تظهر آخر الإحصاءات أن الطاقة المتجددة لم تعد أحد الخيارات المطروحة، لكنها تعدت ذلك لتصبح المقصد الرئيسي للاستثمار في الطاقة باستحواذها على 56% من صافي الاستثمارات الجديدة في هذا القطاع الحيوي. وتستدعي هذه الحقيقة إلقاء الضوء على الآثار التنموية والاستراتيجية للطاقة المتجددة في منطقة الخليج والدول العربية التي شكل النفط عماد اقتصاداتها، وأكسبها أهمية جيوسياسية عالمية.
لقد اخترقت الطاقة المتجددة حاجزاً جديداً خلال الأعوام القليلة الفائتة لتكون مصدراً رئيسياً للطاقة لا يمكن تجاهله. فحسب تقرير صدر في شهر يونيو 2014 لـ "شبكة سياسات الطاقة المتجددة للقرن الواحد والعشرين"، فقد شهد العام 2013 ارتفاع مشاركة الطاقة المتجددة من إجمالي مصادر الطاقة بحيث أصبحت تغطي 19% من استهلاك الطاقة المستخدمة في المواصلات والكهرباء والصناعة وغيرها من مجالات الحياة على مستوى العالم.
عوامل انتشار الطاقة المتجددة
ويتسارع نمو قطاع الطاقة المتجددة سنة تلو الأخرى دون توقف منذ مطلع الألفية الجديدة، فالسنوات الأولى من الألفية شهدت ارتفاعاً متزايداً في أسعار النفط حتى بلغ سعره أكثر من 147 دولاراً أمريكياً للبرميل في عام 2008، وحينها ارتفع العائد على الاستثمار في الطاقة المتجددة وجعلها أكثر تنافسية، نظراً لارتفاع أسعار الطاقة التقليدية. وعلى الرغم من حدوث الأزمة المالية العالمية في العام نفسه وانخفاض سعر النفط عالمياً واستقراره حالياً إلى مستوى قريب من 100 دولار أمريكي، فإن الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة لم يتباطأ، بل استمر في الصعود؛ ففي عام 2004 بلغ مجموع قدرات الطاقة المتجددة عالمياً حوالى 800 جيجاوات، أما اليوم فقد وصلت هذه القدرة إلى 1560 جيجاوات. وبعد أن كانت هناك 15 دولة فقط في العالم تتبنى سياسات داعمة للطاقة المتجددة في عام 2005، أصبح اليوم لدينا 95 دولة، أي بزيادة تقدر بستة أضعاف.
انتشرت الطاقة المتجددة في العامين الأخيرين على وجه خاص لأن تقنياتها أصبحت أقل كلفة وأكثر كفاءة من ذي قبل، ففي مطلع الألفية كانت تكلفة إنتاج الوات الواحد من الطاقة عن طريق الخلايا الكهروضوئية (PV) يبلغ نحو 5 دولارات أمريكية، فيما تبلغ اليوم أقل من دولار واحد فقط، ويتوقع لها أن تصل إلى ربع دولار تقريباً بحلول عام 2020، وذلك وفقاً لدراسة أجراها بنك "سيتي بنك" ووكالة بلومبرغ. وينطبق الأمر ذاته على إنتاج الطاقة عن طريق المراوح الهوائية، التي أصبحت الصين والهند من أهم منتجيها في العالم، مما ساهم في انخفاض تكلفتها.
وقد ساهم كل هذا، ولايزال، في جعل الطاقة المتجددة عنصراً لا يمكن تجاهله، بل أضحى عنصراً أساسياً محدداً لشكل الحياة الفردية والاجتماعية والسياسة المحلية والدولية في المستقبل المنظور، وهو ما تحدث عنه الخبير الاقتصادي، جيريمي ريفكن، في كتابه "الثورة الصناعية الثالثة" الصادر عام 2011، والذي تحدث فيه عن ثورة قائمة حالياً عمادها الإنترنت والطاقة المتجددة.
الدور الخليجي في الطاقة المتجددة
ولم يقتصر تبني دول العالم سياسات داعمة لقطاع الطاقة المتجددة على الدول المستوردة للنفط، والتي ربما يرى المرء للوهلة الأولى مصلحة مباشرة لها في دعم الطاقة المتجددة، رغبة منها في التخلص من استيراد النفط، بل امتدت دائرة الدول التي تدعم الطاقة المتجددة لتشمل دولاً منتجة للنفط، تعد دولة الإمارات العربية المتحدة من أبرزها. ففي مارس 2013 أصبحت الإمارات إحدى أهم الدول المنتجة للطاقة المتجددة عن طريق تقنية الطاقة الشمسية المركزة (CSP) بعد أن بدأت محطة "شمس" في إمارة أبوظبي إنتاج الطاقة بقدرة 100 ميجاوات. كذلك أعلن مكتب التنظيم والرقابة في أبوظبي في أواخر عام 2013 عن نيته طرح برنامج لإنتاج 500 ميجاوات عن طريق أسطح المنازل والبنايات في الدولة، مع تحديد سعر للطاقة المباعة من قبل المواطنين والشركات للشبكة، وهو ما يعرف بـ (Feed In Tariff). كذلك كان لإمارة أبوظبي دور مهم في هذا المضمار من خلال مبادرة (مصدر) ومدينتها التي دخلت التاريخ كأول مدينة خضراء خالية من الانبعاثات الكربونية.
إن العقلانية تحتم الاستعداد لما هو آتٍ والاستثمار في طاقة المستقبل التي ربما لن تكون الطاقة النفطية الآيلة للنضوب، ولا الطاقة النووية التي تراجع الاستثمار فيها بشكل واضح في الآونة الأخيرة، نظراً لمخاطرها المرتفعة، لذلك شهد عام 2013 استحواذ مصادر الطاقة المتجددة على أكثر من 56% من صافي قدرات الطاقة المضافة عالمياً. وكان ذلك واضحاً على وجه الخصوص في دول الاتحاد الأوروبي، حيث شهد عام 2013 حصول الطاقة المتجددة على حصة 72% من إجمالي قدرات الطاقة المضافة. لذا فإن استثمار العائدات النفطية في دعم الطاقة المتجددة هو أمر في غاية العقلانية، وهو ما تضعه دولة نفطية مثل الإمارات هدفاً لنفسها، حيث يتوقع أن تعتمد الإمارات على الطاقة المتجددة بنسبة 7% بحلول عام 2020.
وتمتلك منطقة الخليج مساحات هائلة تحصل على إشعاع شمسي ضخم، وهو أمر لا يتوفر في كثير من دول العالم، كما أن موقعها الجغرافي ووضعها الأمني المستقر يتيح لها مواصلة لعب دور المنتج الأساسي لطاقة العالم. وجدير بالذكر هنا أن أبوظبي أصبحت المقر الدائم للوكالة الدولية للطاقة المتجددة "إيرينا" منذ عام 2011، كما أعلن وزير النفط السعودي علي النعيمي في العام نفسه أن بلاده ستتحول من مُصدِر للنفط إلى مُصدِر للطاقة الكهربائية وذلك عن طريق الاستثمار في الطاقة الشمسية بشكل رئيسي.
الآثار المباشرة على المجتمع الخليجي
على الرغم من أن دول الخليج لاتزال تتمتع بقدرة مالية هائلة نظراً لصادراتها النفطية، فإن تقريراً صادراً عن صندوق النقد الدولي في يوليو من العام الماضي، أظهر أن نسبة البطالة بين المواطنين في السعودية بلغت 12% مع أنها حققت نمواً قياسياً في الناتج الاجمالي المحلي بلغ 6.25% في العام نفسه. فالمجتمع السعودي كغيره من دول الخليج مجتمع شاب، ولدى السعودية وحدها نحو 100 ألف خريج جامعي جديد سنوياً يبحثون عن فرصة عمل.
إن المطلوب في منطقة الخليج هو إيجاد حل جذري ومستدام لمشكلة البطالة، ولا سبيل لذلك إلا بتحقيق التنمية الشاملة في المدن والقرى والبادية. فقد أثبتت التجربة العملية في كثير من دول العالم أن الاعتماد على التقنيات الخضراء، وفي مقدمتها الطاقة المتجددة، هو من الحلول المثلى لمشكلة البطالة. إذ بلغ عدد العاملين في قطاع الطاقة المتجددة خلال عام 2013 وحده نحو 6.5 مليون فرد في جميع أنحاء العالم. ولم يعد استخدام الطاقة المتجددة مؤثراً على أفراد أو مجموعات صغيرة ومتناثرة هنا وهناك، كما كانت الحال في الألفية السابقة. فمنذ عام 2013 يعيش 20 مليون نسمة من سكان ألمانيا (أي حوالى ربع السكان) في مناطق تتمتع بإنتاج 100% من حاجتها إلى الطاقة عن طريق مصادر الطاقة المتجددة.
لقد كانت كلفة التنمية مرتفعة حتى وقت قريب، حيث كان على الدولة أن تشق الطرق وتمد شبكات الكهرباء والهاتف والمياه لإيصال الطاقة الكهربائية إلى كل منزل في المدينة والأنحاء النائية من البادية والأرياف، لكن بفضل الطاقة المتجددة التي يمكن إنتاجها على مستوى المنزل والقرية انخفضت أهمية الشبكات الضخمة المكلفة، والتي يضيع جزء كبير من الطاقة فيها بسبب بعد المسافات وتعرضها للسرقة والخراب. وبحسب "شبكة سياسات الطاقة المتجددة للقرن الواحد والعشرين"، فقد شهد العام 2013 صعوداً واضحاً لمشاريع الطاقة الشمسية على مستوى صغير ومتوسط، وذلك بسبب انخفاض كلفة الخلايا الكهروضوئية. لذا فإنه من المتوقع في المستقبل القريب أن يتزايد إنتاج الطاقة المتجددة بشكل غير مركزي، مما يتيح أيضاً إقامة مشروعات محلية لضخ المياه ومعالجتها بشكل غير مركزي باستخدام الطاقة المتجددة.
ومما لا شك فيه أن توفر المياه والطاقة بكلفة قليلة نسبياً هو ما يحقق التنمية الشاملة المطلوبة. وعندما يتوافر هذان العنصران يصبح بالإمكان إقامة مشاريع زراعية وصناعية في المناطق التي تعاني من التهميش، وهي ليست قليلة في منطقة الخليج والدول العربية عموماً، حيث أصبحت هذه المناطق بؤراً للتطرف السياسي والديني بسبب انتشار البطالة بشكل متزايد. كل هذا يحتم على دول المنطقة جعل الاعتماد على الطاقة المتجددة وإنتاجها بشكل غير مركزي داعم للمناطق المهمشة هدفاً استراتيجياً وأمنياً من الدرجة الأولى.
الاستعداد الخليجي للمستقبل
يسعى عدد متزايد من الدول والمناطق إلى التحول لإنتاج كامل احتياجاته من الكهرباء بحلول عام 2020 عن طريق الطاقة المتجددة، ومن آخر الدول التي أعلنت عن استراتيجيات من هذا النوع إسكتلندا وجيبوتي وتوفالو. هذه التحولات تستدعي طرح سؤال عن الاتجاهات الجيوسياسية العالمية في ظل التحول إلى الطاقة المتجددة، خصوصاً أن الطاقات المتجددة بأنواعها متوفرة في مساحات جغرافية شاسعة حول العالم، بعكس مصادر الطاقة التقليدية التي تتوافر في أماكن محدودة، وهو ما دعا الباحث الاقتصادي الأمريكي، جيريمي ريفكن، للقول إن "الجيوسياسة ستنتهي مع انتشار الطاقة المتجددة عالمياً".
القضية المهمة في هذا السياق بالنسبة للمنطقة العربية هي: أين ستكمن الأهمية الجيوسياسية للمنطقة العربية في ظل حقبة الطاقة الجديدة؟ وهل سيستمر الخليج العربي في لعب دور محوري في مجال الطاقة؟.. ليس من السهل الإجابة على هذا السؤال في ضوء المتغيرات الكثيرة الحاصلة على المستوى السياسي والتكنولوجي، ولكن المؤكد هو أن مشاريع الطاقة المتجددة في المنطقة العربية سيكون لها أثر استراتيجي ليس على السياسات الاقتصادية والداخلية في دول المنطقة فقط، وإنما أيضاً آثار ملموسة على السياسة الأمنية والتغييرات الجيوسياسية القادمة.
والجدير ذكره هنا على سبيل المثال بداية الملامح الأولى لمشروع ديزرتك (DESERTEC) العملاق، الذي يسعى القائمون عليه لربط شبكات الطاقة في شمال أفريقيا بشبكات الطاقة في أوروبا بهدف توليد الطاقة الشمسية من الصحراء الكبرى، وتزويد أوروبا بحاجتها منها. فقد أعلن مؤخراً عن مشروع باسم (TuNur) لإنتاج 2 جيجاوات من الطاقة الشمسية في تونس سيتم تصديرها إلى أوروبا عبر إيطاليا، وذلك بحلول عام 2018، كذلك حصل اتفاق مؤخراً بين كل من المغرب وإسبانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا يتم بموجبه إنشاء محطة توليد طاقة شمسية بقيمة 600 مليون يورو، يتم ربطها بشبكة الكهرباء الأوروبية.
وفي المقابل فإن منطقة الشرق العربي، وبالخصوص سوريا والعراق، تعاني حالياً عدم استقرار يمنع ربط منطقة الخليج بأوروبا عن طريق تركيا. ولذا فإن استراتيجية دول الخليج في مجال الطاقة يجب أن تنصب على اتجاهات جديدة في الطاقة المتجددة تضمن لها مواصلة تحقيق التنمية. وربما يكون التركيز على التنمية الصناعية المحلية في مجال الطاقة المتجددة، وربط ذلك بتحقيق تنمية شاملة على مستوى البادية والقرى والمدن، هو الطريق الأسلم لمواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية والاجتماعية الجسيمة التي تواجه المنطقة.