أعلنت مالي والنيجر وبوركينا فاسو، في 28 يناير 2024، انسحابها الفوري من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا "إيكواس" (ECOWAS) وذلك بسبب العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها الأخيرة على الدول الثلاث في أعقاب الانقلابات العسكرية التي شهدتها هذه الدول، وهو ما أثار العديد من التساؤلات بشأن انعكاسات هذا القرار على دور الكتلة الإقليمية من ناحية، والترتيبات الأمنية والسياسية في منطقة الساحل وغرب إفريقيا من ناحية أخرى.
انسحاب ثلاثي:
مثّل قرار الدول الثلاث بالانسحاب من مجموعة "الإيكواس" تطوراً غير مسبوق وتحدياً كبيراً للكتلة الإقليمية، فهي المرة الأولى التي يتم فيها انسحاب أحد أعضاء المجموعة منذ نشأتها قبل قرابة الـ50 عاماً، الأمر الذي يهدد خطط التكامل الإقليمي التي كانت تبتغي المجموعة تحقيقها، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- بيان ثلاثي مُشترك: جاء إعلان مالي والنيجر وبوركينا فاسو عن انسحابهم من مجموعة "الإيكواس" من خلال بيان ثلاثي مُشترك، تم نشره في وسائل الإعلام الرسمية للدول الثلاث، رداً على العقوبات الاقتصادية والسياسية والمالية القاسية التي فرضتها المجموعة على هذه الدول، في محاولة لدفعهم للعودة إلى النظام الدستوري، غير أن هذه العقوبات أثارت حفيظة هذه الدول ودفعتها إلى تبني موقف أكثر تشدداً إزاء الكتلة، وكانت مجموعة "الإيكواس" قد ألمحت سابقاً بأنها لن تعترف بالحكومات العسكرية الموجودة في هذه الدول، والتي انبثقت عن الانقلابات العسكرية التي شهدتها النيجر في يوليو 2023، وبوركينا فاسو في عام 2022، وفي مالي عام 2020.
كذا، اعتبرت الدول الثلاث، التي كانت من ضمن الأعضاء المؤسسين لمجموعة "الإيكواس"، أن الكتلة الإقليمية تمثل أداة تحركها بعض القوى الغربية، ولاسيما فرنسا، في المنطقة، وأنها فشلت في مساعدة دول المنطقة في حربها ضد المجموعات الإرهابية المنتشرة في منطقة الساحل وغرب إفريقيا.
2- ترقب من مجموعة "الإيكواس": ألمحت مجموعة "الإيكواس" إلى أنها ما تزال مُلتزمة بإيجاد حلول تفاوضية للمأزق السياسي الراهن في هذه الدول الثلاث، لافتةً إلى أنها لم يصلها حتى الآن أي طلب رسمي من هذه الدول بالانسحاب من المجموعة. وتنص المادة 91 في معاهدة مجموعة "الإيكواس" على أنه يتوجب على الدولة العضو الراغبة في الانسحاب أن تقوم بتقديم طلب كتابي قبل موعد الانسحاب بعام كامل، وتكون الدولة ملزمة خلال هذا العام بأحكام المجموعة، غير أن البيان المشترك الصادر عن مالي والنيجر وبوركينا فاسو يعكس اتجاه هذه الدول للانسحاب الفوري من المجموعة وعدم الالتزام بالنص الخاص بكيفية الانسحاب.
وتجدر الإشارة إلى أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا تُعد أعلى سلطة سياسية واقتصادية وإقليمية في منطقة غرب إفريقيا، منذ تأسيسها عام 1975 بغية تعزيز التعاون والتكامل الاقتصادي بين الدول الأعضاء، وهي تتكون من 15 دولة، لكن يبدو أن هذا العدد في طريقه للتقلص بعد قرار الدول الثلاث بانسحابها من الكتلة.
3- انتقادات حادّة من قبل نيجيريا: أصدرت نيجيريا، الرئيس الحالي لمجموعة "الإيكواس" والقوة الاقتصادية الرئيسة في غرب إفريقيا، بياناً، في 29 يناير 2024، انتقدت خلاله قرار الدول الثلاث بالانسحاب من الكتلة الإقليمية، إذ انتقد البيان تصرفات القادة العسكريين للدول الثلاث، مُعتبراً أن القادّة غير المنتخبين ينخرطون في مواقف عامة تؤدي إلى حرمان شعوبهم من حرية التنقل والتجارة، كما كشف البيان عن استعداد أبوجا للتعاطي مع الدول الثلاث الراغبة في الانسحاب من "الإيكواس".
وفي هذا الإطار، يُرجح أن تعمد نيجيريا للدعوة إلى قمة طارئة لمجموعة "الإيكواس" بمقر الكتلة في العاصمة النيجيرية أبوجا، لبحث قرار الدول الثلاث بالانسحاب من المجموعة، بيد أن الأخيرة لا تملك حالياً أي أدوات للضغط على هذه الدول للعدول عن قرار الانسحاب.
سياقات مُعقّدة:
يأتي قرار الدول الثلاث بالانسحاب من مجموعة "الإيكواس" في إطار جملة من المتغيرات التي هيمنت على السياق العام في منطقة الساحل وغرب إفريقيا خلال الأشهر الأخيرة، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تدهور العلاقات بين الدول الثلاث و"الإيكواس": تدهورت علاقة الدول الثلاث، التي شهدت انقلابات عسكرية خلال السنوات الأخيرة، بمجموعة "الإيكواس"، ولاسيما بعد فرض الأخيرة عقوبات قاسية على هذه الدول، إذ قامت بتعليق عضويتها في التكتل الإقليمي وفرض منطقة حظر جوي على الرحلات الجوية التجارية، فضلاً عن إغلاق الحدود البرية والبحرية، وكذا تجميد الأصول التي تحتفظ بها هذه الدول في البنوك المركزية للمجموعة.
وتجدر الإشارة إلى أن انسحاب الدول الثلاث من مجموعة "الإيكواس" لم يكن مُستبعداً، بل إن هناك كثيراً من التقديرات كانت قد رجحت هذا الأمر منذ عدة أشهر، ولاسيما بعدما تفاقمت التوترات بين هذه الدول والكتلة الإقليمية، والتي بلغت ذروتها بعد الانقلاب العسكري الأخير في النيجر، في يوليو الماضي، ولوحت مجموعة "الإيكواس" آنذاك بالتدخل العسكري لدعم الرئيس النيجري، محمد بازوم، الذي تمت الإطاحة به، ما دفع مالي وبوركينا فاسو للتهديد بالتدخل للدفاع عن النيجر، ومنذ ذلك الوقت هددت الدول الثلاث مراراً بإمكانية الانسحاب من "الإيكواس" اعتراضاً على العقوبات المفروضة عليها.
وقد فشلت كافة الاجتماعات والوساطات التي سعت لحلحلة الخلافات بين الطرفين خلال الفترة الأخيرة، حتى إن قرار الانسحاب من "الإيكواس" من قبل الدول الثلاث جاء في أعقاب فشل وفد المجموعة في الوصول للنيجر من أجل إجراء محادثات وساطة مع المجلس العسكري الحاكم هناك، وذلك تحت ذريعة وجود خلل في الطائرة التي كان يفترض أن تقل الوفد لنيامي، وهو ما دفع رئيس الوزراء النيجري، المعين من قبل المجلس العسكري الحاكم، إلى انتقاد نيات الكتلة الإقليمية ومساعيها للاستمرار في الضغط على بلاده.
2- تحالف أمني جديد في "الساحل": في ظل الضغوط المستمرة والعقوبات السياسية والاقتصادية التي فرضتها مجموعة "الإيكواس" على مالي والنيجر وبوركينا فاسو، عمدت الدول الثلاث إلى التخلي عن عضويتها في تحالف دول الساحل الخمس (G5)، والذي كان مدعوماً من فرنسا، وأعلنت الدول الثلاث تشكيل تحالف أمني جديد، هو تحالف دول الساحل (AES)، في سبتمبر 2023، لتنسيق التعاون المشترك، ودعم أي دولة من داخل دول الحلف تواجه أي تهديدات داخلية أو خارجية.
3- تراجع النفوذ الفرنسي: شهدت السنوات الأخيرة تراجعاً مُطّرداً في النفوذ الفرنسي بمنطقة الساحل وغرب إفريقيا، وقد عمدت المجالس العسكرية الحاكمة في الدول التي شهدت انقلابات عسكرية إلى قطع علاقاتها بباريس وإخراج القوات الفرنسية التي كانت موجودة في هذه الدول، مقابل تعزيز التقارب بين هذه الأنظمة العسكرية وروسيا. وبينما توجد عناصر مجموعة فاغنر الروسية في باماكو بالفعل، شهدت الأسابيع الأخيرة زيارات متبادلة بين المسؤولين العسكريين في النيجر وبوركينا فاسو من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى، كما تعمل الأخيرة حالياً على ترسيخ وجود دائم لها في منطقة الساحل، والعمل على استبدال عمليات فاغنر بالفيلق الإفريقي الذي يتبع وزارة الدفاع الروسية. وقد كشفت بعض التقارير الغربية عن قيام موسكو مؤخراً بنشر عدد من الجنود الروس في بوركينا فاسو.
4- تآكل نفوذ القوى التقليدية في المنطقة: يأتي قرار الدول الثلاث بالانسحاب من مجموعة "الإيكواس" في إطار تراجع نفوذ القوى التقليدية في غرب إفريقيا، ولاسيما نيجيريا، وتآكل سيطرتها على الكتلة الإقليمية وقراراتها، إذ يشكل هذا القرار أحد أبرز الاختبارات أمام رئيس نيجيريا الجديد، بولا تينوبو، والذي تتولي بلاده رئاسة الدورة الحالية لمجموعة "الإيكواس"، إذ كان تينوبو يسعى لتعزيز نفوذ بلاده في المنطقة باعتبارها قوة إقليمية مهيمنة، كما أنه كان أبرز المؤيدين لفكرة التدخل عسكرياً في النيجر بعد الانقلاب العسكري الذي شهدته الأخيرة في يوليو 2023، وهو القرار الذي لاقى آنذاك معارضة من قبل عدة أعضاء داخل التكتل، وبالفعل تم العدول على هذا الخيار في نهاية الأمر.
ارتدادات مُحتملة:
هناك جملة من الارتدادات المُحتملة التي ربما تنبثق عن قرار انسحاب مالي والنيجر وبوركينا فاسو بالانسحاب من التكتل الإقليمي لمجموعة "الإيكواس"، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- لعبة صفرية: ينطوي قرار مالي والنيجر وبوركينا فاسو بالانسحاب من مجموعة "الإيكواس" على لعبة صفرية، سوف تفضي إلى خسارة كافة الأطراف، وهو ما تدركه الدول الثلاث بشكل جيد، لكن ربما تكون العقوبات القاسية المفروضة عليها قد دفعتها لاتخاذ هذه الخطوة للضغط على الكتلة. وفي هذا الإطار ذهبت بعض التقارير لتشبيه قرار الدول الثلاث بالانسحاب من "الإيكواس" بقرار بريطانيا بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي "بريكس" ولكن على النمط الإفريقي.
وفي هذا الإطار، يتوقع أن يؤدي هذا القرار إلى تداعيات اقتصادية سلبية على الدول الثلاث، ولاسيما وأن هذه الدول تُعد من الأكثر فقراً بين دول المجموعة، كما سيؤدي خروج هذه الدول إلى خسارتها أي فرصة للوصول إلى البحر وإلى السوق المشتركة لمجموعة "الإيكواس"، ناهيك عن حرمانها من حرية حركة البضائع والأفراد ورؤوس الأموال.
من ناحية أخرى، من شأن قرار الدول الثلاث بالانسحاب من مجموعة "الإيكواس" أن يؤدي إلى إضعاف المجموعة وتقويض نفوذها في المنطقة، كما يرجح أن يؤثر هذا القرار في "الاتحاد النقدي لغرب إفريقيا"، والسوق المشتركة للمجموعة. إذ يرتبط تآكل نفوذ مجموعة "الإيكواس" بتراجع الدعم الشعبي للمجموعة في غرب إفريقيا، إذ بات المواطنون في هذه الدول يرون أن التكتل الإقليمي فشل في تمثيل مصالحهم أو الاستفادة من الموارد الطبيعية الغنية في هذه الدول، وقد تفاقم هذا الغضب لدى الدول الثلاث التي أعلنت انسحابها من "الإيكواس"، بسبب التداعيات الكارثية للعقوبات التي فرضتها "الإيكواس" على المواطنين في هذه الدول، دون أن تفضي هذه العقوبات إلى أي نتائج سياسية فعلية.
ومن المتوقع أن يؤثر انسحاب مالي والنيجر وبوركينا فاسو من تكتل "الإيكواس" على حرية حركة المواطنين وحركة التجارة والتدفقات المالية بين دول مجموعة "الإيكواس" بشكل عام، وزيادة متوقعة في الرسوم الجمركية المفروضة على البضائع والأفراد، وهو ما يشكل مزيداً من الضغوط على التكتل الإقليمي.
2- تصدعات جديدة مُحتملة في "الإيكواس": يتوقع أن تشهد الاجتماعات المقبلة لمجموعة "الإيكواس" محاولة للتوصل إلى آليات لإقناع الدول الثلاث للتراجع عن قرار الانسحاب من التكتل الإقليمي، بما في ذلك رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على هذه الدول، أو على الأقل تخفيفها. وفي هذا الإطار، لم تستبعد بعض التقديرات احتمالية حدوث تصدعات جديدة داخل "الإيكواس" حال عدم الاتفاق على آليات توافقية تقنع الدول الثلاث بالتراجع عن قراراها، ولاسيما وأن هناك عدداً من دول المجموعة، على غرار توغو، كانت قد أعلنت سابقاً اعتراضها على العقوبات المفروضة على الدول الثلاث.
ويتسق هذا الطرح مع التقرير الصادر عن "معهد دراسات السياسة الدولية" الإيطالي (ISPI)، والذي كشف عن وجود مزاج عام داخل عدة دول داخل مجموعة "الإيكواس" ينظر لهذا التكتل الإقليمي باعتباره أداة غربية في المنطقة، وتسعى كثير من هذه الدول للتحرر من هذه السيطرة وهو ما ينذر بمزيد من التصدعات داخل الكتلة.
3- تحالف إقليمي جديد مُرتقب: ثمّة تحركات ملحوظة خلال الأشهر الماضية تعكس وجود نية لدى مجموعة الدول التي شهدت انقلابات عسكرية لتشكيل تحالف إقليمي جديد. وفي هذا الإطار، رجحت بعض التقارير الغربية احتمالية أن تشهد منطقة غرب إفريقيا موجة جديدة من الانقلابات العسكرية خلال الفترة المقبلة، وانضمام هذه الدول للتحالف الإقليمي المرتقب في المنطقة، ولاسيما وأن ثمّة قناعة باتت راسخة لدى القادة العسكريين في غرب إفريقيا بعدم وجود رادع حقيقي للاستيلاء على السلطة.
4- تمدد الجماعات الإرهابية نحو خليج غينيا: حذرت بعض التقارير من احتمالية أن يؤدي انسحاب الدول الثلاث من مجموعة "الإيكواس" وما يرتبط به من عقوبات اقتصادية مفروضة على هذه الدول إلى زيادة احتمالات تمدد الجماعات الإرهابية الموجودة في منطقة الساحل نحو الجنوب باتجاه الدول الساحلية الأكثر استقراراً في منطقة خليج غينيا، ولاسيما بنين وتوغو وغانا وساحل العاج، وهو ما سيزيد من تفاقم الأوضاع الأمنية الهشة في المنطقة ككل، ويفرض مزيداً من التحديات الأمنية على هذه الدول.
5- تصاعد حدّة التنافس الدولي في المنطقة: تعكس قرارات مالي والنيجر وبوركينا فاسو بالانسحاب من مجموعة "الإيكواس" اتجاه هذه الدول لتشكيل تكتل إقليمي جديد قريب من روسيا، مقابل تكتل "الإيكواس" الذي يحتفظ بعلاقات وثيقة بالولايات المتحدة وأوروبا. ويتسق هذا الطرح مع تقرير معهد (ISPI) الإيطالي، والذي ألمح إلى أن قرار الدول الثلاث بالانسحاب من "الإيكواس" جاء في أعقاب الزيارات المكثفة التي شهدتها المنطقة خلال الأيام الأخيرة من قبل ممثلين عن روسيا والصين والولايات المتحدة، ما يعكس حالة من الانخراط الدولي المتزايدة في منطقة الساحل وغرب إفريقيا، وتحولها لساحة صراع بين القوى الدولية، الأمر الذي ستكون له ارتدادات مباشرة على مسارات الأحداث خلال الفترة المقبلة.
وفي التقدير، يمكن القول إن قرار مالي والنيجر وبوركينا فاسو بالانسحاب من "الإيكواس" يؤسس لمرحلة جديدة من الاصطفافات الإقليمية والدولية في غرب إفريقيا، غير أن التساؤلات ما تزال مطروحة بشأن فرص نجاح تحركات الدول الثلاث لتشكيل تكتلات بديلة في المنطقة، سياسية وأمنية واقتصادية، ولاسيما في ظل التحديات المتزايدة التي تواجهها هذه الدول الهشة، في المقابل يبقى مُستقبل مجموعة "الإيكواس" على المحك، خاصةً مع فشل المجموعة في توظيف أدواتها للتعامل مع المتغيرات والتهديدات التي شهدتها بعض دول أعضائها، وعلى رأسها مخاطر الجماعات الإرهابية.