طرحت الحرب الدائرة بين إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة، منذ 7 أكتوبر الجاري، العديد من التساؤلات التي تتعلق بالمدى الزمني المتوقع لاستمرارها، واحتمال انخراط أطراف إقليمية أخرى في الصراع، ومدى توافر إمكانية حقيقية لمنع التصعيد الإسرائيلي إلى حد الاجتياح الكامل للقطاع، فضلاً عن التأثير المُحتمل لتشكيل حكومة طوارئ إسرائيلية مهمتها ادارة الحرب في قرارات تل أبيب في المرحلة الحالية. وواقع الأمر كما هو مُعتاد في إدارة الأزمات، أن ثمة عوامل مُحفزة وأخرى مثبطة لكل تطور من التطورات المُتضمنة في هذه التساؤلات المطروحة، وسنتناول كلاً منها بشيء من التفصيل.
مدى الحرب:
بافتراض استمرار معارك الحرب الحالية مُقتصرة في أغلبها على المواجهات بين الجيش الإسرائيلي والفلسطينيين، يبقى التصعيد بين الجانبين مُحتملاً، ما يعني أن الأفق الزمني لنهاية الحرب لا يمكن تحديده، وهو ما أكدته تصريحات القادة الإسرائيليين، سواءً رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أم وزير الدفاع، يوآف غالانت، ورئيس الأركان، هرتسي هاليفي، الذين أجمعوا على أن الحرب ستكون طويلة ولن تتوقف إلا إذا حققت إسرائيل أهدافها.
والواقع أنه لم يعد لدى إسرائيل سوى هدف واحد فقط، وهو تصفية حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وإسقاط حكم حماس في قطاع غزة. ولكي تتمكن إسرائيل من تحقيق هذا الهدف، سيتعين عليها اجتياح القطاع. ولتفادي وقوع خسائر بشرية ضخمة في صفوف قواتها أثناء وعقب هذا الاجتياح المُحتمل، ستضطر القوات الإسرائيلية إلى "تجزئة عملية الاجتياح". وقد بدا واضحاً من دعوة إسرائيل لسكان غزة إلى إخلاء منازلهم والتوجه إلى جنوب القطاع، أو إلى داخل الحدود المصرية، أن خطة التجزئة قد بدأت بالفعل، وبالتالي ستكون الحرب طويلة وقد تستمر أسابيع أو حتى أشهراً. ومع ذلك، ستحاول إسرائيل تقليص المدى الزمني للحرب للأسباب التالية:
1- ضغط الرأي العام الإسرائيلي على نتنياهو وحكومته لتقصير أمد الحرب، حتى لو تعرضت إسرائيل لخسائر بشرية كبيرة أو لانتقادات دولية بسبب الأعداد الضخمة المُتوقع سقوطها في صفوف سكان قطاع غزة من جراء القصف الجوي والمعركة البرية.
2- تخفيف الضغوط الدولية الواقعة على إسرائيل للسماح بتمرير المساعدات الغذائية والطبية للمدنيين في قطاع غزة، حيث تدرك تل أبيب أن استجابتها لهذا المطلب ستمنح حركتي حماس والجهاد الإسلامي الفرصة لإطالة زمن الحرب.
3- عدم إطالة زمن الإبقاء على الحشد الضخم من قوات الاحتياط الذين تم استدعاؤهم منذ بداية الحرب؛ نظراً للتأثيرات السلبية المؤكدة من جراء ذلك في الاقتصاد الإسرائيلي والتي قد تستمر لسنوات مقبلة.
4- خوف الحكومة من تأثير إطالة الحرب في الفئات الاجتماعية المُستعدة للهجرة من إسرائيل جراء عدم شعورها بالأمان، أو لعدم قدرتها على الاندماج في المجتمع.
5- عدم تعريض العلاقات الأمريكية الإسرائيلية لتوترات متزايدة، خاصةً أن الولايات المتحدة بالرغم من دعمها الصريح لإسرائيل، لا توافق على تشديد الحصار على قطاع غزة، وتسعى إلى الاتفاق على هدنة إنسانية لإيصال المساعدات الطبية والغذائية للسكان المدنيين في القطاع.
وفي ضوء هذه الأسباب، ستحاول إسرائيل تقصير المدى الزمني للحرب بالإسراع في تنفيذ عملية اجتياح شمال غزة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى انخفاض الروح المعنوية لقوات حماس والجهاد الإسلامي، مما يدفعهما إلى إبداء استعدادهما لوقف إطلاق الصواريخ تجاه المدن الإسرائيلية، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين دون اتفاق لتبادل الأسرى. من جانبها، ستطلب إسرائيل ترحيل مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي إلى خارج القطاع، مقابل وقف الحرب نهائياً، كما قد تطالب بوضع القطاع تحت إدارة دولية تتولى التأكد من عدم وجود تهديدات عسكرية لإسرائيل في المستقبل.
نطاق الحرب:
عملياً لا يمكن القول إن الحرب بين إسرائيل والفلسطينيين لم تتسع فعلياً، حيث إن تحركات حزب الله في لبنان، وبعض المنظمات الفلسطينية في سوريا، منذ اليوم الأول للحرب، كانت تشي بأن فتح جبهات القتال مع إسرائيل في الشمال يمكن أن يتسبب في نشوب حرب شاملة على عدة جبهات بين إسرائيل وخصومها المدعومين من إيران، بل إن هناك احتمالاً لا يمكن تجاهله باضطرار إيران نفسها للتورط في هذه الحرب في أية لحظة.
ويمكن فهم توسع نطاق الحرب كاحتمال قائم في إطار لعبة شد الأطراف ضمن مثلث أضلاعه إيران، وحزب الله، وحركتا حماس والجهاد الإسلامي. فقد نجحت طهران في بناء هذا المثلث وجعله ركيزة لقوة ردعها في المنطقة في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، واستثمرت مليارات الدولارات لتشييده، وتحملت تبعات اقتصادية وسياسية وأمنية كبيرة من أجل الحفاظ عليه. وتدرك طهران جيداً أن انهيار ضلع من أضلاع هذا المثلث، يعني تقويض المنظومة بأكملها، وبالتالي لا يمكنها عدم التصدي لإمكانية نجاح إسرائيل في تصفية حركتي حماس والجهاد الإسلامي في غزة سواءً بقوتها الذاتية أم بقرار دولي.
وبطبيعة الحال، لن تبادر إيران بشن حرب على إسرائيل، لأسباب عديدة، منها ما يلي:
1- ما زال لدى إيران الفرصة في الابتعاد عن الاشتباك المباشر مع إسرائيل، عبر دفعها حزب الله لفتح الجبهة الشمالية من لبنان وسوريا.
2- دخول طهران الحرب سيُعد عملاً غير مشروع من ناحية القانون الدولي، بمعنى أنه إذا كانت هناك شرعية ما لحركتي حماس والجهاد الإسلامي لقتال إسرائيل لأنها تحتل أجزاءً من الأراضي الفلسطينية، فإن إقدام إيران على توجيه ضربات ضد إسرائيل من داخل أراضيها سيعني أنها أعلنت الحرب دون مبرر مقبول مثل الدفاع عن أرضها، أو رد عدوان وقع عليها من جانب إسرائيل بشكل مباشر.
3- وجود الأساطيل الأمريكية أمام السواحل الإسرائيلية، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة، التي تعهدت بحماية أمن إسرائيل، يمكن أن ترد على أي هجمات من جانب إيران ضد تل أبيب، بتشغيل منظومات الصواريخ المُضادة لإسقاط الصواريخ الإيرانية قبل وصولها إلى الأراضي الإسرائيلية، أو تدمير القطع البحرية الإيرانية الموجودة في الخليج العربي والتي يمكن أن تنطلق منها الهجمات الصاروخية ضد إسرائيل.
4- إذا حاولت إيران استهداف الأساطيل الأمريكية، سواءً لمنعها من تقديم العون لإسرائيل في مواجهة حزب الله اللبناني (في حالة دخوله الحرب بكامل قوته)، أو رداً على ضربات أمريكية وُجهت لأراضيها وقطعها البحرية؛ يمكن في هذه الحالة أن تدخل قوات حلف "الناتو" الحرب ضد إيران، وفقاً لميثاق الحلف الذي يُلزم أعضاءه بالدفاع عن أي عضو يتعرض لهجوم عسكري.
وفي ضوء تلك الأسباب المُشار إليها، تبقى طهران أمام ثلاثة خيارات صعبة، وهي كالتالي:
1- أن تترك حلفاءها (حماس والجهاد الإسلامي) يواجهون خطر التدمير الشامل لقدراتهما العسكرية، وإنهاء حكم حماس في قطاع غزة.
2- أن تدفع حزب الله اللبناني لفتح جبهة الشمال للتخفيف عن الجبهة الجنوبية.
3- أن تبادر بالمشاركة في الحرب مباشرة بقصف إسرائيل، ودفع قوات حزب الله للدخول إلى عمق الأراضي الإسرائيلية والقتال من داخلها، تحت حماية الضربات الصاروخية الإيرانية، ومثيلتها من مواقع حزب الله في الجنوب اللبناني والأراضي السورية.
وفي كل هذه الاحتمالات الثلاثة، ستخرج إيران خاسرة، فإما أن تفقد أدوات ردعها إذا اختارت الخيار الأول، أو أن تُعجل بالانهيار الكامل لمثلث الردع الذي شيدته إذا اختارت الخيار الثاني، خاصةً لو قررت إسرائيل أن تؤجل عملياتها البرية في غزة، للتركيز على مواجهة حزب الله، مستهدفة تدمير جزء كبير من قدراته العسكرية، بالإضافة إلى محاولة إفقاده شرعيته داخل لبنان بتحميله مسؤولية تعريض البلاد للدمار الشامل ليس دفاعاً عن لبنان ولكن من أجل الحفاظ على المصالح الإيرانية. والخسارة الأكبر لطهران ستكون إذا اتجهت للعمل وفق الخيار الثالث (إعلان الحرب على إسرائيل)، حيث إن التدخل الأمريكي إلى جانب تل أبيب سيعني في هذه الحالة أن طهران باتت في حالة حرب مباشرة مع واشنطن، ومن خلفها حلف "الناتو"، مما يعني تعرض الأراضي الإيرانية لهجمات غير مسبوقة من أكثر من جبهة، في ظل عدم التيقن من استعداد روسيا والصين للوقوف إلى جانب إيران في مثل هذه الحرب.
وفي هذا السياق، يبدو أن إيران قد تكون مُضطرة لتقبل الخسارة الناتجة عن انهيار ضلع واحد من أضلاع مثلث الردع الخاص بها، من خلال السماح لحزب الله بتوجيه ضربات منخفضة القوة لإسرائيل لا تُحفزها على شن حرب شاملة ضد لبنان وحزب الله، لكنها تحفظ لطهران ماء وجهها نسبياً أمام حركتي حماس والجهاد الإسلامي. وتأمل إيران أن تُثمر الجهود الدولية لإقرار هدنة لنقل المساعدات الإنسانية إلى غزة، عن تغيير اتجاه الأحداث نحو الإبقاء على حركتي حماس والجهاد الإسلامي، والحيلولة دون إنهاء وجودهما بالكامل، والاكتفاء بتخفيض قوتهما العسكرية لأدنى حد.
اجتياح غزة:
من الصعب تصور أن إسرائيل ستتخلى طواعية عن اجتياح قطاع غزة، وتقسيمه إلى مناطق عدة، لتحقيق الأهداف المُعلنة من جانبها؛ وأهمها تصفية الوجود العسكري لحركتي حماس والجهاد الإسلامي. فقط الحسابات الأمنية من جهة إسرائيل، والضغوط الدولية والإقليمية هي التي يمكنها الحد من حجم ومدى عملية الاجتياح وليس إلغاؤها، لكن تل أبيب ستصر في المقابل على مطلبين هما:
1- إعادة أسراها وجثث جنودها ومواطنيها لدى حماس والجهاد الإسلامي بالكامل، من دون اتفاق لتبادل الأسرى كما تأمل الحركتان، على أن يتم ذلك بشكل فوري قبل اتخاذ قرار العمليات العسكرية في القطاع.
2- تشكيل لجنة دولية للإشراف على نزع سلاح التنظيمات الفلسطينية في قطاع غزة، ووضعه تحت إدارة دولية.
ويمكن توقع رفض حركتي حماس والجهاد الإسلامي بشدة لهذه الشروط، وهو ما تأمل إسرائيل أن يحدث؛ لأنه سيمنحها، في هذه الحالة من وجهة نظرها، الشرعية لاستئناف مخططها، أمام العالم، والشعب الفلسطيني في غزة الذي يعاني بشدة من نقص الأغذية والخدمات الطبية وخسائر كبيرة في الأرواح من جراء الغارات الإسرائيلية المستمرة.
وفي كل الأحوال، يبدو أن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين تحقيق الهدنة الإنسانية، وكبح احتمالات توسع جبهات القتال، حيث إن تخفيف معاناة الفلسطينيين سيحرم إيران وحزب الله اللبناني من استغلال الوضع للدفع في طريق التصعيد، والعكس صحيح.
حكومة طوارئ:
تشكلت حكومة طوارئ في إسرائيل مؤخراً بدخول حزب "الوحدة الوطنية" أو "معسكر الدولة" برئاسة بيني غانتس إلى الائتلاف الذي يقوده نتنياهو، وتحددت مهمة هذه الحكومة في إدارة الحرب الحالية، وبالتالي فهي مختلفة عن حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت في إسرائيل قبل نشوب حرب يونيو 1967، وضمت حينها أحزاب الطيف السياسي كافة. أما حكومة الطوارئ الحالية فلم ينضم إليها العديد من أحزاب المعارضة، وأهمها "يش عتيد" بزعامة يائير لابيد، وبالتالي فهي لا تعبر عن الإجماع الوطني في إسرائيل.
وفي كل الأحوال، لن تتأثر قرارات الحكومة الإسرائيلية الحالية في الحرب بالاعتبارات التقليدية من المنافسات الداخلية بين أحزاب الائتلاف أو الصراع بين المعارضة والحكومة. فثمة تصميم داخل الأوساط السياسية في إسرائيل، على اختلافها، على تأييد سعي الحكومة الحالية لإنهاء حكم حماس في غزة، والانتقام لما لحق بإسرائيل من خسائر بشرية ومادية ونفسية في هذه الحرب، وبالتالي ستوفر الدعم السياسي والشعبي على نطاق واسع لأية قرارات تصعيدية سوف تتخذها هذه الحكومة أثناء فترة الحرب، مع تأجيل أي حديث عن محاسبتها على ما جرى إلى ما بعد انتهاء الحرب.