صدر، في 10 مارس 2023، بيان ثلاثي عن الصين والسعودية وإيران، يعلن عن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين طهران والرياض بمبادرة ووساطة صينية، تهدف لإنهاء الصراع الممتد لعدة سنوات بين البلدين. وتكشف الوساطة الصينية عن عدد من الدلالات حول الدور الصيني تجاه منطقة الشرق الأوسط، يمكن تفصيلها في النقاط التالية:
1- تحقيق الاستقرار الإقليمي: بادرت بكين بالوساطة بين طهران والرياض للوصول لتلك المصالحة، التي تمت تحت إشراف مباشر من الرئيس الصيني، شي جين بينج، وبالاتفاق بين القيادات السياسية في طهران والرياض، وكان من الواضح أن الصين تقوم بدور الوساطة بين الجانبين منذ بعض الوقت، غير أن ذلك كان يتم بصورة سرية.
وانبثق عن الحوار إعلان الدولتين إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما خلال شهرين مع تأكيد احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. ويلاحظ أنه لم يتم الكشف عن تفاصيل الاتفاق، واكتفي بالكشف عن المبدأ العام السابق، غير أنه يتوقع أن تكون الصين قدمت ضمانات للرياض بعدم قيام إيران بمهاجمتها، سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلائها، وهو ما يعني أن الاتفاق قد يؤسس لجولات لاحقة من المحادثات بين الجانبين لحلحلة الأزمات الإقليمية، وخاصة الملف اليمني.
2- رسائل رمزية واستراتيجية صينية: تزامن الإعلان مع إعادة انتخاب الرئيس الصيني لفترة ثالثة، وهو ما يحمل دلالة رمزية بأن دور الصين السياسي في منطقة الشرق الأوسط سيزيد في الولاية الثالثة لشي. وبات من الواضح أن الصين لديها النية لاستخدام نفوذها الاقتصادي القوي للتوصل لتوافقات أمنية تدعم الاستقرار في منطقة كان ينظر إليها ضمن مناطق نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية.
ويلاحظ أن واشنطن قد أحدثت فراغاً في المنطقة، تمكنت الصين من ملئه، وذلك عبر رسائل واشنطن المتكررة بنيتها تقليل حدة انغماسها في المنطقة، وهو ما دفع دول الخليج العربية للبحث عن شركاء استراتيجيين جدد لضمان مصالحها الاقتصادية والسياسية وكذا لضمان أمن واستقرار المنطقة.
وجاءت الاتفاقية بعد زيارة الرئيس الصيني إلى الرياض في ديسمبر 2022، والتي كشفت عن تحوّل في السياسة الصينية من التركيز على المصالح الاقتصادية إلى إقامة علاقات استراتيجية متعددة الأوجه، كما في مطالبة بكين شراء جانب من نفط المنطقة باليوان، وإبداء استعدادها للتعاون مع دول الخليج العربية في المجالات التكنولوجية المتقدمة، ذات التطبيقات الأمنية والاستراتيجية، بما في ذلك بناء المفاعلات النووية المدنية.
3- اهتمام صيني بالخليج العربي: قام الرئيس الصيني شي بزيارة خاصة للسعودية، في ديسمبر 2022، للاجتماع بالقادة العرب، ويبدو أن اختياره الرياض لذلك الاجتماع يوضح اهتمام بكين بمنطقة الخليج العربي، وخلال الزيارة اقترح الرئيس الصيني خطة عمل مكونة من 8 نقاط تركز على التنمية والأمن، بالإضافة إلى 56 مبادرة تعاونية بين البلدين.
ويرجع اهتمام الصين بالمنطقة لكونها تورد حوالي خمس احتياجات بكين من النفط، كما أن قطر والصين وقعتا اتفاقية لنقل حوالي 4 ملايين طن من الغاز القطري الطبيعي المسال إلى الصين في اتفاقية وصلت قيمتها إلى 60 مليار دولار ممتدة على مدار 24 سنة، وتُعد الصين كذلك أكبر شريك تجاري لدول المنطقة منذ 2020، وهي كلها مؤشرات تدل على اهتمام الصين بالمنطقة لأنها منطقة مرور مهمة لمبادرة الحزام والطريق الصينية.
وفي هذا الإطار، وقعت الصين اتفاقيات استثمارية ضخمة مع أغلب دول المنطقة العربية لتنفيذ مشاريع تنموية في مجالات البنية التحتية والنقل، وكان للعراق نصيب كبير من تلك الاتفاقيات؛ حيث وصلت قيمة العقود الموقعة بين البلدين لـ10.5 مليار دولار.
ومن الجدير بالذكر أن طموحات الصين العسكرية في المنطقة باتت مكشوفة بعد وضع أول قاعدة عسكرية لجيش التحرير الصيني خارج حدود البلاد في دولة جيبوتي في 2017. وعلى الرغم من نفي بكين نيتها التوسع العسكري في المنطقة، أعلن البنتاجون أن القاعدة الصينية في جيبوتي ما هي إلا خطوة أولى لخطة صينية لنشر قواعد عسكرية في عدد من دول المنطقة، بالإضافة إلى اليمن، وهو التقييم الذي يعكس حجم القلق الأمريكي من الوجود العسكري الصيني المستقبلي في الشرق الأوسط.
ويكشف ما سبق عن أن المبادرة الصينية للتهدئة بين السعودية وإيران، إنما تأتي لتعكس امتلاك بكين لرؤية استراتيجية لمستقبل لشرق الأوسط، وكذلك علاقاتها بالأطراف المؤثرين فيه، وأنها شرعت في تنفيذ هذه الرؤية بصورة تدريجية، وهو الأمر الذي يعني أن الاهتمام الصيني بتطورات المنطقة، وكذلك سعيها للدخول طرفاً في تفاعلاتها سوف يكون الواقع الجديد الذي سوف تتجه دول العالم المعنية بالشرق الأوسط إلى التجاوب معه.
4- فرض الرؤية الصينية للسلام: تُعد المبادرة الصينية للوساطة بين السعودية وإيران دليلاً على البدء في تنفيذ مبادرة الرئيس شي للسلام العالمي التي أعلن عنها في إبريل 2022، والتي تقوم على بناء سلام عالمي مؤسس على المشاركة في التنمية الاقتصادية، وبالتالي خلق أمن عالمي تشاركي. وكانت أولى بوادر المساعي الصينية للسلام، خطتها لإحلال السلام بين روسيا وأوكرانيا، وهي المبادرة التي لم تلق ترحيباً كبيراً من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتمهد المبادرة الصينية لعالم جديد متعدد الأقطاب.
5- شكوك سعودية في المظلة الأمريكية: تتفهم السعودية جيداً أن طموحاتها في تنويع مصادر دخلها وتقليل الاعتماد على المنتجات النفطية والبترولية من خلال جذب استثمارات أجنبية لن تتحقق في خضم استمرار طهران في تهديد الأمن الإقليمي، وأمن الطاقة، سواء بشكل مباشر، أو من خلال وكلائها المسلحين في اليمن، كما تطمح المملكة على الأمد المتوسط.
ومن جهة أخرى، فإن زيادة حديث واشنطن عن ضرورة تقليصها لوجودها العسكري والأمني بمنطقة الشرق الأوسط، دون امتلاكها لرؤية واضحة لكيفية علاج مشكلة إيران، سواء بسبب تدخلاتها الإقليمية، أو برنامجها النووي، قد أفقد واشنطن المصداقية لدى حلفائها، خاصة في ظل تبنيها لسياسات ضارة بحلفائها، مثل سحب منظومات الدفاع الجوي الأمريكية من السعودية العام الماضي على الرغم من استمرار الحوثيين في تهديد الأمن السعودي، أو نكوصها عن تنفيذ تعهداتها التسليحية لبعض دول المنطقة.
6- خيارات أمريكية صعبة: بات من الواضح أن تقليص الوجود والدور الأمريكي في المنطقة قد رتب تداعيات استراتيجية على نفوذ واشنطن، وهو ما سيجعلها في حاجة إلى مراجعة سياستها الحالية، ومحاولة الدخول في حوار جاد مع حلفائها الإقليميين، لكسب ثقتهم، إذ أن مواصلة السياسة الحالية سوف تترتب عليها تعزيز أدوار الدول الأخرى كالصين وروسيا.
ونفت الولايات المتحدة على لسان جون كيربي، المتحدث الرسمي لمجلس الأمن القومي الأمريكي، ترك فجوة نفوذ في الخليج العربي والشرق الأوسط ما أعطى للصين فرصة ملء هذا الفراغ، مؤكداً عودة قوية للولايات المتحدة للمنطقة، وكذلك إبلاغ الرياض لواشنطن بكل خطوات المشاورات مع إيران برعاية صينية قبل الإعلان عن نتائجها، معبراً عن ترحيبه بالمصالحة بين البلدين، غير أن تصريحات كيربي حول متابعة واشنطن للدور الصيني في المنطقة تكشف عن وجود قلق أمريكي جدي من تأثير الدور الصيني في النفوذ الأمريكي، وهو ما يعني أن واشنطن قد تعيد رسم سياستها تجاه المنطقة للحفاظ على حلفائها.
وفي التقدير، يبدو أن تحركات الصين الإقليمية والدولية هي استعداد لعالم ما بعد الهيمنة الغربية على النظامين الاقتصادي والسياسي الدوليين، ومن الواضح زيادة أهمية المنطقة العربية بشكل عام، ومنطقة الخليج العربي بشكل خاص، لسياسة الصين الخارجية، إما لأهميتها الاقتصادية ومركزيتها في مبادرة الحزام والطريق، أو لرؤيتها فرصة في الابتعاد الأمريكي من المنطقة، ويبدو أن البدء بالعمل على مصالحة بين الرياض وطهران، بداية مهمة لحل الأزمة اليمنية الممتدة وللعمل على خلق نظام أمني مستدام في الخليج.