طرح إعلان العراق، في شهر يوليو الماضي، استعداده للوساطة في الأزمة اليمنية، الحديث عن الدور الدبلوماسي الإيجابي المتصاعد لبغداد إقليمياً، ومحاولتها التدخل للتهدئة في عدد من الأزمات بالمنطقة. وفي هذا الإطار، لا يخفى أن العراق مر بأزمات وصراعات داخلية وخارجية وحروب وعزلة إقليمية ودولية خلال العقود الأخيرة، وصارت الصورة المُعتادة للعراق أنه ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، لكن ذلك ربما اختلف خلال السنوات الثلاث الماضية، ولم يكن هذا الاختلاف ليحدث لولا قيام بغداد بالوساطة في بعض الأزمات الإقليمية ومنها التمهيد لعودة العلاقات السعودية الإيرانية، برعاية صينية، في مارس 2023.
ولم تكن دبلوماسية الوساطة التي تبنتها بغداد متصورة طيلة المرحلة التي أعقبت عام 2003 عندما احتلت الولايات المتحدة وحلفاؤها العراق وغيرت النظام السياسي فيه؛ نظراً لتعقد المشهد وتأزم الأوضاع أمنياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وكذلك انعكاس الأزمات والنزاعات الإقليمية والدولية بشكل سلبي على الساحة العراقية. ومن هنا كان الإدراك العراقي بعد عام 2014 بضرورة تخلص البلاد أو على أقل تقدير تخفيف تداعيات الصراعات بين بعض الأطراف الإقليمية والقوى الدولية عن ساحتها الداخلية، فبقدر تخفيف التوتر الخارجي سيتحقق الاستقرار الداخلي؛ لأن العراق تربطه صلات متعددة مع مختلف دول المحيط الإقليمي.
ومن هنا جاء دور العراق ليقدم نفسه وسيطاً لتسوية عدد من الأزمات الإقليمية، وهو الدور الملحوظ في الأشهر الماضية، بدايةً من المساهمة في عودة العلاقات بين الرياض وطهران، مروراً بالحديث عن وساطة عراقية مُحتملة بين مصر وإيران، وصولاً إلى إبداء العراق استعداده لأداء دور الوساطة في ملف اليمن.
وساطات متنوعة:
في الواقع، إن دور الوساطة ودبلوماسيتها بالنسبة للعراق ليس رهناً بالمرحلة الحالية، بل كان للعراق تجارب عديدة خلال مسيرة دولته الحديثة بعد عام 1921، حينما كان يتمتع بعلاقات قوية مع جيرانه من جهة، والقوى الدولية من جهة أخرى، الأمر الذي أهله لدور الوسيط المقبول آنذاك في أزمات المنطقة. ولكن يُلاحظ عودة العراق للقيام بهذا الدور في العديد من الأزمات الإقليمية في الفترة الأخيرة، ومن مؤشرات ذلك ما يلي:
1- التمهيد لعودة العلاقات السعودية الإيرانية: دخل العراق وسيطاً لاستئناف العلاقات السعودية الإيرانية التي توترت منذ عام 2016 جرّاء الاعتداء على السفارة السعودية في طهران من قِبل محتجين إيرانيين على قرار المملكة إعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر، وما تلاه من تأزم بين البلدين. وتمثلت وساطة العراق بين الطرفين في نقل رسائل الرغبة في الحوار، ثم استضافة المحادثات المباشرة بين ممثلي الدولتين ومناقشة أهم الملفات محل الخلاف ومنها الأمن الإقليمي، والتي تكللت بالاتفاق على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، برعاية صينية، في مارس 2023. وأعلن العراق ترحيبه بهذا الاتفاق، وعده نجاحاً لجهوده في هذا الشأن.
2- محاولة التوسط بين مصر وإيران: أخذت الحكومة العراقية، برئاسة محمد شياع السوداني، على عاتقها تكرار وساطتها بين السعودية وإيران بعد نجاحها، لكن هذه المرة بين مصر وإيران. وتشير تقارير إلى أن أجندة زيارات السوداني للقاهرة في مارس ويونيو الماضيين تضمنت التوسط لاستئناف العلاقات مع طهران. وتهدف الحكومة العراقية، من استمرار وساطتها، إلى تحقيق اختراق في المفاوضات بين الدولتين، بحيث يفضي إلى عودة العلاقات الثنائية بينهما.
3- الاستعداد للتدخل في الأزمة اليمنية: الملف الثالث الذي أبدى العراق استعداده للتوسط في التوصل لحل له هو الأزمة اليمنية المُستمرة منذ حوالي 9 سنوات بعد الانقلاب الحوثي على الحكومة الشرعية. وفي هذا الإطار، أعلن وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، لدى استقباله نظيره اليمني، أحمد عوض بن مبارك، في بغداد، يوم 23 يوليو الماضي، أن بلاده تدعم أي جهد سياسي يدفع لاستقرار الأوضاع في اليمن، وأن "العراق مستعد للتحرك ليكون جزءاً من الحل للمشاكل في المنطقة وحل الأوضاع في اليمن"، مؤكداً أن "الحوار في اليمن سيؤدي إلى تحسن الوضع الاقتصادي فيها".
4- السعي للتهدئة بين الولايات المتحدة وإيران: حاولت بغداد أداء دور الوساطة بين واشنطن وطهران منذ عام 2019، بعد انسحاب إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي الإيراني. وعملت حكومة رئيس الوزراء السابق، عادل عبدالمهدي، على إرسال وفود إلى كل من واشنطن وطهران للمساعدة في تهدئة التوترات، لكن هذه الجهود لم تفلح في تحقيق أي نتائج. وفي فبراير 2023، عاد الحديث مرة أخرى عن وجود وساطة عراقية لخفض التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، وطرح الأمر وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، خلال زيارته لواشنطن، بحسب بعض التقارير، وأعلنت وزارة الخارجية الإيرانية حينها أن حسين حمل رسالة لطهران من واشنطن تخص مفاوضات الملف النووي، بيد أن وزارة الخارجية الأمريكية نفت صحة هذا الأمر.
مكاسب بغداد:
هناك عدة مُحفزات ربما دفعت العراق إلى محاولة القيام بدور الوساطة والإسهام بشكل إيجابي في تهدئة النزاعات الإقليمية، ومنها الآتي:
1- عودة العراق كفاعل إقليمي مؤثر: تسعى الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ حكومة حيدر العبادي، إلى إثبات أن بغداد فاعل إقليمي يمكن دمجه في الخريطة السياسية والاقتصادية للمنطقة. وفي هذا الإطار، تمكن العراق من عقد عدة مؤتمرات على مستوى القمة؛ مثل القمة الثلاثية بين العراق ومصر والأردن في 26 يوليو 2021، و"مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة" في أغسطس 2021 الذي جمع كلاً من فرنسا والسعودية والإمارات والكويت وقطر ومصر والأردن فضلاً عن تركيا وإيران، وكان هذا المؤتمر بمثابة مبادرة دبلوماسية لتخفيف التوترات الإقليمية، وتأكيد دور العراق كوسيط.
2- الابتعاد عن سياسة المحاور: تحاول بغداد الابتعاد عن سياسة المحاور، والصراعات سواءً فيما بين بعض دول المنطقة أو بينها وبين القوى الدولية، وذلك من خلال محاولة العراق بناء شبكة علاقات متوازنة مع شركاء إقليميين ودوليين. ويُدرك صناع القرار في بغداد خطورة الانضواء إلى جانب محور إقليمي أو دولي معين ضد آخر، ولهذا جاءت دبلوماسية الوساطة التي تبناها العراق من أجل خفض التوترات في الأزمات الإقليمية، والعمل على إقامة علاقات متوازنة مع مختلف الدول. كما تحاول بغداد إعطاء انطباع مختلف عما هو سائد بعدم قدرتها على الخروج من دائرة التأثير الإيراني التي تفرضها قوى حليفة لطهران موجودة في مفاصل الدولة العراقية.
3- التحرر من الضغوط الخارجية: لا شك أن نجاح العراق في خفض التوتر داخل الإقليم، سوف يسهم في تحرير سياسته الخارجية من الضغوط التي تُمارس عليه في حالة تعارض مصالح الأطراف المتصارعة، والتي تجر العراق إلى حالة الاستقطاب في المنطقة. كما أن نجاح مثل هذه الوساطات يُسهم أيضاً في دفع دور العراق الإقليمي إلى الأمام وإظهاره كدولة مسؤولة تحرص على إرساء الاستقرار الإقليمي.
4- تجنب الارتدادات السلبية للصراعات: يخشى العراق أن يكون ساحة لأي تصعيد مُحتمل بين الولايات المتحدة وإيران أو بين الأخيرة ودول أخرى في المنطقة، وهو ما يعني أن خفض مثل هذه التوترات أو النجاح في تهدئتها سينعكس إيجاباً على تحقيق الاستقرار السياسي والأمني في العراق.
5- تعزيز العلاقات الاقتصادية الخارجية: يرى العراق أن الاعتماد عليه كوسيط إقليمي سينعكس إيجابياً على أوضاعه الداخلية، وستسعى الأطراف الإقليمية، بعد تفاهماتها، إلى الحفاظ على عراق مقبول إقليمياً، وهو ما من شأنه جذب الاستثمارات الخارجية إلى الاقتصاد العراقي، وزيادة حجم التبادل التجاري مع الدول الأخرى.
مشروطيات النجاح:
يمكن القول إن هناك عوامل يتعين توافرها حتى تُحقق دبلوماسية الوساطة العراقية أهدافها في التهدئة الإقليمية ومحاولة حل أزمات المنطقة، ومنها الآتي:
1- التحلي بعلاقات جيدة مع مختلف الأطراف، وهو ما ينطبق على بغداد ولاسيما في السنوات الأخيرة، إذ باتت تتمتع بعلاقات إيجابية مع الدول العربية والإقليمية. فالعراق له تواصل وعلاقات جيدة مع السعودية وباقي دول الخليج، ومع مصر والأردن، وغيرها من الدول العربية، فضلاً عن علاقته مع إيران. وهذا يعني أنه وسيط مقبول من تلك الدول، ويمكنه أن يُسهم في حل أزماتها أو على أقل تقدير خفض التوترات بينها.
2- حيادية الوسيط، حيث يحاول العراق إثبات أنه طرف محايد إزاء خلافات الأطراف الإقليمية، ولا يميل إلى أي منها على حساب الآخر، ولاسيما أن هناك قوى سياسية عراقية لها ارتباطات وثيقة مع إيران. وبقدر تعزيز دور العراق الحيادي، بقدر ما سيستطيع إثبات دوره كوسيط موثوق فيه، وبقدرته على الإسهام في التهدئة الإقليمية.
3- رغبة أطراف الأزمات في الحوار، وهو ما تحقق في الأزمات الإقليمية التي سعي العراق لتأدية دور إيجابي في محاولة حلها. فقد أبدت طهران رغبتها في وساطة بغداد بينها وبين الرياض والقاهرة وعواصم عربية أخرى، إذ رحب وزير الخارجية الإيراني، حسين عبداللهيان، خلال وجوده في بغداد، في فبراير الماضي، بجهود الحكومة العراقية من أجل تعزيز الحوار والتعاون بين السعودية وإيران، ورحب بعودة العلاقات مع المملكة مثلما رحب بوساطة العراق للحوار بين مصر وإيران. وفي المقابل، ثمة رغبة عربية في التهدئة الإقليمية، ومعالجة العديد من الملفات العالقة ومنها مع إيران.
4- استمرار توجهات الحكومات العراقية في الوساطة، وهذا ما يمكن تلمسه ابتداءً من حكومة حيدر العبادي عام 2014، ثم حكومة عادل عبدالمهدي (2018 – 2019)، ومن بعدها حكومة مصطفى الكاظمي بشكل أكبر، والتي نجحت في عقد عدة مؤتمرات جمعت أطرافاً إقليمية متنافسة أو بينها توترات، وصولاً إلى نجاح الوساطة بين السعودية وإيران. وسارت الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني على نفس النهج بسعيها للوساطة بين مصر وإيران، وإبداء استعدادها للمساهمة في حلحلة الأزمة اليمنية.
5- تعزيز الاستقرار الداخلي، حيث إن استمرار سياسة العراق الخارجية الإيجابية ودبلوماسية التسوية الفاعلة التي يتبناها، يحتاج إلى بيئة داخلية مستقرة. فالسياسة الخارجية هي مرآة للوضع الداخلي، وإذا لم تستطع الحكومات العراقية معالجة أزماتها وتحقيق الاستقرار الداخلي، فإنها لن تكون جديرة للقيام بدور فاعل في المحيط الإقليمي، ولن تكتسب ثقة الآخرين.
ختاماً، يمكن القول إن دبلوماسية الوساطة العراقية تواجه كوابح عديدة قد تعرقلها، وهي تحديات نابعة من بيئة العراق الداخلية، وكذلك البيئتين الإقليمية والدولية. فالساحة العراقية تعاني من أزمات سياسية تبرز بين الحين والآخر، وكذلك تتقاسم سياسته تيارات لها ارتباطات وتوجهات متناقضة في مجال سياستها الخارجية، وتحتاج العملية السياسية لإصلاح شامل تصحح مسارها وبشكل يخدم العراق ومصالحه في المنطقة. كما أن السياسة الخارجية العراقية ليست بمنأى عن تأثير العامل الأمريكي، وأي دور للوساطة الإقليمية لن يتم من دون ضوء أخضر أمريكي. يُضاف إلى ذلك، أن الطرف الأساسي في التوترات الإقليمية وهو إيران، له تاريخ طويل من الأزمات مع دول عديدة طيلة العقود الماضية، وقد جاء توجه طهران نحو التهدئة الإقليمية في الوقت الراهن مدفوعاً بضغوط داخلية وعزلة إقليمية ودولية؛ على خلفية ملفها النووي وتدخلاتها في شؤون الدول الأخرى.
كل ذلك يعني أن مستقبل دبلوماسية الوساطة التي يقوم بها العراق في الأزمات الإقليمية، قد يتوقف نجاحه على ما يمكن أن يتحقق من أسس للنجاح، وما يتجاوزه من كوابح ومعوقات يتعرض لها.