لا شيء من صنع الإنسان يضاهي كفاءة تشغيل الجسم البشري إلى الآن، فالغرام الواحد من الجينوم البشري قادر على تخزين 455 مليار جيجابيت من البيانات، بما يفوق أي قدرة تخزينية طورها الإنسان بملايين المرات، والقدرات الإبداعية التي يتميز بها الدماغ البشري تفوق قدرة أي نظام ذكاء اصطناعي، والطاقة التي يستخدمها هذا الدماغ لمعالجة ملايين من طلبات الإشارات العصبية لا تتجاوز حجم ملعقة واحدة من السكر، ويقوم القلب والكبد والكلى بوظائفهم ليل نهار دون أن يحتاجوا إلى صيانة، والطاقة الحرارية التي يولدها جسم الإنسان خلال اليوم تعادل تلك الصادرة عن الدفاية الكهربائية خلال ساعتين من الزمن. هذا الجسم الذي يقوم بوظائف غاية في التعقيد أصبح هو وجهة العلماء خلال الفترة الحالية لتطوير نظم الذكاء الاصطناعي بعدما عجزت التكنولوجيا الحالية عن الاستمرار في التطور.
فقد استنفدت تكنولوجيا السيليكون الحالية القائمة على الشرائح الذكية الرقمية واللغة الثنائية (Binary System) جميع أدواتها لكي تساير سباق تطوير الذكاء الاصطناعي، وباتت تواجه مشكلات كبيرة تتعلق بالطاقة المستخدمة في تشغيل هذه النظم، الأمر الذي دفع شركات مثل: مايكروسوفت إلى التوجه نحو الطاقة النووية لتوفير الطاقة الكهربائية التي تحتاجها نظم الذكاء الاصطناعي، هذا بالإضافة إلى مشكلات أخرى تتعلق بالقدرة على معالجة كميات عملاقة من البيانات الضخمة، باتت تحتاج إلى هندسة جديدة غير تلك القائمة على السيليكون لمعالجة هذه البيانات.
لذا اتجه العديد من العلماء في المعاهد البحثية وشركات التكنولوجيا إلى تطوير تقنيات الحوسبة البيولوجية من خلال محاكاة طريقة عمل الدماغ البشري أو من خلال زراعة بعض الأعضاء الدماغية واستغلال قدراتها التشغيلية لكي تصبح بديلاً عن نظام السيليكون للتغلب على مشكلات الطاقة ومعالجة البيانات أثناء تطوير نظم الذكاء الاصطناعي.
فما البرمجيات الدماغية؟ وما هي محاولات العلماء لتطوير الحوسبة البيولوجية؟ وما التحديات التي تواجه عملية تطوير الحوسبة البيولوجية؟ أسئلة عديدة يسعى هذا المقال للإجابة عنها.
البرمجة الدماغية
في مقالة منشورة في مجلة Nature Electronics استطاع مجموعة من العلماء في جامعةIndiana University Bloomington بالولايات المتحدة الأمريكية زراعة خلايا جذعية في ظروف مخصصة حتى تنمو خلايا الأعصاب التي تكون أعضاء دماغية صغيرة تعمل بمثابة أدمغة صغيرة، تحتوي على ملايين من الخلايا العصبية الدماغية، وعند توصيلها بجهاز كمبيوتر من خلال مجموعة من الأقطاب الكهربائية المتصلة بها تستطيع هذه الخلايا الدماغية العصبية القيام بمهام الخلايا العصبية الصناعية للذكاء الاصطناعي، أي أن تتحول إلى معالج للبيانات (Processor) قادر على تحليل بعض الطلبات، تماماً مثل: آلية عمل الشبكات العصبية للذكاء الاصطناعي.
وحسب الورقة، فقد استطاع هذا النموذج الأولي تمييز بعض الأصوات بنسبة دقة وصلت إلى 80% بعد تدريبه لمدة 48 ساعة، مما يفتح المجال للحوسبة البيولوجية لكي تتغلب على المشكلات التقليدية لشرائح السيلكون، وتصبح بديلاً محتملاً للطاقة المستخدمة في معالجة البيانات، وتسد الفجوة بين الكيمياء الحيوية وبين الخوارزميات، فيما يعرف باسم البرمجيات الدماغية (Brainware).
والبرمجيات الدماغية، هي مصطلح يمكن أن يشير إلى عدة مفاهيم مختلفة في مجالات متعددة، لكن في سياق الذكاء الاصطناعي والحوسبة، يشير عادةً إلى الاستراتيجيات والتقنيات التي تستخدم نماذج مستلهمة من الدماغ البشري لتطوير أنظمة حوسبة متقدمة، أي محاولة تطوير نُظم تحاكي شكل وآلية عمل الدماغ البشري، من حيث شكل الخلايا العصبية الموجودة فيه وطريقة أدائه لمهامه. هذا يشمل الشبكات العصبية الاصطناعية، والتعلم الآلي، وأنظمة الحوسبة التي تحاول تقليد العمليات العصبية البيولوجية للدماغ البشري.
وفيها يتم استخدام عضويات دماغية كتلك التي تمت زراعتها في التجربة (وهي بنيات ثلاثية الأبعاد للخلايا العصبية تشبه الدماغ البشري يتم استنباتها أو زراعتها في المختبر) بغرض إجراء الحسابات ومعالجة المشكلات بنفس طريقة معالجة الدماغ للمعلومات.
والهدف من استخدام "البرمجيات الدماغية" في هذا السياق، أي تطوير نظم ذكاء اصطناعي متقدم، هو إنشاء أنظمة حوسبة تقدم مستويات أعلى من الكفاءة والقدرة على التعامل مع المهام المعقدة بطريقة تحاكي الكفاءة والمرونة التي يتميز بها الدماغ البشري، مع قدر أقل من الطاقة ودرجة أعلى من الكفاءة، من خلال الاستفادة من بعض الجوانب الأساسية للدماغ، مثل القدرة على التعلم من خلال التجربة والخطأ، والتكيف مع البيئات المتغيرة، ومعالجة البيانات الغامضة أو غير المكتملة بكفاءة عالية.
وتساعد البرمجيات الدماغية، الأنظمة الحوسبية التي تستخدم الشبكات العصبية البيولوجية على التعلم السريع والمستمر، فعادة ما تحتاج الشبكات العصبية الصناعية إلى عدة مراحل لمعالجة البيانات والتعلم منها، وهي في ذلك تستخدم قدراً كبيراً جداً من الطاقة والحوسبة، فيما يعرف بالتعلم الآلي العميق، لكن من خلال البرمجيات الدماغية تستطيع الشبكات العصبية البيولوجية تنفيذ مهام متعددة بأقل قدر من البيانات فيما يعرف بالتعلم الآلي العميق غير المراقب، إذ تحاكي بعض العمليات العقلية مثل الانتباه، والذاكرة، وحتى الوعي بمستوياته الأولية، وهذا الأمر يتم بصورة تلقائية في الدماغ البشري دون حاجة إلى معالجة كم كبير من البيانات، وهو ما يسعى العلماء إلى توظيفه في الذكاء الاصطناعي.
أما من حيث التطبيقات، فقد تسهم تلك البرمجيات الدماغية في خلق أجهزة وبرمجيات أكثر تقدماً وقرباً للطريقة التي يعالج بها الدماغ البشري المعلومات، مما يفتح الباب لتطبيقات جديدة ومبتكرة في مجالات متعددة مثل الروبوتات، وتحليل البيانات، والأنظمة الذكية بشكل عام. فيصبح لدينا أجهزة صغيرة للغاية قابلة للارتداء مثل الساعات أو النظارات أو حتى أقل من ذلك، قادرة على معالجة كم كبير جداً من البيانات بأقل قدر من الطاقة، تخيل مثلاً سيارة ذاتية القيادة أو حتى دراجة لا تحتاج أن تتعلم أو تتصل بأي نوع من البيانات حتى يتم تدريبها عليها، هذا بالضبط ما تسعى إليه الحوسبة البيولوجية، وهو خلق ذكاء اصطناعي مستقل قادر على تشغيل نفسه بنفسه.
حوسبة الخزان:
لكي نفهم آلية عمل البرمجيات الدماغية لا بد أولاً من فهم حوسبة الخزان (Reservoir Computing) وهي مفهوم في مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة العصبية يشير إلى فئة من الشبكات العصبية التي تستخدم نظاماً ديناميكياً ثابتاً (مجموعة من العقد الثابتة Nodes) للتعامل مع الذاكرة قصيرة المدى والتي تسمح بالقيام ببعض المهام بصورة تلقائية دون الحاجة إلى تحليلات معمقة مثل تطبيقات معالجة الإشارات والتعرف إلى الأنماط وغيرها من المهام التلقائية.
وفي حوسبة الخزان، يكون الجزء الرئيسي من الشبكة العصبية الطبيعية (العضو الدماغي) هو "الخزان"، والذي يتكون من شبكة عصبية عشوائية وديناميكية تعمل كمخزن للديناميكيات الحسابية (بمعنى آخر تكون مستودعاً لتحليل البيانات)، وهنا لا يتم تدريب الخزان بشكل مباشر، بدلاً من ذلك، يتم تدريب الجزء المسؤول عن المخرجات فقط، أي الجزء المسؤول عن اتخاذ القرار في الشبكة العصبية، أما باقي الجزء من الشبكة العصبية فهو ثابت ولا يتم تدريبه بل يتم استغلال قدراته الطبيعية، تماماً مثل الفرق ما بين مخ الإنسان والناصية، فالمخ هو مركز جمع وتحليل البيانات، أما الناصية فهي الجزء المسؤول عن اتخاذ القرارات والكذب والخطأ، وهو قادر على اتخاذ بعض القرارات دون الرجوع إلى المخ من خلال الذاكرة القصيرة المؤقتة.
وفي حوسبة الخزان يتم تدريب (الناصية) فقط، أي ذلك الجزء من الشبكة العصبية المسؤول عن اتخاذ القرارات، فتكون أسرع وأقل تعقيداً من تدريب الشبكات العصبية التقليدية التي تتطلب بيانات كبيرة وتعديلات مستمرة للوصول إلى النتائج الصحيحة، أما باقي الخزان (العضو الدماغي) فلا يتم تدريبه لما يتمتع به من قدرات ديناميكية عالية ومتشابكة عبر شبكة من ملايين الخلايا العصبية الطبيعية.
وهنا يعمل العضو الدماغي كشبكة ثلاثية الأبعاد ذات كثافة عالية من الخلايا، ويحاكي وظيفة الدماغ البشري، ويتم ربطه بنظام حوسبي لإرسال واستقبال المعلومات من خلال مجموعة من الأقطاب الكهربائية، بما يسمح بالتعامل مع بيانات تدريبية قليلة، واستهلاك طاقة منخفض، والتعلم من بيانات غير واضحة، فيما يعرف باسم التعلم العميق غير المراقب للذكاء الاصطناعي.
التعلم العميق غير المراقب:
التعلم الآلي العميق غير المراقب (Unsupervised Deep Learning) (ويُشار إليه أحياناً باسم التعلم الآلي من دون إشراف أو التعلم الاستنتاجي) هو عبارة عن نوع من أنواع التعلم الآلي الذي يستخدم الشبكات العصبية العميقة لتحليل وتعلم الأنماط الكامنة في البيانات دون الحاجة إلى تدريب مسبق أو استخدام بيانات مُعلمة (أي بيانات تحتوي على إجابات أو تصنيفات مُحددة مسبقاً)، إذ يتم ترك النموذج (الشبكة العصبية) ليكتشف بنفسه الهياكل والأنماط في البيانات ويحاول التوصل إلى حلول.
وهنا يحاول التعلم الآلي العميق غير المراقب، محاكاة كيفية تعلم الدماغ البشري ومعالجته للمعلومات بشكل غير مراقب، إذ يتم اكتشاف الأنماط والهياكل دون توجيهات مسبقة، وهو جوهر عملية التعلم العميق غير المراقب، إذ تستلهم تصميمها من الشبكات العصبية البيولوجية في الدماغ، وتستخدم المبادئ المماثلة لتصميم أنظمة تحاكي الوظائف العصبية الطبيعية.
ولأن عنصر السيليكون غير قادر على القيام بوظائف التعلم العميق غير المراقب بكفاءة عالية، وإلى جانب محاولات البرمجة الدماغية، توجه العلماء إلى عنصر كيميائي آخر وهو (أكسيد الفاناديوم)، وعند النظر إلى هذا العنصر تحت المجهر نجد أن شكل الجزيئات التي يتكون منها يحاكي تماماً شكل الدماغ البشري، ويظهر وكأنه عبارة عن شبكة عصبية مترابطة، مما يؤهله لكي يكون بديلاً محتملاً للسيليكون للقيام بعمليات التعلم العميق غير المراقب، وفي ذلك تتم الاستفادة من خصائص الديناميكيات غير الخطية التي يتميز بها أكسيد الفاناديوم.
الحوسبة البيولوجية:
مع دمج تقنيات التعلم العميق غير المراقب مع البرمجيات الدماغية، يبدأ الحديث عن نوع جديد من الحوسبة هو الحوسبة البيولوجية (Biocomputing) وهي مجال بحثي يدمج بين علم الأحياء والحوسبة لتطوير أنظمة حوسبية تعمل بطرق تشبه العمليات البيولوجية. بعبارة أخرى، يهتم هذا المجال بتصميم وبناء أنظمة حوسبة تستخدم الجزيئات البيولوجية، مثل الشبكات العصبية والحمض النووي والبروتينات، بدلاً من الدوائر الكهربائية والإلكترونية التقليدية، فالحوسبة البيولوجية قادرة على إحداث ثورة في كيفية معالجة المعلومات وتخزينها، وتقدم وعوداً بإمكانات حوسبية جديدة لا يمكن تحقيقها بالتقنيات الإلكترونية التقليدية القائمة على السيليكون.
ورغم أن الحوسبة البيولوجية قد تكون خطوة مهمة لتطوير نظم الذكاء الاصطناعي المتقدم، فإنها ما زالت في مهدها، فما يزال هناك الكثير من التحديات التي يجب حلها أولاً مثل: دمج واجهات البرمجيات لنظم الذكاء الاصطناعي لاستغلال إمكانات "البرمجيات الدماغية" بشكل كامل، بالإضافة إلى الحاجة إلى مزيد من التطوير، خاصةً في مجال توليد واستنبات "العضويات الدماغية" بكفاءة عالية، فضلاً عن تحديات ومشكلات الصيانة والحفاظ عليها في بيئة طبيعية، فهي في الأساس خلايا عصبية حية وتحتاج إلى ظروف ملائمة لكي تنمو تتكاثر وتتفاعل لزيادة قدرتها الحوسبية.
وفي النهاية، قد تبدو الحوسبة البيولوجية حلاً لمشكلات باتت تعوق التقدم في تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل: الطاقة ومعالجة البيانات، وفي نفس الوقت تقدم بديلاً مستداماً يحافظ على البيئة من النفايات الإلكترونية ومن الانبعاثات الحرارية والكربونية الناجمة عن استخدام مصادر الطاقة التقليدية في تشغيل نظم الذكاء الاصطناعي، لكي تصبح لدينا نظم ذكية تعمل بطاقة بشرية، فتظهر لدينا آلات نصفها بشري، وبشر نصفهم آلات.