شهد مطلع مارس 2023، تمدد حركة 23 مارس المتمردة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، وسيطرتها على مزيد من المناطق هناك، وذلك في الوقت الذي كان يفترض أن تبدأ فيه الحركة بالانسحاب من المناطق التي كانت تسيطر عليها، في إطار التوافقات التي تمخضت عن الوساطة الإقليمية.
تطورات عملياتية جديدة
شهد المشهد العملياتي في منطقة شرق الكونغو الديمقراطية عدداً من المتغيرات الجديدة خلال الأسابيع الماضية، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تقدم "23 مارس" في محيط غوما: تمكنت حركة 23 مارس المتمردة خلال الأيام الأخيرة من توسيع نطاق سيطرتها على المناطق المتاخمة لغوما، عاصمة مقاطعة شمال كيفو، حيث سيطرت الحركة، نهاية فبراير 2023، على بلدة مويسو بشمال غوما، وذلك بعد أيام قليلة من سيطرتها على بوسومبا وجاشونجو وروجونجوي وموشاكي وروبايا، وذلك قبل أن تستعيد قوات الكونغو الديمقراطية السيطرة على الأخيرة، والتي تضم مناجم استراتيجية تقع على بعد 50 كيلومتراً من غوما.
وحافظ المتمردون على مواقعهم في روتشورو بغرب وشمال غوما، فضلاً عن احتلالهم للطريق الأخير الذي يربط بين غوما وبقية المناطق بمقاطعة شمال كيفو. وبذلك باتت حركة 23 مارس تسيطر على الطرق الثلاثة المؤدية إلى غوما، فيما انهار الطريق الرابع والأخير بسبب الأمطار الغزيرة، ومن ثم أضحت العاصمة الإقليمية شبه محاصرة من قبل المتمردين.
2- هجمات موسعة في "باس أويلي": أعلنت حكومة الكونغو الديمقراطية، في 28 فبراير 2023، تعرض ثلاث قرى بمنطقة باندا في إقليم باس أويلي، الواقع شمال الكونغو الديمقراطية، والمتاخم للحدود مع جمهورية إفريقيا الوسطى، لهجمات واسعة أسفرت عن اختطاف 25 شخصاً.
وعلى الرغم من عدم الكشف عن هوية العناصر المنفذة للهجوم، فإن ثمة تقديرات أشارت إلى أنها ناتجة عن تمدد للعنف المنتشر في شرق الكونغو الديمقراطية، خاصة وأن منطقة شمال الكونغو الديمقراطية كانت تشهد حالة من الاستقرار النسبي خلال السنوات الأخيرة، بعد تراجع حدة العنف في جارتها الشمالية بانغي.
3- نشاط إرهابي في شرق الكونغو الديمقراطية: شهدت الأيام الأخيرة تصاعداً في وتيرة النشاط الإرهابي في شرق الكونغو الديمقراطية، إذ لم يقتصر الأمر على هجمات حركة 23 مارس المتمردة، بل شنّت عدد من المجموعات المسلحة المنتشرة هناك عدة هجمات أخيراً، حيث ينشط، في هذه المنطقة، أكثر من 120 حركة وجماعة مسلحة.
وفي هذا السياق، أعلن المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، مقتل 32 مدنياً في مقاطعة إيتوري، الغنية بمناجم الذهب، خلال الهجمات التي شنتها مليشيات كوديكو والقوات الديمقراطية المتحالفة، الموالية لداعش. وتجدر الإشارة إلى أن الصراع القائم بالفعل بين مليشيات كوديكو والكونغو الديمقراطية في هذه المنطقة شهد تصاعداً لافتاً خلال الفترة الأخيرة، وهو ما ينذر بتفاقم الأوضاع الأمنية المأزومة بالفعل.
4- إدانة أمريكية وغربية: أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، في 23 فبراير 2023، عن إدانتها للعنف المتزايد في شرق الكونغو الديمقراطية من قبل الجماعات المسلحة المنتشرة هناك، لاسيما حركة 23 مارس، والجماعات الموالية لتنظيم داعش وحركة كوديكو والقوات الديمقراطية لتحرير رواندا، مطالبة كافة هذه الجماعات بوقف أعمالها العدائية والانسحاب غير المشروط من النقاط التي تسيطر عليها.
كما رحبت الخارجية الأمريكية بمخرجات القمة المصغرة لمجموعة دول شرق إفريقيا بإثيوبيا، في 17 فبراير 2023، ومساري لواندا ونيروبي بشأن الوساطة بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، داعية الأخيرة لوقف دعمها لحركة 23 مارس، وسحب الأخيرة لعناصرها المنتشرة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية لتسهيل تنفيذ الالتزامات التي نصت عليها قمة أديس أبابا، فيما اعتبرت كيجالي أن التصريحات الأمريكية يمكن أن تقوض عملية السلام والوساطة الإقليمية الجارية.
وعلى المنوال ذاته، أدانت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، إيليزي براندر كيريس، في ختام زيارتها لكينشاسا، العنف المتزايد وتدهور الأوضاع الأمنية في شرق الكونغو الديمقراطية، مشددة على ضرورة وقف القتال وتعزيز جهود بناء الثقة والتماسك داخل المجتمعات المحلية. وأشارت المسؤولة الأممية إلى أن تزايد الهجمات التي تشنها حركة 23 مارس أدى إلى خسائر فادحة في المدنيين، كما أنه سمح لمجموعات مسلحة أخرى بتوسيع نطاق سيطرتها، مستغلة الفراغ الناجم عن إعادة انتشار القوات الحكومية.
من ناحية أخرى، أعلن الاتحاد الأوروبي إنشاء جسر جوي للمساعدات الإنسانية إلى غوما بدعم من فرنسا، والإفراج عن مساعدات بقيمة 47 مليون يورو، وجاء هذا الإعلان بالتزامن مع زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى كينشاسا.
دلالات مهمة
عكست التطورات الميدانية التي شهدها شرق الكونغو الديمقراطية جملة من الدلالات المهمة، يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تعثر مخرجات قمة أديس أبابا: عقدت مجموعة دول شرق إفريقيا قمة في العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، في 17 فبراير 2023، تمخض عنها الإعلان عن جدول زمني من ثلاث مراحل لانسحاب حركة 23 مارس المتمردة من مناطق سيطرتها في شرق الكونغو الديمقراطية. وكان يفترض أن تبدأ المرحلة الأولى منها في نهاية فبراير 2023، على أن تنتهي المرحلة الأخيرة بنهاية مارس الجاري، لكن يبدو أن هذه القمة أخفقت، حتى الآن، في تحقيق أي تقدم على الأرض.
ولا تعد هذه هي المرة الأولى التي يتم فيها عدم الالتزام ببنود الاتفاقيات بين الحركة المدعومة من رواندا، والكونغو الديمقراطية، فقد وقعت كيجالي وكينشاسا، في نوفمبر 2022، على اتفاق في العاصمة الأنغولية، لواندا، ينص على انسحاب حركة 23 مارس المتمردة من المناطق التي تسيطر عليها بشرق الكونغو الديمقراطية، بحلول منتصف يناير 2023، بيد أن الطرفين تبادلا الاتهامات بشأن خرق بنود هذا الاتفاق. ومن الواضح أن رواندا تستغل جهود التهدئة لدفع حركة 23 مارس لتوسيع نطاق سيطرتها الميدانية.
2- توفير مزيد من الموارد للمتمردين: عكست التطورات العملياتية الأخيرة في شرق الكونغو الديمقراطية استمرار التقدم الميداني لعناصر حركة 23 مارس المتمردة، فمع سقوط مدينة موشاكي، أصبح المتمردون يسيطرون على حركة الانتقال إلى العاصمة الإقليمية غوما، وهو ما يمكن الحركة من إجبار المواطنين المقيمين تحت سيطرتها من دفع إتاوات لها، بما يعزز إيراداتها، ومن ثم تعزيز موقفها العسكري، وشن المزيد من الهجمات العسكرية خلال الفترة المقبلة.
3- رسائل غربية ضمنية: حملت زيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى الكونغو الديمقراطية، في 4 مارس 2023، رسائل ضمنية لكينشاسا تستهدف تحذيرها من أي تقارب محتمل مع عناصر فاغنر الروسية، بعدما أشارت تقارير غربية أخيراً إلى وجود مؤشرات على اتجاه الكونغو الديمقراطية للاستعانة بالشركة الروسية في مواجهة التهديدات الإرهابية المتزايدة، لاسيما من قبل حركة 23 مارس المتمردة.
ورجحت تقديرات أخرى قيام الكونغو الديمقراطية بالتلويح بورقة فاغنر للضغط على الغرب، خاصة فرنسا، لتبني موقف داعم لكينشاسا في مواجهة كيجالي وحركة 23 مارس المتمردة، في ظل اتهام باريس بدعم رواندا والمتمردين، وهو ما انعكس في الاحتجاجات التي شهدتها كينشاسا ضد زيارة ماكرون، حيث رفع المتظاهرون الأعلام الروسية.
4- دعوات للحوار مع "23 مارس": أعلن رئيس الجمعية التشريعية لشمال كيفو، هابينشوتي، سينينغا روبيرت، أن 17 من أعضاء البرلمان في المقاطعة تقدموا برسالة إلى رئيس الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسكيدي، للمطالبة بوقف الحرب وبدء الحوار المباشر مع الحركة المتمردة لتسوية الصراع القائم.
وجاء ذلك الموقف في ظل قلق القادة المحليين في شرق الكونغو الديمقراطية من تقدم حركة 23 مارس، وبالتالي ربما تفرض هذه الدعوات ضغوطاً على حكومة تشيسكيدي لاستئناف الحوار المباشر مع المتمردين، والتوصل إلى تسوية تخفف من حدة الصراع في شرق الكونغو الديمقراطية، خاصة في ظل الاستعدادات للانتخابات الرئاسية المقبلة في كينشاسا.
انعكاسات محتملة
في إطار المتغيرات الراهنة في شرق الكونغو الديمقراطية، هناك عدد من الانعكاسات المحتملة التي ربما تتمخض عن التطورات الأخيرة، ويمكن عرضها على النحو التالي:
1- وساطة فرنسية محتملة: يبدو أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، يستعد لطرح مسار جديد للوساطة بين البلدين، في إطار مساعيه لتعزيز الدور الفرنسي، والحيلولة دون اتجاه كينشاسا للتقارب مع موسكو والاستعانة بعناصر فاغنر، وهو ما سيشكل خسارة جديدة لباريس في إفريقيا.
وفي هذا السياق، أشارت تقارير فرنسية إلى استقبال ماكرون خلال زيارته إلى أنغولا بعض قيادات حركة 23 مارس المتمردة. وعلى الرغم من نفي الإليزيه رسمياً ذلك، فإن هناك تقارير أكدت وصول عدد من قادة المتمردين إلى لواندا بالتزامن مع وجود الرئيس الفرنسي هناك، وهو ما يعزز فرضية مساعي باريس طرح وساطة جديدة لتسوية التوترات بين كينشاسا وكيجالي.
2- جهود غربية لتعزيز التعاون الإقليمي: تبذل جهود دولية لصياغة ترتيبات جديدة في منطقة البحيرات العظمى، تفضي إلى محاولة علاج التوترات القائمة، وذلك لضمان المصالح الغربية التي باتت مهددة في ظل تنامي وتيرة التنافس الدولي في إفريقيا.
ويلاحظ أن فرص نجاح هذه المساعي لا تزال محل شك، في ظل فقدان الثقة والإرث التاريخي العدائي بين رواندا والكونغو الديمقراطية، وهو ما انعكس في دعوة رئيس الكونغو الديمقراطية تشيسكيدي لنظيره الفرنسي، خلال زيارة الأخير لكينشاسا، إلى ضرورة فرض عقوبات صارمة على رواندا، فضلاً عن الاشتباكات المسلحة المباشرة التي اندلعت على الحدود بين كينشاسا وكيجالي خلال الأيام الأخيرة.
3- تدخل محتمل لـ"سادك": على غرار تدخل القوات المشتركة لمجموعة دول شرق إفريقيا، يرجح أن تشهد الفترة المقبلة تدخلاً من قبل قوات الجماعة الإنمائية للجنوب الإفريقي "سادك" لدعم جهود إحلال السلام في شرق الكونغو الديمقراطية، وهو ما ألمح إليه الرئيس الرواندي، بول كاجامي، والذي أشار إلى وجود معلومات تفيد باتجاه كينشاسا للاستعانة بقوات "سادك" لتعزيز الاستقرار في شرق الكونغو الديمقراطية. وعلى الرغم من أن هذا الانخراط من شأنه دعم جهود إحلال السلام في المنطقة، فإنه يمكن أيضاً أن يزيد من تعقيد المشهد، في ظل تزايد عدد الفواعل الدولية والإقليمية المنخرطة في الصراع.
4- تعثر الانتخابات الرئاسية في الكونغو الديمقراطية: يرجح أن يتم تأجيل الانتخابات الرئاسية المزمعة في ديسمبر 2023، بسبب تصاعد حدة التوترات في شرق الكونغو الديمقراطية، وهو ما ألمح إليه الرئيس تشيسكيدي خلال حضوره اجتماعات منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بجنيف، في 27 فبراير 2023، حيث أشار إلى أن تفاقم الأوضاع الأمنية بشرق البلاد ربما يعرقل الاستعدادات الجارية للاستحقاقات الرئاسية المقبلة. وتجدر الإشارة إلى أن مفوضية الانتخابات أجلت الموعد النهائي لتسجيل الناخبين عدة مرات في مقاطعات غرب الكونغو الديمقراطية بسبب المشكلات الفنية، وينذر هذا التأجيل باحتمالية زيادة الاحتقان الداخلي.
وفي الختام، يلاحظ أنه على الرغم من تعدد مساعي الوساطة من قبل القوى الإقليمية والدولية لتسوية التوترات بين رواندا والكونغو الديمقراطية، فإنها لم تفض، حتى الآن، إلى تسوية حقيقية تنهي الصراع الموروث بين الجانبين، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على تطورات الأوضاع في شرق الكونغو الديمقراطية، والتي باتت مرشحة لمزيد من التفاقم خلال الفترة المقبلة.