تُعرف البنى التحتية (Infrastructure) بأنها الأصول المُتجذرة تحت سطح الأرض أو الماء، والمرتبطة بصفة أساسية بوسائل المواصلات والنقل والكهرباء وأنظمة الصرف الصحي وسائر المرافق الحيوية للدولة، والتي تشل حركتها حال تعرضها لأي إتلاف، وصولاً للتأثير في كابلات الإنترنت العملاقة تحت سطح الماء أو قطعها.
وتُعد زيادة معدلات استهداف البنى التحتية الحيوية في مناطق الصراعات، أحد أهم المُتغيرات اللافتة للنظر على الساحة الصراعية في عالمنا خلال الأشهر الماضية، وذلك على الرغم من كونها أصولاً مدنية في ظل صراعات يغلب عليها الطابع العسكري، فما دوافع ذلك؟ وما الذي يمكن أن تجنيه الأطراف بمثل هذا النمط من التصعيد النوعي في وتيرة الصراع؟ وما هي تداعيات ذلك على مثل هذه الصراعات؟
استهداف متزايد:
ثمة مؤشرات عديدة على تزايد استهداف البنية التحتية الحيوية في مناطق الصراعات والحروب في العالم، وعلى رأسها في دول الشرق الأوسط، وهو ما يتضح خلال الفترة الأخيرة في الآتي:
1- العراق: في أواخر يوليو الماضي، تعرضت محطة كهرباء بمحافظة البصرة لحريق دون أن يتم الإعلان عن الأسباب، في بيان أصدرته وزارة الكهرباء العراقية. الأمر نفسه تكرر في مدينة "حديثة" بمقربة من محافظة صلاح الدين، حيث شهدت عملاً تخريبياً لأبراج نقل الطاقة بعبوات ناسفة، مما تسبب في سقوط عدد من الأبراج، ليكتمل المشهد بعد ذلك بتعرض محطة كهرباء شرق مدينة الصدر لعمل تخريبي.
2- السودان: تواصَل استهداف البنى التحتية والمدنيين في الصراع الدائر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف إبريل الماضي، إلى الدرجة التي جعلت بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان "يونيتامس" (UNITAMS) تُعرِب عن قلقها وإدانتها لهذا النوع من التصعيد، في بيان نشرته يوم 3 أغسطس الجاري. وقالت فيه: "تُعرب البعثة عن قلقها البالغ إزاء التأثير الخطر للقتال بين قوات الدعم السريع والقوات السودانية في المدنيين في منطقة دارفور. وتُدين البعثة بشدة الاستهداف العشوائي للمدنيين والمرافق العامة من قِبل قوات الدعم السريع، ولاسيما محلية سِربا في الفترة من 24 إلى 26 يوليو 2023. كما تشعر البعثة بالقلق إزاء حالات مماثلة من الاستهداف للبنى التحتية والمدنيين في نيالا جنوبي دارفور، وزالنجي في وسط دارفور".
3- اليمن: لا يزال استهداف الحوثيين للموانئ النفطية للحكومة الشرعية يسبب انتكاسة شديدة للاقتصاد اليمني، حيث أدت هجمات الحوثيين على مُنشآت نفطية مهمة إلى خسائر فادحة بنحو 1.5 مليار دولار منذ أغسطس الماضي، كانت مُخصصة لتحسين الخدمات العامة ودفع مرتبات الموظفين. وجاءت تلك الهجمات الحوثية بطائرات مُسيَّرة على موانئ نفطية تُسيطر عليها الحكومة اليمنية في محافظتي حضرموت وشبوة، ما دفع القائم بأعمال الممثل الدائم لليمن لدى الأمم المتحدة، مروان علي نعمان، في 4 أغسطس الجاري، للكشف عن تأثر عائدات الموانئ والمرافق النفطية بسبب هجمات الحوثيين المُتكررة، مما جعل الاقتصاد اليمني يعمل بنصف طاقته.
4- الحرب الروسية الأوكرانية: شهدت الحرب الجارية تبادلاً لاستهداف البنى التحتية في أوكرانيا وروسيا. فقد اعتادت موسكو طيلة الأشهر الماضية استهداف محطات الطاقة في أوكرانيا، ما تسبب بانقطاع هائل للتيار الكهربائي في مختلف مناطق البلاد. كما شنت روسيا ضربات جوية على البنية التحتية في الموانئ الأوكرانية عدة مرات بعد انسحابها، في يوليو الماضي، من اتفاق حبوب البحر الأسود الذي كان يسمح لكييف بتصدير الحبوب بأمان. أما داخل الأراضي الروسية، فقد أعلن أحد النواب في مجلس الدوما الروسي، في أواخر يوليو الماضي، عن انفجار عبوة ناسفة في مصفاة نفط بمدينة سامارا جنوبي البلاد دون وقوع إصابات. كما أكدت خدمة الطوارئ الروسية إصابة 15 شخصاً نتيجة انفجار بمقهى في مدينة تاغانروغ بمقاطعة روستوف جنوبي البلاد، وقال حاكم المقاطعة إن الانفجار قد يكون ناجماً عن إطلاق صاروخ. وكانت وزارة الدفاع الروسية قد أعلنت، في مطلع أغسطس الجاري، أنها أحبطت هجوماً بزوارق مُسيّرة أوكرانية على سفينتي نقل مدنيتين في البحر الأسود.
دوافع ضاغطة:
على الرغم من وجود قواسم مشتركة في منطق استهداف البنى التحتية الحيوية في مناطق الصراعات بصفة عامة، ومن بينها إرباك الطرف الآخر وإلحاق المزيد من الخسائر المادية والمالية به، فإن هناك رسائل خفية تُشبه الشفرة في كل حالة صراعية على حدة، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:
1- في الحالة العراقية، لم يُعرف بعد مَن يقف وراء هجمات استهداف محطات وأبراج الكهرباء، بيد أنه ربما يكون هناك علاقة ارتباطية يمكن ملاحظتها بين عمليات الاستهداف هذه وبين "اتفاق مُقايضة النفط مُقابل الغاز" الذي توصلت إليه الحكومة العراقية مع نظيرتها الإيرانية في شهر يوليو الماضي، بحيث يضخ العراق النفط إلى إيران وتعود الأخيرة مُجدداً لضخ الغاز إلى العراق؛ سعياً من حكومة محمد شياع السوداني لتعزيز شبكة الكهرباء المُتداعية ولسد الفجوة بين الاحتياج المحلي ومعدل الإنتاج الفعلي من الكهرباء، مُستغلة وجود احتياطات نفطية هائلة لديها. وفي هذا الصدد، فإن مَن قام بهذه العمليات التخريبية، والتي أسفرت عن حالة إعتام للعراق في ظل درجات حرارة غير مسبوقة خلال الصيف الجاري، ربما أراد إحراج حكومة السوداني بهدف إجبارها على تعديل سياستها الخارجية على وجه التحديد، وربما أراد تأليب الداخل عليها.
2- في السودان، استهدف أطراف الصراع طيلة الأشهر الماضية أشكالاً عديدة من البنى التحتية الحيوية وصولاً للمستشفيات والأبنية التعليمية والجامعات، غير أن الموانئ النفطية على وجه التحديد ربما بقيت آمنة. وفي هذه الحالة، يُمكن استنتاج أن عوائد النفط لكل من الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي"، تؤدي دوراً حاسماً في استمرار قدرتهما على مواصلة الصراع وعدم التراجع أو تقديم تنازلات لا يرغب فيها أو لا يقدر عليها أي منهما.
3- في اليمن، يمكن استنتاج دوافع الحوثيين من الهجمات المُتكررة على موانئ النفط على وجه التحديد بأنها تأتي في إطار "الحرب الاقتصادية" التي تشنها المليشيا الانقلابية في الأشهر الماضية بهدف الضغط على الحكومة الشرعية ومحاولة تكبيدها مزيداً من الخسائر، وإضعاف قدراتها المالية، وزيادة الضغوط الشعبية عليها في مناطقها خاصةً مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتدهور سعر صرف العملة المحلية، فضلاً عن سعي المليشيا لاقتسام الإيرادات النفطية، ودفع أجور الموظفين في المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين.
4- بالنسبة لحرب روسيا وأوكرانيا، فإن "لعبة الكَر والفَر" لم تنتهِ بعد، إذ يحاول كلا الطرفين تنويع أدوات الضغط على الآخر في سبيل إخضاعه أو ردعه عن التقدُّم والاستيلاء على مزيد من الأراضي. فمن ناحية موسكو، يغلب على دوافعها من استهداف البنى التحتية الأوكرانية وكم الدمار الذي ألحقته بها، أن تكون لأسباب تتعلق بالهيمنة وكسر الصمود، وإحراج أوكرانيا أمام شُركائها الغربيين، ومن ثم تأليب الرأي العام الداخلي عليهم لكي يُقلّلوا من اعتماداتهم المالية لصالح كييف. أما من ناحية أوكرانيا، فتدور دوافع استهدافها للبنية التحية الروسية بين الرغبة في طمأنة شُركائها في الولايات المتحدة وأوروبا، وكذلك في محاولة تخويف موسكو من أن كييف لن تُحاول فقط الدفاع عن نفسها داخل أراضيها، بل سيمتد دفاعها ليشمل استهداف أهداف مدنية وأُخرى عسكرية في الداخل الروسي.
مخاطر إنسانية:
تكاد تداعيات استهداف البنى التحتية الحيوية في مناطق الصراعات تتطابق باعتبارها أداة من أدوات التصعيد النوعي، وباعتبارها داخلة ضمن مؤججات الصراع (Triggers) التي تُطيل أمده وتُعرقل مساعي تسويته. ففي العراق، ازدادت الأوضاع سوءاً بعد استهداف أبراج وشبكات الكهرباء، بحيث أثّرت حتى في توفّر المياه واضطرار الحكومة العراقية لقطعها في عدة مناطق، مما رفع من وتيرة الاحتقان بين الأطراف المؤيدة وكذلك المعارضة للحكومة الحالية والفرقاء على الساحة السياسية على حد سواء.
وفي السودان، هناك أوضاع إنسانية بالغة الخطورة أوصلت منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" (FAO) للتحذير في مطلع أغسطس الجاري من أن كارثة مُحققة على وشك الحدوث في البلاد نتيجة استمرار الصراع، وتقديرها لوجود 6 ملايين سوداني على الأقل على بُعد خطوة واحدة من مجاعة مُحققة، الأمر الذي سيجعل التمادي في استهداف البنى التحتية يُنذر بكارثة على المستويات كافة. والأمر نفسه تقريباً بالنسبة لليمن الذي يمر بأوضاع إنسانية عصيبة بسبب الانتهاكات الحوثية، وهو ما جعله يمثل واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
أما بالنسبة للحرب الأوكرانية، فإن تداعيات استهداف البنى التحتية متفاوتة بين طرفيها، فهي مؤثرة بصورة كبيرة في أوكرانيا التي تتسع رُقعة "مُدن الأشباح" بها على غرار باخموت وغيرها نتيجة الدمار الهائل الذي لحقها من كل جانب. وفي المُقابل، وبافتراض صحة نسبة استهداف أوكرانيا لبعض البنى التحتية في الداخل الروسي، فلن تكون مؤثرة إلا فيما يخص الردع فقط وإثناء موسكو عن التمادي في بسط النفوذ والهيمنة على الأراضي الأوكرانية.
ختاماً، يظل استهداف البنى التحتية الحيوية في مناطق الحروب والصراعات حول العالم أمراً بالغ الخطورة، ليس فقط باعتباره تصعيداً نوعياً يُطيل أمد الصراع ويُعرقل جهود تسويته؛ وإنما أيضاً بسبب إمكانية مُساءلة مَن يثبت تورّطه فيه من باب أنها جرائم ضد الإنسانية في حال تم استهداف أُصول معينة مثل المستشفيات، وتكرار إيقاع العديد من المدنيين ما بين قتيل وجريح. لذا، لا يمكن التعامل مع استهداف البنى التحتية في الصراعات باعتباره فقط تكتيكاً عسكرياً أو عملاً تخريبياً عابراً، بقدر ما ينبغي التعامل معه باعتباره خرقاً للقواعد الإنسانية.