في شمال غرب الصين، ويوجدون على الأراضي الأفغانية، باستهدافها بأعمال إرهابية تنفذها حركة تركستان الشرقية الإسلامية الانفصالية، والتي تعتبرها الصين تهديداً لأمنها وتصنفها منظمة إرهابية. ولذا، فإن الصين تسعى للحصول على تطمينات من حركة طالبان بعدم استخدام أراضي أفغانستان لشن هجمات إرهابية ضدها.
كما تسعى بكين إلى قيام طالبان بحمايتها من إمكانية التعرض لأي هجمات إرهابية تهدد المصالح الصينية، سواءً على الأراضي الصينية أم داخل أفغانستان نفسها، ولاسيما في ظل وجود تنظيم داعش فرع ولاية خراسان، الذي يرفض الوجود الصيني بشدة داخل الأراضي الأفغانية، ويشن بين الحين والآخر هجمات تستهدف مصالح الصين في أفغانستان. هذا بالإضافة إلى حماية استثمارات الصين ومواطنيها الذين يعملون في أفغانستان.
انعكاسات مُحتملة:
في الوقت الذي قد يترتب على اعتراف بكين بحركة طالبان الأفغانية، إحراز الصين العديد من المكاسب الاستراتيجية، فإنه سيؤدي في الوقت ذاته إلى تصاعد حدة التنافس الإقليمي في منطقة جنوب آسيا، ويمكن توضيح ذلك في الآتي:
1- تعزيز الأمن القومي الصيني: تُعد أفغانستان منطقة بالغة الأهمية للأمن الصيني، ولاسيما بالنسبة لغرب الصين، إذ يقع إقليم شينجيانغ الذي تقطنه قومية الإيغور ويتمتع بالحكم الذاتي. وبالتالي، فإن نجاح الصين في الحفاظ على أمن واستقرار حدودها الغربية، ومن ثم أمنها القومي، يُعد أحد المكاسب المهمة للتعاون مع حركة طالبان، والتي أبدت تجاوباً كبيراً مع بكين بهذا الشأن. إذ تعهدت طالبان، في مايو 2023، بعدم السماح لحركة تركستان الشرقية الإسلامية بشن هجمات ضد الصين. وفي محاولة لتهدئة مخاوف بكين، ومراقبة أنشطة الجماعات المسلحة الإيغورية، قامت حركة طالبان بنقل هذه الجماعات من مقاطعة بدخشان في شمال شرق البلاد، والتي تقع على طول حدود أفغانستان مع الصين، إلى مقاطعتي بغلان وتاخار في وسط أفغانستان.
ومن دون شك، فإن تنامي العلاقات بين الصين وحركة طالبان، قد يترتب عليه تضاؤل الدعم الذي تحظى به الجماعات المسلحة الإيغورية من جانب الحركة، وهو ما يقلل بالتالي من احتمالات استهداف هذه الجماعات للمصالح الصينية. الأمر الذي قد يشجع بكين على مطالبة حركة طالبان باتخاذ إجراءات أكثر تشدداً ضد حركة تركستان الشرقية الإسلامية.
2- دعم التعاون الاقتصادي الثنائي: تحظى أفغانستان بأهمية خاصة بالنسبة لمبادرة الحزام والطريق الصينية، في ضوء موقعها الاستراتيجي وثرواتها الهائلة، إذ ستعمل بكين على تعزيز التعاون الاستثماري والاقتصادي والتجاري مع حركة طالبان في الفترة المقبلة. وبرزت مؤخراً بعض مؤشرات تؤكد ذلك، إذ أبرمت طالبان، في يناير 2023، عقداً مع شركة شينجيانغ آسيا الوسطى للبترول والغاز الصينية (كابيك)، لاستخراج النفط من حوض أمو داريا بشمال أفغانستان، باستثمارات تبلغ قيمتها 150 مليون دولار، على أن تزيد إلى 540 مليون دولار خلال ثلاث سنوات من بداية الاتفاق، بموجب عقد لمدة 25 عاماً. وهناك مشروع يجري إنشاؤه لإقامة طريق يبلغ طوله 300 كيلومتر لربط منطقة بدخشان الأفغانية بالحدود الصينية، بما يؤدي إلى تعزيز التجارة بين الدولتين.
وفي ذات السياق، اتفقت حركة طالبان مع الصين وباكستان على توسيع مبادرة الحزام والطريق لتشمل أفغانستان، بهدف استثمار مليارات الدولارات في تمويل مشروعات البنية التحتية في الاقتصاد الأفغاني الذي تضرر من العقوبات الدولية. بجانب تمديد الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، الذي يقع ضمن ممرات هذه المبادرة، ليشمل أفغانستان. كما استأنفت الصين وأفغانستان الرحلات الجوية المباشرة بينهما، بدءاً من مايو 2023، بهدف تعزيز العلاقات الثنائية وزيادة الصادرات الأفغانية إلى الصين. وأبدت شركة "جوشين" الصينية، في إبريل 2023، اهتمامها باستثمار 10 مليارات دولار في استخراج الليثيوم في أفغانستان، في مشروع سيوفر 120 ألف فرصة عمل بشكل مباشر ومليون أخرى غير مباشرة للمواطنين الأفغان.
3- تنامي التنافس الإقليمي والدولي في جنوب آسيا: سيؤدي قيام الصين بتأسيس علاقات مع حركة طالبان الأفغانية إلى إثارة قلق ومخاوف دول منطقة جنوب آسيا، وبالتالي حدوث تنافس إقليمي في هذه المنطقة، وذلك بالنظر إلى المكانة المهمة التي تحظى بها الصين على المستويين الدولي والإقليمي، وهو ما قد يكون حافزاً لقوى إقليمية أخرى مهمة لأن تحذو حذو بكين بإقامة علاقات مع حركة طالبان، كي لا تنفرد الصين بالساحة الأفغانية. وهذا ما سيجعل أفغانستان ساحة للتنافس والنفوذ بين الصين والقوى الآسيوية الأخرى، ولاسيما المجاورة لأفغانستان.
وفي هذا الإطار، قد تتجه روسيا إلى تطبيع وتعزيز علاقاتها مع طالبان، باعتبار أن أفغانستان تُعد جزءاً من نفوذها. وفي الوقت الذي أبقت فيه الهند سفارتها في كابول مفتوحة، فإنها قد تعمل على إعادة الاتصالات مع أفغانستان، عبر إعادة فتح السفارة الأفغانية في نيودلهي، لعدم ترك هذا البلد ساحة لباكستان عدوتها التاريخية، والصين منافستها التقليدية على النفوذ في آسيا. أيضاً، تشهد العلاقات بين باكستان وأفغانستان توتراً ملحوظاً منذ تولي طالبان السلطة في أغسطس 2021.
وعلى المستوى الدولي، تفكر الولايات المتحدة في إمكانية إعادة فتح بعثتها الدبلوماسية في كابول دون الاعتراف رسمياً بحركة طالبان، وفقاً لاستراتيجية جديدة وافقت عليها وزارة الخارجية الأمريكية، في ضوء تخوفها من قيام دول مثل: روسيا والصين وإيران ببسط نفوذها الاستراتيجي والاقتصادي في أفغانستان، مستغلة غياب واشنطن.
تحديات مُقيدة:
ثمة أهمية لقرار الصين بقبول أوراق اعتماد السفير الأفغاني لديها، بما سيترتب عليه من فرص ومحفزات مهمة بشأن تحقيق المصالح الاستراتيجية المتبادلة لكل من الصين وأفغانستان، سواءً لجهة نجاح بكين في توطيد دعائم نفوذها في هذا البلد من النواحي الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية، وكذلك تعزيز دورها ومكانتها على المستويين الإقليمي والدولي، أم بالنسبة لإمكانية نجاح حركة طالبان في بدء حلحلة موقف المجتمع الدولي الذي يعارض منحها الشرعية الدولية برفضه الاعتراف بسلطتها الجديدة في أفغانستان، ما يمثل خطوة - قد تتبعها خطوات أخرى- لفك العزلة الدولية المفروضة على الحركة. وهذا ما عكسته دعوة طالبان، في 30 يناير الماضي، لروسيا وإيران ودول أخرى إلى تطوير العلاقات الدبلوماسية الثنائية مع كابول.
وبرغم ما سبق، فإن الصين ما زالت ترى أنها لم تعترف بحركة طالبان بصورة رسمية، عبر مطالبتها الحكومة الأفغانية بضرورة إجراء تغييرات أساسية في أسلوب حكمها لاكتساب الاعتراف الرسمي من بكين؛ وذلك في إشارة إلى توافق بكين مع شروط المجتمع الدولي في هذا الشأن. فقد ربط تقييم أجرته الأمم المتحدة، في نوفمبر 2023، بين الاعتراف بحكومة طالبان وامتثالها بالتزامات أفغانستان وتعهداتها بموجب المعاهدات الدولية، بما في ذلك رفع الحظر المفروض على تعليم المرأة وعملها. فضلاً عن الرفض المتكرر للأمم المتحدة لمنح مقعد أفغانستان في المنظمة الدولية لحركة طالبان.
ومن جهة أخرى، فإن هناك العديد من القيود التي قد تؤدي إلى تضاؤل مكاسب الصين جراء تبادل السفراء مع حكومة طالبان، بما يؤثر سلباً في تنامي العلاقات بين الجانبين، ومن أبرزها ما يلي:
1- افتقاد الحكومة الأفغانية للقدرة على نشر الأمن في مختلف أنحاء البلاد، ما يجعل طالبان عاجزة عن الوفاء بضماناتها الأمنية للصين ودول الجوار.
2- تخوف بكين من إمكانية استمرار العلاقات الوثيقة بين طالبان والجماعات المسلحة، بما في ذلك حركة تركستان الشرقية الإسلامية، والتي قد يتم توظيفها في التخطيط لمزيد من الهجمات ضد الصين من داخل أفغانستان.
3- احتمالية استهداف المصالح الصينية في أفغانستان من جانب بعض التنظيمات الإرهابية، وهو ما سيؤثر في المشروعات التي تقوم بها بكين في هذا البلد.
4- انعكاسات التوتر في العلاقات بين أفغانستان وباكستان في ظل حكومة طالبان، على مشروعات مبادرة الحزام والطريق الصينية في أفغانستان.
ختاماً، يشير الواقع إلى وجود اتصالات وتبادلات رسمية بين الصين وحركة طالبان الأفغانية، في ظل وجود مصالح متبادلة للطرفين سياسياً واقتصادياً وأمنياً، تدفعهما باتجاه تعزيز التعاون الثنائي. وعلى رغم ما قد تواجهه مسألة الاعتراف بطالبان من حدود وعقبات، قد تتضاءل معها مكاسب الحركة في ظل استمرار عزلتها الدولية، فإن براغماتية السياسة الخارجية الصينية تجعلها قادرة على تحقيق مكاسب من تبادل السفراء مع حكومة طالبان دون اعتراف رسمي بها.