شهدت الأيام الأخيرة تجدداً للاشتباكات بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، في ظل تبادل التهم بين البلدين بشأن إطلاق النار على الحدود المُشتركة بينهما، بالتزامن مع تصاعد حدّة المواجهات المُسلحة بين الجيش الكونغولي وحركة "23 مارس" (M23) المتمردة، وهو ما أثار مخاوف مُتزايدة حول احتمالية انزلاق كينشاسا وكيغالي إلى حرب شاملة، الأمر الذي قد يفاقم الأوضاع الأمنية المأزومة في منطقة البحيرات العظمى.
تصعيد جديد:
عادت التوترات بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى التصاعد مرةً أخرى خلال الأيام الأخيرة، حتى بلغت ذروتها في نهاية أكتوبر 2023، في ظل الاشتباكات التي اندلعت بين الطرفين على الحدود المشتركة بينهما، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تُهم مُتبادلة بين كينشاسا وكيغالي: نشر المُتحدث باسم حكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية، باتريك مويايا، صوراً تم التقاطها بطائرات مُسيّرة، في 17 أكتوبر 2023، بالقرب من مدن تونغو وروتشورو بشمال كيفو، حيث ألمحت كينشاسا إلى أن هذه الصورة المنشورة تُظهر رتلاً من الجنود الروانديين المسلحين وهم يعبرون الحدود في طريقهم لتقديم الدعم لحركة "23 مارس" المتمردة، في ظل الهجمات المكثفة التي تشنها الأخيرة ضد الجيش الكونغولي منذ عدة أيام، في محاولة للسيطرة على إحدى المدن الاستراتيجية في شرق الكونغو، حيث عمدت الحركة إلى اقتحام منطقة ماسيسي عبر روتشورو.
في المقابل، أصدر المتحدث باسم الحكومة الرواندية بياناً عبّر خلاله عن قلق كيغالي من الدعم المتزايد الذي تقدمه الحكومة الكونغولية لحركات التمرد والمرتزقة المسلحين الذين يستهدفون زعزعة استقرار بلاده الداخلي والإطاحة بنظام الحكم القائم فيها، وفي مقدمة هذه الحركات "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا".
2- تحول ملحوظ في لغة الخطاب الرسمي المُتبادل: رصدت كثير من التقارير تحولاً ملحوظاً في لغة الخطاب الرسمي المتبادل بين رواندا والكونغو الديمقراطية، فلطالما عمدت الخطابات الرسمية للبلدين إلى الإعلان عن تمسكها بالمسار الدبلوماسي في حلحلة الأزمة القائمة بينهما، بيد أن هذه الخطابات تحولت خلال الآونة الأخيرة إلى تبني لهجة أكثر حدّة في مهاجمة الطرف الآخر، بالتزامن مع تصاعد حدة الاشتباكات الميدانية.
وقد اعتبرت بعض التقارير أن قادّة كل من رواندا والكونغو الديمقراطية بدأوا في تبني لغة أكثر عدائية في توجيه المشاعر العامة داخل البلدين، وذلك بُغية تحضير السكان المحليين لأي حرب مستقبلية تحت ذريعة حماية الحقوق المشروعة، مع ترويج كل طرف لفكرة مظلومية دولته، ومن ثم الحاجة لاتخاذ رد قوي ضد الطرف الآخر، وقد انعكست هذه اللغة على الخطاب الشعبي بين مواطني البلدين، والذين بدأوا في نشر خطابات عدائية مماثلة على وسائل التواصل الاجتماعي.
3- تقويض عمليتي لواندا ونيروبي للسلام: تُشكل التوترات الراهنة على الحدود المُشتركة بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية تقويضاً لعمليتي السلام اللتين كانت تقودهما أنغولا وكينيا، للوساطة بين كينشاسا وكيغالي، وهو ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، للتحذير من احتمالية المواجهة المباشرة بين البلدين، وهو الأمر ذاته الذي حذّر منه المبعوث الأممي الخاص لمنطقة البحيرات العظمى، هوانغ شيا. كما كشف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن حوالي 85 ألف شخص اضطروا للفرار من مناطق مختلفة في شرق الكونغو خلال الأسابيع الأخيرة، ولاسيما في مويسو ونيانزالي وكيتشانغا وكاليمبا وبينغا وكيباتشيرو وكاهيرا ونغينغوي وكياتيمبي، وغيرها من المدن بمنطقة ماسيسي بمقاطعة كيفو الشمالية.
وكانت التوترات بدأت تتراجع بنهاية عام 2022، في ظل عمليات الوساطة التي قادتها كينيا وأنغولا، لذا سادت حالة من التفاؤل الحذر بشأن إمكانية تسوية الأزمة القائمة، خاصةً بعدما بدأت القوة الإقليمية لمجموعة دول شرق إفريقيا، بدايةً من ديسمبر 2022، تتسلم بعض القواعد التي كانت تسيطر عليها حركة "23 مارس" المتمردة، مع الإعلان عن بدء انسحاب تدريجي للحركة من المناطق التي تسيطر عليها، بيد أن وقف القتال الهش الذي كان ينبثق عن عمليتي السلام بدأ ينهار بحلول سبتمبر 2023، عندما بدأت الحركة المتمردة في استئناف القتال في محافظة كيفو الشمالية.
وكان تقرير صادر عن مجموعة الأزمات الدولية (International Crisis Group) قد كشف عن مفاوضات عقدها القائد الكيني للقوة الإقليمية لشرق إفريقيا مع حركة "23 مارس" المتمردة، بشأن خطة انسحاب الحركة من المناطق الرئيسية التي تسيطر عليها، بيد أن الحركة لم تنسحب بشكل كامل، ما أثار حالة من الغضب في الداخل الكونغولي، بل وتم توجيه تُهم لنيروبي بعقد صفقة مع الحركة المتمردة، وقد ازدادت وتيرة السخط الكونغولي بعد التقدم الذي أحرزته القوات المتمردة خلال الأيام الأخيرة.
سياقات مُتشابكة:
يأتي التصعيد الراهن بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية في إطار جملة من المُتغيرات المتداخلة التي تهيمن على السياق العام في منطقة البحيرات العظمى، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تأرجح علاقة كيغالي وكينشاسا: شهدت علاقة رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية حالة من التأرجح خلال السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من تحسن هذه العلاقة بداية من عام 2019، مع تولي الرئيس الكونغولي الحالي، فيليكس تشيسيكيدي، فإن التوترات بين البلدين تجددت مرةً أخرى بنهاية عام 2021، عندما استأنفت حركة "23 مارس" تمردها وعملها العسكري ضد الحكومة الكونغولية، حيث عمدت الحركة منذ ذلك الحين إلى توسيع نطاق انتشارها وسيطرتها، وقد تمكنت خلال الأيام الأخيرة من السيطرة على مدينة كيتشانغا الاستراتيجية، والتي تشكل مُفترق طرق بين إقليمي ماسيسي وروتشورو، فضلاً عن القلق من إمكانية توجه المتمردين نحو إعادة الخناق على العاصمة الإقليمية غوما.
2- استعدادات الكونغو للانتخابات الرئاسية: يأتي التصعيد الراهن بين رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية بالتزامن مع الاستعدادات الراهنة من قبل الأخيرة للاستحقاقات الرئاسية المقبلة، والتي يفترض أن تشهدها كينشاسا في 20 ديسمبر 2023، وقد اعتبرت بعض التقديرات أن الرئيس الحالي، فيليكس تشيسيكيدي، يعمد إلى التصعيد ضد كيغالي في إطار الدعاية الانتخابية ولتعزيز فرص حصوله على ولاية جديدة في الانتخابات المقبلة، خاصةً في ظل تزايد مُستوى المعارضة الداخلية ضده، وعودة سلفه الرئيس السابق، جوزيف كابيلا.
وربما يدعم ذلك الطرح الاجتماع الذي عقده تشيسيكيدي، في 18 أكتوبر 2023، مع قادة المؤسسة العسكرية والأمنية في بلاده، والذي وجه خلاله انتقادات حادة لرواندا، كما قاد حملة اعتقالات واسعة ضد عدد كبير من القيادات الأمنية والعسكرية في بلاده، بحجة التقصير في التعامل مع تهديدات المجموعات المتمردة، وهو ما اعتبرته المعارضة السياسية مُحاولة من قبل تشيسيكيدي لاستغلال التصعيد الراهن ضد رواندا للتخلص من خصومه الداخليين.
3- تحشيد عسكري مُتزايد: كشفت بعض التقديرات عن وجود تحشيد عسكري متزايد من قبل رواندا والكونغو الديمقراطية يثير حالة من القلق من إمكانية تفاقم الأوضاع، وكانت كينشاسا قد حركت مؤخراً عدداً من وحداتها العسكرية باتجاه المناطق الحدودية مع رواندا، كما دفعت نحو تقديم مزيد من التسليح للمليشيات المحلية الموالية لها في شرق البلاد، فقد كشفت بعض التقارير عن تقديم الجيش الكونغولي الدعم العسكري لحركة "Wazelendo" (الوطنيين) المسلحة في بلدة كيتشانغا الاستراتيجية في مواجهات الحركة ضد متمردي "23 مارس".
ارتدادات داخلية وإقليمية:
في إطار المتغيرات الراهنة في شرق الكونغو وتصاعد حالة التحشيد العسكري من طرفي الصراع، هناك جملة من الارتدادات الداخلية والإقليمية التي ربما تتمخض عن هذا المشهد، وهو ما يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تصاعد القلق من اندلاع حرب مُباشرة: عبّرت الكثير من التقديرات عن قلقها من احتمالية الانزلاق نحو الخيار الصفري واندلاع حرب مُباشرة بين رواندا والكونغو الديمقراطية، خاصةً حال دخول الجيش الكونغولي إلى الأراضي الرواندية لمطاردة مُتمردي حركة "23 مارس"، وقد حذّرت هذه التقارير من أن الدعم الراهن الذي يقدمه الجيش الكونغولي لبعض المجموعات المحلية المسلحة في شرق البلاد يمكن أن يفاقم حدّة المواجهات مع رواندا، خاصةً في ظل التقرير الذي نشرته وكالة "دويتشه فيله" الألمانية، والذي كشف عن انضمام عناصر من "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" مع حركة "Wazelendo" في الاشتباكات الأخيرة التي خاضتها الحركة مع متمردي "23 مارس"، وقد اعتبر التقرير أن وجود مقاتلي "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" على تخوم الحدود الرواندية قد يدفع كيغالي لاتخاذ رد فعل عدائي، يمكن أن يتمخض عنه اندلاع حرب مباشرة بين رواندا والكونغو الديمقراطية، لكن حتى الآن تبقى فرص اندلاع حرب شاملة بين البلدين محدودة.
2- تصاعد وتيرة التوترات في شرق الكونغو: حتى في حال عدم اندلاع حرب شاملة ومُباشرة بين رواندا والكونغو الديمقراطية، فثمّة توقعات مُتزايدة بأن تشهد الفترة المُقبلة تصاعداً في حدة المواجهات بين الجيش الكونغولي وحركة "23 مارس" المتمردة، إذ رصدت بعض التقارير حصول عناصر الحركة على تدريبات مُكثّفة خلال الفترة الأخيرة، واتجاه الحركة لتوسيع نطاق سيطرتها ومحاولة ضم مزيد من المُكتسبات الميدانية، وكانت الحركة قد شنت في الأيام الأخيرة هجوماً مُوسعاً ضد بلدة بامبو شمال غوما، بشرق البلاد، ويتوقع أن تعمد كيغالي إلى زيادة دعمها للحركة.
3- احتمالية تمدد الظاهرة الانقلابية: لم تستبعد بعض التقديرات احتمالية تمدد الظاهرة الانقلابية إلى منطقة البحيرات العظمى، ولاسيما في جمهورية الكونغو الديمقراطية، إذ ألمحت بعض التقديرات إلى وجود درجة من الانقسام داخل المؤسسة العسكرية الكونغولية إزاء الرئيس الحالي، فيليكس تشيسيكيدي، وهو ما تجسد بوضوح في حملة الاعتقالات التي قادها الأخير ضد كثير من قيادات الجيش الكونغولي، لذا لا يمكن استبعاد حدوث انقلاب عسكري في كينشاسا، خاصةً في حال حدوث توترات بشأن نتائج الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 2023، وفي هذا الإطار يمكن أن يؤدي هذا السيناريو إلى تفاقم الأوضاع الأمنية المأزومة بالفعل في الداخل الكونغولي، على غرار سيناريو عام 2018.
4- تفاقم السيولة الأمنية في منطقة البحيرات العظمى: في ظل حالة السيولة الأمنية التي تتسم بها منطقة شرق الكونغو، والتي تمتلك كميات هائلة من الثروات الطبيعية، لطالما لجأت دول منطقة البحيرات العظمى، بما في ذلك بوروندي ورواندا وأوغندا، إلى مُلاحقة حركات التمرد من بلدانها والتي تلجأ غالباً إلى شرق الكونغو للتمركز بها، بل إن حكومات هذه الدول عمدت أحياناً إلى تجنيد بعض المجموعات الكونغولية المُسلحة كوكيل عنها للقيام بمهمة ملاحقة هذه الحركات المتمردة، ما شكل نوعاً من حروب الوكالة في المنطقة، وسمح لدولها بهامش معقول من إنكار علاقتها بهذه المجموعات في المحافل الدولية، بيد أن التوترات المتزايدة حالياً في منطقة شرق الكونغو، وعودة الزخم لحروب الوكالة هناك، من شأنه أن يكرس حالة السيولة الأمنية في منطقة البحيرات العظمى، ويفاقم الأوضاع الأمنية المأزومة، بل وربما يدفع لتكرار سيناريو الحروب الشاملة التي شهدتها المنطقة فترة التسعينيات.
وفي التقدير، يمكن القول إنه على الرغم من التصعيد العسكري الراهن في شرق الكونغو، فإنه من غير المُرجّح أن تلجأ كيغالي أو كينشاسا نحو الخيار الصفري، والمتمثل في الدخول في حرب شاملة بين البلدين، قد تتفاقم بانخراط أطراف إقليمية أخرى، فرواندا لن تخاطر من ناحيتها بالانزلاق نحو حرب مفتوحة، لن تجد ما يبررها داخلياً أو خارجياً، خاصةً في ظل ضبابية الأهداف النهائية لهذه الحرب، وبالمثل تعاني الكونغو الديمقراطية من تحديات سياسية واقتصادية وأمنية متزايدة، تجعلها غير قادرة على الاندفاع إلى حرب شاملة.
غير أن هذا لا يقلل من خطورة الوضع الراهن، في ظل التوترات المتزايدة، ودفع كلا الطرفين نحو حافة الهاوية، والتي حتى وإن لم تؤل إلى حرب شاملة، فسيكون لها تداعيات إقليمية واسعة، سواءً بسبب موجات النزوح المستمرة لمئات الآلاف من السكان، أم بسبب تفاقم التوترات الطائفية في هذه المنطقة المضطربة، ناهيك عن تداعيات هذه التوترات على جهود مكافحة الجماعات الإرهابية في المنطقة، والتي بدأت تستغل حالة الانشغال الراهنة لتعزيز تموضعها ونفوذها الميداني.