أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

احتدام التنافس البحري:

تفاعلات عملياتية جديدة للقوات البحرية الدولية والإقليمية في آسيا والمحيط الهادئ

13 سبتمبر، 2023


عرض: عمَّار ياسين

أصدر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، في لندن، في شهر يوليو 2023، تقريره الاستراتيجي السنوي حول الاتجاهات الاستراتيجية في قارة آسيا لعام 2023 تحت عنوان: (تقييم حالة الأمن الإقليمي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ.. المُستجدات والاتجاهات الرئيسية)، والذي جاء في ستة فصول، منها الفصل الثالث، تحت عنوان (قدرات القوات البحرية والأمن البحري في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.. التفاعلات التشغيلية الجديدة)، والذي يُوضِّح أن التنافس بين القوى الإقليمية والدولية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ انتقل من الاستحواذ على نصيب أكبر من النفوذ على الأمن البحري، إلى مرحلة جديدة أكثر تأثيراً من أي وقتٍ مضى، في ضوء المُستجدَات الجارية، سواءً ما يتعلق منها بمستوى التسليح وظهور طفرات لافتة للنظر من الجاهزية كما هو الحال بالنسبة للبحرية الصينية، أم ما يتعلق بالانعكاسات المباشرة وغير المباشرة لدروس الحرب الأوكرانية على الأمن البحري؛ وهو ما سيكون له تداعيات على "التوازن العسكري الاستراتيجي" في المنطقة.

"فوجيان".. نقطة تحوُل في المنافسة البحرية الدولية

وصلت القوات البحرية الصينية (PLA Navy) إلى مستوى جديد ولافت للنظر من القدرة التشغيلية والعملياتية لقطعها البحرية؛ الأمر الذي دفع الولايات المُتحدة وحلفاءها إلى مضاعفة استثماراتهم في رفع قدراتهم البحرية وتعديل استراتيجياتهم الأمنية ذات الصلة؛ استجابةً لتلك الطفرة البحرية الصينية.

ويُعد إطلاق حاملة الطائرات الصينية الثالثة "فوجيان" بنجاح في 17 يونيو 2022 في شنغهاي، "الحدث الأبرز في هذا العام، لأنه نَقَلَ دائرة المنافسة البحرية إلى مستوى جديد، باعتبار أن تصميمها محلي بصورة كاملة، وأن باستطاعتها أداء دور مُغايِر عن حاملتي الطائرات الصينية الأولى والثانية، بحيث يُمكِن النظر إليها باعتبارها "تطلُع غير مسبوق"، استطاعت البحرية الصينية تحقيقه على أرض الواقع.

وعندما تدخُل "فوجيان" الخدمة العملياتية بحلول عام 2024 أو عام 2025، بالإضافة لتطوُر قدرات البحرية الصينية والقوات البحرية الأخرى، فمن المُحتمَل حدوث تحوُل كبير في البيئة البحرية الإقليمية بوتيرة أسرع، في ظل تطوُر موازٍ يتمثل في تطوير قدرات القوات البحرية المنافسة؛ مما يجعل مسألة "التوازن البحري" محل تحدٍ حقيقي، من الناحية التحليلية، لمُجمَل ما جرى وسوف يجري خلال الفترة القليلة المقبلة.

الساحة البحرية باعتبارها بيئة تنافُس أكثر احتداماً

تسببت الحرب في أوكرانيا في صدمة عنيفة في المنطقة الأورو الأطلسية وخارجها؛ لأنها أدت مباشرةً لتحوُل نموذجي في النظرة لعودة الحروب الكبرى على الساحة الإقليمية والدولية، وقدَّمت دروساً مهمة فيما يخص القدرات التشغيلية المطلوبة، والتي لا يزال يجري تحليلها واستكشاف أبعادها المختلفة. وعلى الرغم من كونها حرباً برية في الأساس، فإنه لا يمكن إغفال أصدائها في الساحة البحرية، خاصةً تجاه مسألتين هما:

1 - أهمية الترابط بين نظام التجارة العالمي واعتماده على خطوط اتصال بحرية بها قدر كبير من الحماية والضمان، بما في ذلك أهمية وفعالية مسألة "الحصار البحري" في سياقات معينة، وهو ما أحدث حالة من القلق الدولي بسبب توريد الحبوب الأوكرانية باعتبارها سلة غذاء للعالم. وهنا لا يُمكِن إغفال الخسارة الفادحة التي مُنِيَت بها روسيا في إبريل 2022 بسبب سفينة أسطول البحر الأسود "موسكفا"، حتى ولو كان مرد ذلك أسباباً تشغيلية.

2 - تداعيات استخدام أوكرانيا للمركبات الجوية غير المأهولة (UAVs) والسفن السطحية غير المأهولة (USVs)، لضرب أسطول البحر الأسود في قاعدتها، في سيفاستوبول، في 29 أُكتوبر 2022، والذي تسبب في دق أجراس الإنذار في الدوائر البحرية في جميع أنحاء العالم. هذا علاوة على تذكير هذه الحرب بالكُلفة الباهظة للحروب الكبرى والخسائر الحتمية في البشر والمعدات والبنى التحتية والمنشآت، جنباً إلى جنب مع الحاجة لتزايد الإنفاق العسكري لتحجيم الخسائر والمحافظة على توازن القوى، وأخيراً المتطلبات الضخمة، مالياً وبشرياً، لاستدامة كل ذلك.

ومن الواضح أن منطقة آسيا والمحيط الهادئ بيئة خِصبة لمثل هذا النوع من المنافسة المُحتدِمَة، وهي التي سوف تحدد وتيرة تطوُر المنافسة البحرية، وليس أدل على ذلك من سعي الصين لتطوير قدرات الصواريخ البالستية المضادة للسفن (ASBM) على شكل أنظمة (DF-21D) و (DF-26B)، والتي يُقدَّر مداها الأقصى بـ1500 كيلومتر و3000 كيلومتر على التوالي. هذا بالإضافة لاستخدام مجموعة   من القدرات الأخرى طويلة المدى المضادة للسفن، ومنها صاروخ "كروز YJ-18" الذي يُسلِّح السفن السطحية؛ وظهور أسلحة صينية تفوق سرعتها سرعة الصوت مثل أحد طرادات البحرية الصينية من فئة (Type-055 Renhai).. كل هذا يفتح الباب في المستقبل القريب أمام كل الاحتمالات، بما فيها انتقال المنافسة للفضاء الخارجي، إلى جانب استخدام الذكاء الاصطناعي في هذه المنافسة. 

وفي مقابل هذا التنافس، هناك عامل آخر يُؤثر في الأمن البحري بالمنطقة، وهو أنها الأكثر عرضة للتأثر والضرر بالتغيرات المناخية في العالم، خاصةً الدول الجزرية الصغيرة في المحيط الهادئ، وهو ما يُقلق العديد من القوى الإقليمية، لما لهذه الآثار المناخية المُتوقَّعة على الملاحة البحرية وأمن البحار، ويخلق هذا بالتالي فرصة للتعاون ووقوف دول المنطقة معاً للمساعدة في تقليل الآثار الناجمة عن تلك العوامل الطبيعية والحد من الوضع التنافسي واستبداله قدر المُستطاع بوضع آخر تكاملي، وهو ما ظهر في استجابة المجتمع الدولي لـ"تسونامي هونغا تونغا" في يناير 2022.

حسابات جديدة لتوازن القوى البحرية في المنطقة

تؤدي الأهمية الاستراتيجية المتصاعدة لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ إلى أن تكون بيئة مثالية لتنافُس القوى على بَسْط النفوذ، مثل الولايات المتحدة والصين والهند واليابان، وبالتالي هناك أهمية لوجود "توازن بحري إقليمي" يضمن عدم التفوق الهائل لأي من القوى المتنافسة لعدم التحوُل من "المنطقة الرمادية" التي هي طابع رئيسي للمنطقة إلى مستوى آخر يُمكِن أن يُعرِّض سلم وأمن المنطقة للخطر.

في البداية، هناك مرحلتان أساسيتان مرَّت بهما القوات البحرية والأمن البحري في الفترة الماضية منذ مطلع القرن الحالي. المرحلة الأُولى شهدت تزايداً مذهلاً في حجم الاستثمار البحري وتطوير ورفع القدرات، ولاسيما من جانب الصين. أما المرحلة الثانية، فباتت أكثر تعقيداً، وبالتحديد منذ عام 2014-2015 حينما بدأت البحرية الصينية في إحداث طفرات تسليحية هائلة في محيط بحر الصين الجنوبي. والآن، صارت المنطقة أمام مرحلة ثالثة بدءاً من العقد الحالي، وهو ما استتبع "تغيُر نبرة التقارير الاستراتيجية" لقوى بعينها مثل الولايات المتحدة وأستراليا واليابان.

تبقى الصين هي العنوان الرئيسي لهذه المرحلة التي نعيشها، في ظل توسيع أسطولها وتمهيدها لانتقال قواتها البحرية لمستوى مغاير، بل ومُربِك، لحسابات القوى الأخرى في واقع الأمر، بما في ذلك قدرتها على الانتشار كقوة كاملة في المياه الزرقاء خارج سلاسل الجُزُر، مع التركيز على المحيط الهندي كبداية.

واستجابةً من الولايات المُتحدة وشركائها وحلفائها للتمدد الصيني في المنطقة؛ زادت وتيرة الإنفاق العسكري للحد قَدْر المستطاع من الوتيرة المتسارعة للصين، وهو ما صار يُعرف بـ"دبلوماسية الزوارق الحربية"، في محاولة من الولايات المتحدة وحلفائها ترجيح كفة "التوازن البحري الإقليمي" لصالحهم من جديد.

روتينياً، وربما لأسباب تتعلق بحجم الميزانية في المقام الأول، تشير وزارة الدفاع الأمريكية إلى البحرية الصينية باعتبارها أكبر بحرية في العالم، من حيث عدد السفن على أقل تقدير، فضلاً عن قوة خفر السواحل الصينية، التي هي أكبر قوة من نوعها في العالم من الناحية العددية، جنباً إلى جنب مع حاملات الطائرات الصينية التي تم توسيع النطاقات التي تعمل فيها من بحر الفلبين حتى حافة غرب المحيط الهادئ.

وبالنسبة للمستقبل القريب، يُتوقَّع أن يكون لدى الصين حاملة طائرات صينية أكبر حجماً تعمل بالدفع النووي، وهو ما يُغيِّر كثيراً من قواعد اللعبة في المنطقة، بالإضافة إلى استمرار التكليف بالقتال السطحي الرئيسي ذو القدرات العالية، عن طريق استخدام طرادات (Type-055)، ومُدمرات (Luyang III-Class) من طراز (Type-052D)، جنباً إلى جنب مع سُرعتها في تشييد وتطوير سفن برمائية ذات سطح كبير من طراز (Type-075 Yushen-Class) وإدخالها الخدمة. وهنا يُلاحَظ أن الصين تبذُل جهداً كبيراً في سبيل مُعالجة نقاط ضعفها النسبية، ومن بينها الأنشطة القتالية المضادة لحرب الغواصات (ASW)، وسط تقديرات للولايات المتحدة بأن البحرية الصينية في طريقها لتجهيز صواريخ بالستية تنطلق من الغواصات وتعمل بالطاقة النووية من طراز (Type-094 Jin-Class).  

في المقابل، على الرغم من أن البحرية الأمريكية هي الأكثر قدرة على مستوى العالم، فإنه وبسبب ضيق الفارق بنسبة غير مسبوقة مع البحرية الصينية، فإن الولايات المتحدة تسعى لتأكيد ريادتها في هذا الجانب من خلال عدة جبهات، يأتي من بينها استخدام أسلحة تفوق سرعة الصوت مثل (HALO) لزيادة المدى والقدرة على التدمير، وتطوير صواريخ "شبح" طويلة المدى ومضادة للسفن وفئات من الأسلحة المُوجَّهة بالطاقة مثل الليزر عالي الطاقة لمواجهة هجمات الطائرات من دون طيار المُحتملًة، وغيرها.

إن متطلبات مواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة في مسرح منطقة آسيا والمحيط الهادئ، تجعل الولايات المتحدة تسير وفق نهج "العمليات البحرية المُوزَّعة"، والتي بموجبها تُشكِّل وحدات وتنشرها في عدة أماكن على نطاق واسع لتطويق خصومها.

وتوازياً مع ذلك، ظهرت استجاباتٌ أُخرى من قوى إقليمية مؤثرة مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية. فأستراليا على سبيل المثال شَعَرَت بالحاجة الماسَّة لتطوير قدراتها البحرية الدفاعية بدءاً من عام 2020، بالنظر للتهديدات التي تحيط بالمنطقة، وأخذت في تعديل وتطوير سياساتها واستراتيجياتها الدفاعية. وينطبق الأمر ذاته على اليابان، التي أصدرت وثائق في ديسمبر 2022 تتحدث عن مضاعفة ورَفْع كفاءة قوات الدفاع الذاتي البحرية اليابانية (JMSDF) بصورة غير مسبوقة لمواجهة التحديات والتهديدات بالمنطقة، وقامت بشراء صواريخ بحرية من طراز "توماهوك"، ونشرت قطعاً عديدة لصواريخ "توماهوك أرض- أرض Type-12" المُطوَّرة محلياً. كما تمتلك اليابان أسطولاً بحرياً هائلاً، يتكون من 8 طرادات ومُدمرات مُجهزَة بنظام (Aegis) قادرة على صد صواريخ بالستية، وتسعى إلى تطوير كافة قدراتها العسكرية النوعية.

أما كوريا الجنوبية فقد قامت أيضاً بتطوير قدراتها البحرية وبناء أُسطول بحري مثير للإعجاب، ليس فقط بسبب زيادة الحمولة، وإنما بسبب زيادة قدرة الأُسطول السطحي بما فيه من غواصات صغيرة الحجم للاستكشاف وأُخرى كبيرة، فضلاً عن سعيها نحو تعزيز علاقاتها الأمنية والدفاعية مع الولايات المتحدة، وحتى مع اليابان؛ لوجود مصالح أمنية مُشترَكَة تقتضي ذلك.

وهناك قوى أخرى بالمنطقة تُفضِّل عدم الظهور وَسط هذه المنافسة المُحتدِمَة بحيث لا تُوسِّع من دائرة التهديدات من حولها، وعلى رأس هؤلاء: تايوان وسنغافورة وإندونيسيا والفلبين وفيتنام والهند وباكستان. ومع ذلك، بدأت تايوان في تطوير قواتها على سطح البحر، في ظل احتمالات قائمة بأن يَشهد العقد الحالي ظهور أول غواصة تايوانية محلية الصنع، وزيادة مخزونها من الطرادات المُدجَّجة بالصواريخ.

وتُخطط سنغافورة حالياً لتطوير وتحديث قواتها البحرية بتصميم جديد لسفن قتالية متعددة الأدوار والمهام. ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لإندونيسيا التي شَرَعت في شراء فرقاطات إيطالية من طراز (FREMM) وأُخرى من اليابان، وسفن (Arrowhead 140) من تصميم المملكة المتحدة، ولا تزال إندونيسيا تطمح لشراء غواصات (Scorpene) الفرنسية. 

وبدرجةٍ أقل من هؤلاء، تسعى الفلبين لتعزيز قدرتها البحرية، خاصةً فيما يتعلق بدوريات المراقبة والحراسة. وتبقى البحرية الفيتنامية قوة لا يُستهان بها لأن أسطولها يضم غواصاتٍ روسية الصنع مُطوَّرة، وطرادات وصواريخ مُضادة للسفن. ولا يَختلِف الأمر كثيراً بالنسبة للهند وباكستان؛ اللتان تحاولان إحراز تقدُم محسوب في رفع قدراتهما البحرية من دون أن يتسبب ذلك في أي توترات مع القوى الكبرى في المنطقة.

أوروبا وروسيا.. فاعلان جديدان في آسيا والمحيط الهادئ

تجتذب منطقة آسيا والمحيط الهادئ، في ظل هذه المنافسة البحرية المحتدمة، فاعلين آخرين، بسبب التفاعلات غير المسبوقة التي تشهدها، وتحولها إلى مركز الثقل العالمي حتى فيما يخص التنمية الاقتصادية العالمية والتحديات الجيوستراتيجية الدولية، وهو ما يبرز في عودة المملكة المتحدة للاهتمام مجدداً بالأمن البحري والوجود على الساحة الدولية البحرية ومراجعة سياساتها واستراتيجياتها ذات الصلة، بما فيها المناورة البحرية الثلاثية التي جرت أخيراً بينها وبين الولايات المتحدة واليابان. ومع أنه لا يُمكِن الجَزْم ما إذا كانت إعادة إحياء اهتمام المملكة المتحدة بالأمن البحري أمراً عارضاً أم أنه سيكون مُستداماً بطريقةٍ ما، فإن الأرجح هو تفضيل المملكة المتحدة أن تكون جُزءاً من قوة مهام مُشترَكَة أو مُتعددة، لا أن تكون بمفردها في موقع صدارة.

والحال نفسه بالنسبة لفرنسا، التي تَعتبِر نفسها قوة إقليمية في آسيا والمحيط الهادئ بحُكم أراضيها هناك، وهو ما دفعها في بداية العام الجاري 2023، لإقامة أطول عرض طائرات من المحيط الهندي لتنتشر إلى الأمام في سنغافورة. من جانبها أرسلت القوات البحرية الألمانية الفرقاطة "بايرن" إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ، للمرة الأولى، لمدة 7 أشهر بين عامي 2021 و2022؛ وهو ما يدُل على الطموح المتزايد لدى الأوروبيين، ومن بينهم هولندا، في الوجود بهذه المنطقة الاستراتيجية.

وفيما يتعلق بالمواقع البحرية المُتوقَّع الانتشار الأوروبي بها (أخذاً في الاعتبار تركيز الاتحاد الأوروبي الراهن على الأمن الأورو الأطلسي كانعكاس مباشر لحرب أوكرانيا وعدم اليقين بشأن الاضطراب الذي أصاب المنطقة منذ ذلك الحين)، فقد أشارت استراتيجية التعاون في المحيطين الهادئ والهندي، والتي نُشِرَت في سبتمبر 2021، إلى أن الاتحاد الأوروبي لم يستقر بعد على تحديد طُرُق تضمن له نشر قوات بحرية مُعزَّزة من قِبَل الدول الأعضاء في المنطقة. وقد يكون من المُستبَعد نجاح الاتحاد الأوروبي في تحديد هذه المواقع والطُرُق نظراً لغياب التوافق الداخلي بسبب تداعيات الحرب الأوكرانية، ويُتوقَّع عدم تفضيل بعض الدول الأوروبية للانتشار بعيد المدى لما له من خسائر كبيرة مُحتملَة. وبناءً على ذلك، ربما تكون منطقة شمال غرب المحيط الهندي هي المنطقة الأكثر احتمالاً لرؤية التعزيزات البحرية الأوروبية التي يطمح الاتحاد الأوروبي في تحقيقها.

وبالنسبة لروسيا، فقد وضعت منطقة المحيط الهادئ في المرتبة الثانية بعد القطب الشمالي، من حيث الأولوية، وذلك فق آخر التحديثات الخاصة بعقيدتها البحرية. ورغم ذلك تحرص روسيا على ألا تُهْمِلَ المحيط الهادئ حتى في ظل تعاونها أخيراً مع الصين وإيران في منطقة شمال غرب المحيط الهندي.

مناورات تقليص الفوارق وتحقيق مزايا إضافية

على الرغم من أن البحرية الصينية تُمثِّل هاجساً وتهديداً مباشراً للولايات المتحدة وشركائها وحُلفائها على حد سواء، فإن رُقعَة توسُعها لا تزال محدودة بالقرب من سواحلها وداخل سلسلة الجُزُر الأولى، ولكن بالنظر للدور الصيني الكبير الذي لا يُمكن إغفاله في مكافحة القرصنة؛ فإن هذا يُعد مؤشراً على رغبتها الأكيدة في التوسُع أكثر والوصول لمدى أعمق من نقاط تمركزها الحالية، ولو بصورة غير مباشرة.

في المقابل، تسعى الولايات المتحدة وشركاؤها للمضي قُدُماً في توجُه جديد من شأنه استمرار المناورات البحرية المُشترَكَة متعددة الأطراف، والتي رغم أنها تُجرَى منذ عقود، فإن هناك تغيُراً نوعياً كبيراً طرأ عليها من حيث شكل ومدى التدريبات، فضلاً عن درجة عمقها وتنوعها، ومن بينها: (مناورات ريمباك RIMPAC العسكرية الدورية في المحيط الهادئ بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة كلٍ من أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية؛ ومناورات مالابار العسكرية التي كانت ثنائية بين الولايات المتحدة والهند، ثم صارت رباعية بعد أن اشتركت فيها اليابان وأستراليا).

وإضافةً لما سَبَق، هناك برنامج الأمن البحري للمحيط الهادئ الأسترالي؛ والذي يهدف إلى رفع قدرات الأمن البحري، ولاسيما من خلال توريد زوارق دورية جديدة إلى دول جُزُر المُحيط الهادئ، للمساعدة على تحقيق هدف رفع الكفاءة البحرية العام في المنطقة.

ولا شك في أن تطوير شَكْل المناورات المُشترَكَة بهذه الدرجة العالية من الحِرَفية ينقل مستوى الاستجابة من فردية إلى جماعية، بحيث يكون هناك تأثير لفاعلين إقليميين ذوي شأن مثل أستراليا واليابان، وفي الطريق إليهما الهند، وذلك لرفع مستوى التعاون والترابط بين تلك الدول وبعضها بعضاً من ناحية، والمساعدة في إحداث التوازن البحري المنشود في آسيا والمحيط الهادئ من ناحية أخرى؛ باعتبارها منطقة رمادية يُؤمَل أن تظل كذلك، وألا يتحول مستوى المنافسة فيها إلى مستوى مُغاير قد يصل يوماً إلى مستوى الصراع الكامن (Latent Conflict)، ليس فقط على سطح الأرض، ولكن تحت سطح البحر أيضاً، بسبب رفع مُعدلات التسليح والإخلال بميزان القوى البحرية في المنطقة. 

المصدر:

Nick Childs, Asia-Pacific Naval and Maritime Capabilities: The New Operational Dynamics, in The International Institute for Strategic Studies (IISS) “Editor”, Asia-Pacific Regional Security Assessment 2023 Key developments and trends, July 2023, pp 62 – 88.

https://www.iiss.org/globalassets/media-library---content--migration/files/publications---free-files/aprsa-2023/aprsa-2023.pdf