"تمويل المناخ، عوامل المحافظة على المناخ، التمويل الأخضر، الاستثمارات في التقنيات النظيفة"؛ كل هذه المفاهيم المستخدمة بشكل واسع في وسائل الإعلام، تذكرنا بأن المال – أو بالأحرى رأس المال - ضروري لإنشاء اقتصاد خال من الكربون. بينما تتفق الجهات المعنية على هذه الفكرة بشكل عام، تظل الشروط الدقيقة اللازمة للتطبيق غير واضحة.
لقد استحوذت برامج التمويل الخاصة بالمناخ على المناقشات في البلدان النامية منذ انعقاد قمة ريو عام 1992، ولكن تبقى النتائج محدودة حتى الآن. وفي كوبنهاغن عام 2009، كان من المفترض أن يتعهد مؤتمر الأطراف (COP15) بتقديم 100 مليار دولار أمريكي للدول النامية. وفي العام الماضي بشرم الشيخ، كانت الحكومات والمؤسسات المالية الدولية تهدف إلى تسوية صفقة لإنشاء صندوق الخسائر والأضرار. وهكذا فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، سلطت النقاشات بالمؤتمرات المختلفة الضوء على الدور المحوري لرأس المال باعتباره نقطة أساسية في صميم العمل المناخي.
تكلفة عالية وجهد بطيء
لا يزال الخبراء يناقشون الآليات المالية اللازمة لتسهيل الانتقال إلى اقتصاد خال من الكربون، والحفاظ على الاحتباس الحراري لأقل من درجتين بحلول نهاية القرن، بما يتماشى مع اتفاقية باريس. وتشير معظم التوقعات إلى أن الولايات المتحدة سوف تضطر إلى استثمار ما بين 2 و5% من ناتجها المحلي الإجمالي لأجل هذا التحول الأخضر، مع وجود إجمالي ناتج عالمي يبلغ حوالي 90 تريليون دولار أمريكي. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، سيحتاج المجتمع الدولي إلى تعبئة ما بين 1.8 و4.5 تريليون دولار أمريكي سنوياً لأجل نفس الهدف. وفي تقرير عام 2022، قدرت "ماكنزي" أن هناك حاجة إلى 275 تريليون دولار أمريكي لتحقيق النظام الاقتصادي الصفري بحلول عام 2050، أي ما يعادل ثلاث سنوات من إجمالي الناتج العالمي.
تبقى هذه التقديرات مجردة ما لم تتم مقارنتها بنفقات مماثلة، كالميزانيات العسكرية العالمية مثلاً. فعلى سبيل المثال: في نهاية الحرب الباردة، قامت معظم الدول الغربية بتخفيض ميزانياتها العسكرية إلى أقل من 2% على وجه التحديد. ومع اندلاع الحرب في أوكرانيا، رفعت معظم هذه الدول ميزانيات إنفاقها العسكري إلى أكثر من 2%. وأفاد معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، والذي يرصد النفقات العسكرية لكل الدول الغربية، بأنه منذ عام 2019 تجاوزت الميزانيات العسكرية لهذه الدول 2 تريليون دولار أمريكي سنوياً. وفي العام الماضي فقط، تم تقدير الميزانية العسكرية لهذه الدول بمبلغ 2240 مليار دولار أمريكي. وهذا يعني أننا إذا أعدنا تخصيص جميع الميزانيات العسكرية للتحول الأخضر على مدار الـ25 عاماً المقبلة فسنصل بالكاد إلى 60 تريليون دولار أمريكي، أي إلى ربع الرقم التقديري لـ"ماكنزي".
حتى الآن ما زالت الجهود المبذولة من أجل التحول الأخضر وتحقيق تحول نوعي بالنظام العالمي في هذا الصدد بطيئة الحركة بشكل كبير، فللحفاظ على هدف إبقاء الاحتباس الحراري أقل من درجتين، كما تم الاتفاق في مؤتمر الأطراف "COP21"، فإن هناك حاجة ماسة إلى 35 تريليون دولار أمريكي على الأقل. لن يؤدي تأخير هذا الإجراء إلا إلى مزيد من الارتفاع في التكلفة وانتشار أوسع للأضرار. ومع ذلك فإن مجرد وضع الآلية بمكانها الصحيح سيمكن الاستثمارات من أن تكتسب زخماً في الحركة وسرعة في الخطى. ويتوقع الدكتور سلطان الجابر، الرئيس المعين لمؤتمر الأطراف (COP28)، أن العالم سيحتاج إلى مضاعفة الاستثمارات المناخية ثلاث مرات بحلول عام 2030 من أجل السير قدماً باتجاه التحول الأخضر، وصرح بأن: "التمويل سيُمثل أهم نقاط المناقشة في مؤتمر COP28".
الشراكة لحل أزمة الموارد
على الرغم من أن تكلفة التحول الأخضر لم تحدد بشكل نهائي، يبقى هناك سؤال آخر: من الذي سيقوم بدفع هذه التكلفة؟
يمكن تقسيم العالم إلى ثلاثة أطراف معنية: الدول المتقدمة، والقطاع الخاص، والمنظمات الدولية (IOs). بالنسبة للدول المتقدمة، كانت الميزانيات المخصصة للبيئة محدودة ولم تُنسب بالضرورة إلى التحول الأخضر. على سبيل المثال، استخدمت بعض الدول الأوروبية هذه الميزانيات للتعويض عن الزيادة في أسعار الطاقة نتيجة للحرب في أوكرانيا.
أفضل مثال يوضح المشهد الراهن هو ما حدث باليابان والولايات المتحدة: ففي اليابان تم التصويت على برنامج قانون خصص 2 تريليون دولار من أجل تحقيق اقتصاد صفري في غضون 10 سنوات، أما في الولايات المتحدة فقد تم التصويت على قانون خفض التضخم عام 2022، والذي يخصص 370 مليار دولار أمريكي على مدى 10 سنوات لخفض انبعاثات الكربون (من بين أهداف أخرى).
سيتعين على الحكومات التفاوض بشأن الاستجابة الشعبية العامة للتحول الأخضر لأنه سيؤثر في الإنفاق العام (خاصةً في اقتصاد ما بعد كوفيد19) وعلى نسب التضخم فيما يتعلق بالضروريات كالحبوب والوقود. على سبيل المثال، في فرنسا عام 2018، أثارت ضريبة الكربون التي فرضت على استهلاك الوقود الأحفوري احتجاجاً اجتماعياً كبيراً (حركة السترات الصفراء)، لم يهدأ إلا مع بداية أزمة "كورونا". ففي مقابل تعزيز الحكومة دوافع التحول الأخضر، فإنها تخصص ميزانيات محدودة لتحقيق هذا الهدف. وبالتالي يُنظر إلى القطاع الخاص على أنه مساهم أساسي في هذا التحول لأن الحكومات وحدها لن تستطيع تحقيق الهدف.
يحاول الخطاب الرسمي للحكومات إبراز مزايا وعائدات فرص العمل في مجال الطاقة المتجددة. حيث يمكن أن تولد التغييرات الهيكلية في مجال الاقتصاد الخالي من الكربون 12 تريليون دولار أمريكي بحلول عام 2030. ولكن لا يمنع هذا التشجيع أصحاب المشاريع من تقييم جدوى دخول هذا المجال، وحساب التكاليف النهائية، ومقارنة العوائد المحتملة مع عوائد غيره من المجالات.
فهناك فرق بين الاستثمار في الابتكار الأخضر وبين إعادة تنظيم القطاعات. ففي الحالة الأولى، يمكن للتقنيات الجديدة، المدعومة بالبحوث العامة مثل الهيدروجين الأزرق والأخضر، أن تُحقق استثمارات مربحة. ففي إفريقيا وحدها يمكن خلق 4 ملايين فرصة عمل وتحقيق 120 مليار دولار من العائدات. أما في حالة إعادة تنظيم القطاعات، فيتطلب تحويل "الصناعات التي يصعب إلغاؤها" (كصناعة الصلب والإسمنت والبتروكيماويات وما إلى ذلك) إعادة تنظيم كاملة لكل قطاع من دون تحقيق عوائد. وهكذا فإذا لم يتم دعم هذه الصناعات، وإجبارها على الإصلاح، فإنها ستعطل عملية التحول أو تطيلها لأطول فترة ممكنة.
وهكذا فالحل الأمثل هو تطوير شراكات بين القطاعين العام والخاص لتحديد وتنفيذ الاستراتيجيات الوطنية والقضايا الأمنية. فيمكن القول إن التمويل بشكل عام هو المتحكم في عملية التحول الأخضر بالنسبة للشركات. وحالياً يزعم الثلث فقط من كبار المسؤولين التنفيذيين أن لديهم موارد مالية كافية للتحرك نحو إزالة الكربون.
مسؤولية "الانبعاثات الضارة"
خلال مؤتمر الأطراف "COP27" والذي عقد في شرم الشيخ، كانت النتيجة المهمة للمؤتمر هي إنشاء صندوق الخسائر والأضرار الذي يهدف إلى دعم البلدان النامية. فقد كان المؤتمر بمثابة تذكرة قاسية بأن الدول الصناعية الكبرى هي المسؤولة عن إنتاج 75% من غازات الاحتباس الحراري (GHGs) المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري في المقام الأول.
تمت الاستجابة للأصوات المتزايدة القادمة من دول النصف الجنوبي من العالم، والتي طالما طالبت بمساءلة الدول الصناعية الكبرى (والتي تقع في النصف الشمالي للعالم) واعترافها بأن عواقب تغير المناخ تتسبب بأضرار شديدة تتركز في جنوب الكرة الأرضية، أي أن دول الشمال تتسبب في صنع أضرار تدفع ثمنها دول الجنوب. فعلى سبيل المثال، تُعد باكستان مسؤولة عن إنتاج نسبة 1% فقط من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري ولكنها دُمرت بسبب الفيضانات في سبتمبر 2022 مما أدى إلى وقوع أضرار بقيمة 30 مليار دولار أمريكي.
ووفقاً لهذا المنطق، يجب أن تتحمل البلدان الصناعية الكبرى عبئاً مالياً أكبر، ربما من خلال نسب مساهمة طردية مع نسب انبعاثات الكربون الخاصة بها منذ ما قبل التصنيع (وليس فقط في مقابل الوضع الحالي المحدد في COP21). وفي حال قبول هذا المبدأ، يمكن أن يمتد أثر تنفيذه، ليس فقط إلى الدول المتسببة في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ولكن أيضاً إلى القطاعات والشركات المتورطة في الأمر نفسه.
إن الولايات المتحدة الأمريكية تطبق بالفعل هذا المبدأ طبقاً لتشريعات الدولة، حيث من حق أي ولاية رفع دعوى قضائية ضد أي شركة وطنية/دولية مطالبةً بالتعويض لتغطية النفقات التي تتكبدها الولاية أثناء الكوارث الطبيعية الناتجة عن تغير المناخ. وبالتالي فإن "الصناعات التي يصعب إلغاؤها" المذكورة سابقاً في مجالات الطاقة، والبناء، والنقل، والزراعة التجارية، إلخ، يمكن أن تتحمل مسؤولية الأضرار التي يسببها هذا القطاع من الصناعة.
ولكن تحديد التواطؤ في هذه الأمور يثير أسئلة معقدة. على سبيل المثال، هل يجب أيضاً محاسبة الدولة التي تقع فيها الشركة المسؤولة؟ لقد اختفت بعض الشركات أو اندمجت في شركات أخرى ليست بالضرورة في البلد الأصلي.
وكما هي معقدة قضية انبعاثات غازات الاحتباس الحراري واعتراف المتسبب فيها وتحمله مسؤولية فعله، فبالمثل قضية استخراج المواد الخام خلال فترة الاستعمار وما أدت إليه من تدمير للموارد المحلية، مثل تدمير الغابة الأولية في بورنيو بإندونيسيا.
إن بدء هذا النقاش هو خطوة ضرورية في السعي العالمي للمساءلة وتحمل المسؤولية، لكنه يفرض في الوقت نفسه تحديات على دول الشمال التي تسيطر على المنظمات الدولية المسؤولة عن تقصّي ومعالجة هذه الأمور. ويدرك كبار المسؤولين حساسية هذه القضية. ففي يناير 2023، ألمح جون كيري، المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص لشؤون المناخ ووزير الخارجية الأمريكي الأسبق، إلى أن هذا النقاش يُعد باطلاً ولاغياً. فعندما زار أبوظبي بعد مؤتمر الأطراف "COP27"، صرّح علانيةً أن الولايات المتحدة لن تقبل بـ"معيار المسؤولية المفروض". وهذا يعني أن الولايات المتحدة، التي تمتلك بصمة كربونية تُمثل ثلاثة أضعاف المتوسط العالمي، قد رفضت الإسهام بنصيبها من حيث التعويضات.
كما يسلط مجال "الخسائر والأضرار" الضوء على دور المؤسسات المالية الدولية. فعلى المستوى العالمي، قد يكون لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي نفوذ قوي، بينما ستتم مناقشة تمكين بنوك التنمية متعددة الأطراف (MDB)، مثل بنك التنمية الآسيوي (ADB) الموجود في مانيلا، خلال مؤتمر الأطراف "COP28". فهذه المؤسسات تمتلك الخبرة اللازمة للعمل كجهات محورية فاعلة على إبراز أهمية التمويل المناخي وتعزيزه.
ولكن على صعيد آخر فمن المهم أن ندرك أن هذه المؤسسات لديها قدرة محدودة. فعلى سبيل المثال: تصل الأصول التراكمية لأول 10 بنوك تنمية متعددة الأطراف إلى 5 تريليونات دولار أمريكي، وهي ميزانية غير كافية للتصدي بفعالية لمشكلة المناخ. وستحتاج هذه المؤسسات إلى مضاعفة أصولها ثلاث مرات لتكون في وضع يمكنها من مواجهة مثل هذا التحدي. علاوة على ذلك فإن نشاطها الأساسي هو التنمية وليس العمل المناخي، حتى ولو كان المجالان سيتداخلان أكثر فأكثر في المستقبل. وبالتوازي ففي قطاع الصحة، أكد الدكتور الجابر الحاجة إلى تعزيز إمكانية الوصول إلى التمويل المناخي وتوفيره وتحمل تكاليفه.
أخيراً، نأمل أن يسفر مؤتمر الأطراف "COP28" عن الحلول المطلوبة بشكل عاجل لمواجهة هذه التحديات.