لم يكد الاقتصاد العالمي يفيق من صدمة جائحة "كورونا" التي عرضته لأوسع إغلاق في عام 2020، حتى وجد نفسه في مواجهة صدمة الحرب الروسية الأوكرانية التي أضرت سلاسل توريد العديد من السلع والمواد الأولية والمعادن والمحاصيل الاستراتيجية. وما أن بدأ الاقتصاد العالمي يستفيق بعض الشيء من الصدمة الأولى للحرب الأوكرانية، حتى وجد نفسه مرة أخرى أمام حرب جديدة في قطاع غزة، من شأنها زيادة الاضطرابات في منطقة الشرق الأوسط، وتهديد عدة مقومات أساسية للاقتصاد على رأسها أسواق الطاقة وحركة الملاحة البحرية والجوية، بجانب التكلفة المباشرة وغير المباشرة للحرب، ولاسيما في حال اتساع نطاقها بانخراط أطراف إقليمية مثل إيران أو أطراف دولية كالولايات المتحدة ودول أوروبية وغيرها، بما يجعلها حرباً ممتدة زمنياً وجغرافياً وجيوسياسياً، ويُحمل الاقتصاد العالمي أعباءً ثقيلة، تعرقل نموه وتهدد استقراره على مدى سنوات.
قنوات التأثير المُحتمل:
تُعد الحروب أحد أكبر المهددات لاقتصاد أي دولة، إن لم تكن هي الأكبر على الإطلاق؛ نظراً لأنها تصيب الأنشطة الاقتصادية بالشلل التام، ولاسيما الأنشطة ذات الطابع غير العسكري، كالسياحة والسفر والتجارة والخدمات اللوجستية والبناء والتشييد والطاقة والصناعات المدنية وغيرها. كما أنها تدفع الشركات إما إلى تصفية أعمالها والهروب من ويلات الحرب، أو وقف النشاط وتأجيل قرارات الاستثمار في أفضل الظروف. كما تؤدي الحرب إلى تصفية سوق العمل من الأيدي العاملة الشابة، في حال استدعائها للخدمة العسكرية.
وإذا كانت هذه الأضرار التي تصنف على أنها آثار مباشرة للحرب عادةً ما تصيب اقتصادات الدول المنخرطة فيها، وخاصة تلك التي تقع الحرب على أراضيها؛ فإن هناك آثاراً أخرى تكون غير مباشرة وأوسع نطاقاً، بما يشمل الاقتصاد العالمي ككل. وتزداد هذه الآثار أو تنخفض تبعاً للاتساع الجغرافي للحرب، وتأثيرها في أسواق السلع الاستراتيجية وسلاسل التوريد الدولية، وكذلك مدى الانقسام الذي ينتج عنها في العلاقات الاقتصادية بين الدول، وبالتالي مدى استعداد الدول للانخراط في اتفاقات متعددة الأطراف في مواجهة التحديات الاقتصادية الدولية.
هذا بالتحديد ما يواجهه الاقتصاد العالمي في الوقت الراهن، بسبب التصعيد في قطاع غزة، خصوصاً أنه اندلع في وقت ما زالت فيه الحرب الروسية الأوكرانية قائمة، بكل ما حملته معها من أضرار اقتصادية عديدة. وفي هذا الإطار، فإن آثار هذا التصعيد تأخذ طريقها إلى الاقتصاد العالمي عبر قنوات عديدة، منها التهديد المباشرة لاستقرار إمدادات الطاقة العالمية، وخاصةً النفط والغاز الطبيعي، نظراً للقرب الجغرافي من مكامن النفط والغاز في منطقة الشرق الأوسط؛ بجانب التهديد الناتج عنها لحركة الملاحة البحرية والجوية الإقليمية والعالمية، هذا بخلاف ما قد ينتج عنها من انقسام دولي، يؤثر في الجهود العالمية في مواجهة الأزمات الاقتصادية في المستقبل.
تضرر أسواق الطاقة:
كان من الآثار المباشرة للحرب في قطاع غزة تعليق الإنتاج في حقل تمار للغاز، الذي بلغ إنتاجه نحو 10.25 مليار متر مكعب في عام 2022. وكان ذلك سبباً في ارتفاع أسعار الغاز في الأسواق الأوروبية بأكثر من 40%، عند 56 يورو (59.2 دولار) لكل ميغاواط/ ساعة، في ظل تسبب وقف العمل بالحقل في انقطاع 1.5 مليار متر مكعب سنوياً عن أسواق التصدير، وهو ما أربك الأسواق الأوروبية، خصوصاً أن ذلك يأتي في وقت حُرمت فيه هذه الأسواق من معظم إمدادات الغاز الروسية، منذ بداية الحرب في أوكرانيا.
وفي هذا السياق، تتعين الإشارة إلى أن الأضرار التي لحقت بأسواق الغاز العالمية، حتى الآن، قد لا تكون سوى جزءٍ من أضرار أكبر ربما تصيبها لاحقاً في حال اتساع نطاق الحرب الحالية، حيث إن ذلك سيهدد في المقام الأول إمدادات الغاز من منطقة شرق المتوسط، والتي تبلغ نحو 7.8 مليار قدم مكعب يومياً، بما يزيد عن 2% من الإمدادات العالمية، وسيكون توقفها سبباً لاضطراب شديد في أسواق الغاز، إلى أن يتم تعويضها من مصدر آخر من خارج المنطقة. وفي التأثيرات الأوسع نطاقاً، فإن اتساع الحرب الجارية يهدد استقرار إمدادات الغاز من منطقة الشرق الأوسط ككل، والتي تبلغ نحو 701 مليار متر مكعب سنوياً، بما يناهز 16.8% من الإمدادات العالمية في المُجمل. وفي حال انقطاع أو حتى عدم استقرار تلك الإمدادات، فإن ذلك سيكون سبباً في دخول أسواق الغاز في حالة من الاختناق الشديد، وحدوث ارتفاعات قياسية في الأسعار العالمية للغاز.
بجانب أسواق الغاز الطبيعي، لا تعتبر أسواق النفط العالمية بعيدة عن تداعيات الأحداث في غزة، حيث إن اندلاع الحرب نشر حالة من الخوف من إمكانية حدوث ضرر مباشر لمرافق إنتاج النفط الخام في الشرق الأوسط، البالغ نحو 33.3 مليون برميل يومياً، والتي تمثل نحو 32.8% من إجمالي الإنتاج العالمي، البالغ 101 مليون برميل يومياً. كما تهدد الحرب، في حال اتساعها، حركة الملاحة عبر الممرات المائية في المنطقة. ونتيجة لذلك، كان التصعيد الراهن سبباً في قفزة سريعة وكبيرة في أسعار النفط العالمية، التي ارتفعت بنحو 7.3% خلال الأسبوع الأول من الحرب، ليتخطى سعر نفط برنت مستوى 91 دولاراً للبرميل، بعدما كان يدور حول 85 دولاراً للبرميل قبيل الأحداث الحالية.
في نفس الاتجاه، فإن اتساع نطاق الحرب، في حال حدوثه، سيكون إيذاناً باتساع حالة الهلع في أسواق النفط، ويدفع الأسعار إلى بلوغ مستوى 100 دولار للبرميل، وفق تقديرات العديد من المؤسسات الدولية. بل إنه في حال تسببت الحرب في تدمير بعض مرافق إنتاج ونقل النفط بالمنطقة، فإن ذلك سيدفع الأسعار إلى مستويات قياسية، أعلى بكثير عن 100 دولار للبرميل خلال فترة وجيزة، وهو ما سيكون سبباً في اضطراب وتعثر الاقتصاد العالمي؛ لأنه سيزيد مستوى الضغوط التضخمية بشكل قياسي، بما يرفع احتمالات دخول الاقتصاد في حالة ركود تضخمي معقدة، وخاصة مع تزامن ارتفاع أسعار الغاز وأسعار النفط معاً، وفي حال بقائهما مرتفعين لفترة طويلة.
عرقلة التجارة الدولية:
تأتي عرقلة حركة التجارة الدولية، عبر الممرات البرية والبحرية والجوية في منطقة الشرق الأوسط، كثاني أكبر التهديدات الناتجة عن التصعيد الحالي في قطاع غزة، والتي يُرجح أن تزداد كثيراً إذا اتسعت الحرب في الفترة المقبلة، في ظل قرب موقع الحرب جغرافياً من الممرات الملاحية المهمة في المنطقة، والتي يعبرها ما يناهز نحو 30% من تجارة الحاويات الدولية، وبقيمة سلع تبلغ نحو تريليون دولار سنوياً.
كما تقع الحرب في نطاق خطوط الملاحة الجوية عبر المنطقة، والتي تمثل بؤرة مهمة لحركة الطيران الدولية، سواءً انطلاقاً من المنطقة إلى دول أوروبا والأمريكتين، أو بالنسبة لخطوط الطيران القادمة من أقصى شرق العالم إلى أقصى غربه، أو من شماله إلى جنوبه أيضاً. وفي المُجمل، تمثل منطقة الشرق الأوسط إما محطات بداية أو توقف أو نهاية لخطوط الملاحة والشحن الجوي، بقيمة تبلغ نحو 1.74 تريليون دولار سنوياً، وبنسبة 29% من إجمالي تجارة السلع المنقولة جواً حول العالم، وفق الاتحاد الدولي للنقل الجوي.
وهذا يعني أن التصعيد في قطاع غزة، وفي حالة اتساعه وامتداده، من شأنه أن يعرقل حركة ما قيمته نحو 2.74 تريليون دولار من التجارة السلعية العالمية، أو نحو 10.8% من الإجمالي العالمي، البالغ نحو 25.3 تريليون دولار في عام 2022، وفق منظمة التجارة العالمية. وهذا الأمر من شأنه أن يتسبب في اختناقات كبيرة في سلاسل التوريد، ويزعزع استقرار أسواق السلع الأساسية، وخاصة في المنطقة، وكذلك الأسواق المرتبطة بعلاقات تجارية معها، سواءً استيراداً أم تصديراً أم عبوراً.
بالإضافة إلى ذلك، تتسبب الحرب في توقف أو تغيير مسار خطوط الملاحة الجوية والبحرية عبر الشرق الأوسط، بالإضافة إلى زيادة تكلفة التأمين على رحلات الطيران وسفن الشحن التجاري، من وإلى وعبر المنطقة، إلى مستويات قياسية، بما يؤثر سلباً في حركة التجارة السلعية وحركة السياحة حول العالم. وقد بدأت ملامح ذلك في الظهور بالفعل، حيث أقدمت شركات شحن على تغيير مسارات سفنها، وبدأت شركات التأمين في فرض علاوات مخاطر على شركات الطيران والشحن الجوي الدولي، وفق مركز مبادرة أبحاث التجارة العالمية.
في النهاية، فإن آثار الحرب في غزة على الاقتصاد العالمي لا تتوقف عند هذا الحد، حيث إن هناك توقعات بتراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي إلى الشرق الأوسط، وتضرر الموازنات الحكومية في بعض دول المنطقة، نظراً لتزايد نفقات التسلح أو إعادة الإعمار؛ وهو ما يُقلص فرص نمو اقتصادات هذه المنطقة في وقت كان يعول عليها، بجانب اقتصادات آسيا، في قيادة نمو الاقتصاد العالمي. كما أن اتساع نطاق الحرب من شأنه زيادة الاستقطاب بين الدول، وخاصة القوى الكبرى في الغرب من ناحية، والقوى الكبرى المناوئة لها كالصين وروسيا بجانب الدول الداعمة للفلسطينيين، من ناحية أخرى؛ وهو ما يزيد الشقاق بين صانعي السياسات الاقتصادية حول العالم، ويعرقل جهود مواجهة التضخم وتباطؤ النمو، فضلاً عن إبطاء وتيرة العمل على إدراك أهداف التنمية العالمية كهدف القضاء على الفقر والجوع، ونشر الطاقة والمياه النظيفة، والعمل المناخي، وغيرها من الأهداف قصيرة أو بعيدة المدى.