بات البث المباشر أحد الاتجاهات الرائجة للمحتوى المرئي على شبكة الإنترنت، ليس فقط عبر المنصات الإعلامية الاحترافية، ولكن أيضاً من خلال ملايين المستخدمين اللذين يمكنهم استخدام خاصية البث في تطبيقات التواصل الاجتماعي المختلفة، أو منصات التواصل المرئي المتخصصة، والتقاط ما يفعلونه أو يشاهدونه ومشاركته لحظياً؛ الأمر الذي يفتقر إلى السيطرة أو الضبط سواءً من المستخدم نفسه الذي لا يمكنه التراجع عما بثه فعلاً، أو حتى من المنصات المستضيفة التي تواجه صعوبات حقيقية في إعمال قواعد إدارة المحتوى على هذا التدفق اللحظي الهائل.
تجاوزات البث:
على الرغم من قدرة البث المباشر على مساعدة منتجي المحتوى على التواصل مع جمهور أوسع، وإنتاج لقطات مميزة لأحداث عامة أو فعاليات رياضية أو حتى مشاركتهم لحظاتهم اليومية، وكذلك فعاليته في أنشطة التسويق الرقمي، وشن الحملات، وعرض المواهب وتطوير مهارات الاتصال؛ فإنه يتصف بعدة سمات تجعل له من المخاطر بقدر ما له من المميزات. إذ إنه غير متوقع، وغير قابل للتعديل، فضلاً عن صعوبة السيطرة على من يشاهده تحديداً.
فقد فتح البث المباشر الباب أمام نشر محتوى مروع مثل جرائم التعذيب والحرق والاعتداءات الجنسية والانتحار، فضلاً عن الاستغلال غير القانوني لحقوق نشر الأفلام السينمائية والحفلات والعروض الفنية والمباريات الرياضية والتي يستخدم الأفراد هواتفهم لبثها عبر حساباتهم، وكذلك انتهاكات الخصوصية بعدم الحصول على إذن الأشخاص اللذين يظهرون في البث لاسيما وإن تضمن هذا الظهور ما يضر سمعتهم أو كانوا هم أنفسهم أطفالاً أو فاقدين للأهلية.
وأجرت ثلاث باحثات ألمانيات بقسم علم المعلومات بجامعة "هاينريش هاينه" الألمانية، مسحاً في عام 2017، لفحص الانتهاكات القانونية على خدمات البث الحي الاجتماعي والتي شملت "بيريسكوب" Periscope و"يوستريم" Ustream و"يوناو"YouNow ، وذلك بتحليل 7621 بثاً مباشراً على مدار أربعة أسابيع في اليابان وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية. وقد تضمن 1364 منها انتهاكات قانونية ما بين 53.5% حقوق ملكية للموسيقى، و25.4% حقوق ملكية للفيديو، و9.2% انتهاكات لحقوق شخصية، و3.7% انتهاكات لحقوق بث فعاليات رياضية، و2.3% انتهكت قوانين المرور، و2% تضمنت إساءات يعاقب عليها القانون، و1.7% انتهكت حماية البيانات الشخصية. وحددت الدراسة قائمة بدوافع البث لدى هؤلاء الأفراد وكان على رأسها الرغبة في التواصل والحصول على المال والشعور بالوحدة.
وفي ورقتها حول تبعات البث المباشر على الخصوصية، استشهدت الباحثة كيندال جاكسون في مدرسة كولومبيا للقانون، ببث أربعة شباب أمريكيين اعتداءاتهم اللفظية والجسدية على أحد الأشخاص من ذوي الإعاقة بثاً مباشراً، للاستدلال على انتشار البث المباشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليشمل كل شيء في حياة الناس حتى أفعالهم الإجرامية.
ويتزايد الأمر خطورة بالنظر إلى قدرة المراهقين، بل والأطفال، على بث الفيديو الحي بأنفسهم والذي قد يضعهم أمام أخطار الابتزاز والاستغلال والتعرض للمحتوى غير اللائق، لاسيما مع تزايد استخدام هذه الفئات لسمات البث الحي. فتطبيق "يوبو" Yubo الفرنسي الذي يستهدف المراهقين يقول إنه يستضيف 500 ألف ساعة من البث المباشر يومياً. كما أظهرت دراسة في بريطانيا أجرتها مؤسسة Internet matters للأمان الرقمي للأطفال في عام 2018، أن 30% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 11 و13 عاماً يبثون أنفسهم مباشرة عبر شبكة الإنترنت، وأن 27% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و10 سنوات ينشرون أحياناً محتوى مباشراً. وقد تفاقمت هذه الظاهرة مع الإغلاق العام إبان جائحة "كورونا"، حيث أظهر بحث تم إجراؤه كجزء من مبادرة المدارس الأكثر أماناً في زيورخ، زيادة بنسبة 17% في البث المباشر بين الأطفال منذ إغلاق المدارس مع وجود أكثر من واحد من كل خمسة يتحدثون مع الغرباء عبر الإنترنت، وأن ما يقرب من ثلاثة بين كل أربعة أطفال لديهم جهاز مزود بكاميرا في غرفة نومهم.
تحديات مُعقدة:
يخضع البث الحي كغيره من أنماط المحتوى الرقمي للنصوص القانونية المنظمة لهذا النوع من المحتوى والجرائم التي تُرتكب من خلاله. كما أن الشركات الكبرى قامت بتطوير حلول لإدارته باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ونجحت بالفعل في تفسير المحتوى واستخراج البيانات الوصفية تلقائياً، وتوفير التحليلات الذكية وتمييز الأشكال والأشخاص، فضلاً عن تطوير أنظمة تعليم الآلات لضبط مشاهد التعري والدعاية الإرهابية وممارسات العنف. بيد أن تلك الحلول القانونية والتقنية ما زالت تواجه المزيد من التحديات التي قد تجعلها غير كافية، وهي ما يمكن إلقاء الضوء عليها كالتالي:
1- التدفق الهائل للبث المباشر: إذ إن ملايين المستخدمين يمكنهم استخدام سمة البث اللحظي التي شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات استخدامها بنسبة 55% خلال عام 2021. كما تمثل الفيديوهات المباشرة 20% من الفيديوهات المنشورة على فيسبوك، وفق إحصاءات Facebook for business. وهذا ما يُصعب عمليات إدارة المحتوى بالكفاءة والسرعة المطلوبتين، هذا بخلاف تفاعل المشاهدين بشكل مباشر ومشاركتهم له، مما يزيد الأمر انتشاراً وتعقيداً.
2- صعوبة تقييد المشاهدين: إن بث المحتوى غير المشروع مثل الجرائم أو الحض على الكراهية، هو أمر مجرم قانوناً، إلا أن بعض الفيديوهات قد تكون قانونية إجمالاً ولكنها ضارة بقطاعات معينة مثل الأطفال أو أصحاب الاعتلالات النفسية أو غيرهم من الفئات التي تستخدم المنصات الاجتماعية ولا يمكن استثناؤهم من مشاهدة البث. علاوة على المعوقات المتعلقة بتقنيات التحقق من العمر وكيفية التأكد من عمر المستخدم فعلاً، وسهولة التحايل على المنصات الاجتماعية في ذلك، بل إن بعض المستخدمين ينشئون لأطفالهم الحسابات بأنفسهم ويتركونهم يستخدمونها عبر أجهزتهم اللوحية بما لا يحظى بمتابعة أبوية جادة أو استخدام فعال لتقنيات حماية الأطفال الرقمية والتي لا تجد شعبية أو معرفة واسعة في كثير من الأحيان.
3- التكلفة الباهظة لإدارة البث المباشر: تستعين شركات التكنولوجيا بالمئات من مديري المحتوى – يصل عددهم إلى 15 ألف شخص حول العالم في شركة "ميتا" - فضلاً عن حلول الذكاء الاصطناعي، للقيام بمهام التتبع والمراقبة لمنع أية مخالفات. بيد أن توظيف هذه الأعداد الكبيرة له تكلفة لا يمكن أن تتحملها منصات البث المباشر الناشئة أو الأقل حجماً. كما أن حلول الذكاء الاصطناعي وبالرغم من قدرتها على توفير رقابة فعالة بتكلفة معقولة، فإن تلك التكلفة تتضاعف بالنظر لضخامة ساعات البث المباشر. وقد حاولت بعض الشركات التغلب على ذلك بالجمع بين التقنيات الآلية والبشرية، وكذلك الاعتماد على مؤشرات تنبيهية لملاحقة تدفق للبث الحي بعينه، كأن يحظى بمشاهدات كبيرة أو بلاغات من المتابعين. وهذا يعد أمراً شائكاً أيضاً بالنظر لاتباع معيار المشاهدة لضبط محتوى غير قانوني مقارنة بغيره، بالنظر إلى أن الجريمة هي جريمة حتى وإن كان عدد المشاهدين محدوداً، فالجرائم لا تتحقق بالنشر وإنما يفاقم الأخير من تبعاتها واتساع حجم المتضررين.
4- توظيف تقنيات التقاط متطورة: تزداد المخاطر القانونية للبث الحي بالنظر إلى توظيف بعض التقنيات الحديثة في التقاطه، والتي تعظم من مخاطره مثل "الدرون" والتي يمكن تسييرها بشكل آلي، بحيث تقدم زوايا تصوير تضع الخصوصية والأماكن غير الجائز تصويرها قانوناً أمام مخاطر حقيقية، لاسيما مع انخفاض تكلفة تلك المعدات وسهولة استخدامها عبر خطوات بسيطة دون الحاجة لتأهيل متقدم.
5- إجراءات ما بعد الرصد: ليس من الواضح تماماً ما ينبغي اتباعه حتى مع رصد بث مباشر يحض على الكراهية أو يتضمن إساءات وممارسات عنيفة أو غيرها من المضامين الضارة، إذ إن قرار قطع البث قد لا يكون صحيحاً في الأحوال كافة. فعلى سبيل المثال، فإن إتاحة مدة أطول لشخص مقدم على الانتحار للحديث المباشر قد يمنح المزيد من الوقت لإنقاذه، وكذلك الحال مع شخص يعنف طفلاً أو يتحرش بالنساء فإن عدة دقائق إضافية قد تقدم المزيد من الدلائل بشأن هوية الأشخاص الظاهرين في البث أو المكان الذي يوجدون فيه.
6- الصعوبات النوعية لإدارة البث الصوتي: تضع تطبيقات البث اللحظي القائمة على الصوت Live audio، تحديات إضافية أمام ضبط المحتوى، مثل تحديد هوية المتحدث فعلاً لاسيما في المحادثات الجماعية، واحتمالات استخدام ضوضاء للتشويش أو شن "الغارات الصوتية" عندما ينضم عدد كبير من المستخدمين أو برامج الروبوت إلى خادم في وقت واحد لأغراض تخريبية، فضلاً عن عدم اعتماد بعضها خاصية التسجيل بحيث تتعرض تلك المقاطع الصوتية للزوال ephemerality بما يحول دون ضبط المخالفة من الأساس، وهي الخصوصية التي رصدها باحثون من جامعة "كولورادو بولدر" الأمريكية في دراسة حالة لموقع Discord والتي ركزوا فيها على تحديات إدارة المحتوى بالمجتمعات الإلكترونية القائمة على الصوت Voice-based online communities.
حلول شائكة:
تتمتع غالبية دول العالم بأُطر قانونية منظمة للمحتوى الرقمي، بما في ذلك البث الحي عبر شبكة الإنترنت، كما تبتكر شركات التكنولوجيا حلولاً للتتبع وتعقد تحالفات وتدير مشروعات التطوير التي تعمل على تصميم تقنيات آلية تواكب التدفقات الهائلة المُنتجة بواسطة المستخدمين، فضلاً عن تطوير "المرشحات المتخصصة"؛ وهي تقنيات للفلترة الآلية تتخصص في محتوى بعينه، بحيث يمكن تطويرها وتعليمها بشكل أكثر كفاءة ودقة مثل "مرشحات المحتوى العاري" التي تتدرب على ضبط هذا النوع من المحتوى والتصرف بشأنه بالإخفاء أو التعتيم أو إضافة علامة تنبيه أو غيرها من الإجراءات المستهدفة.
بيد أن تلك الحلول القانونية والتكنولوجية تثير جدليات شائكة بشأن نجاعة المنهج المتبع وقدرته على حماية المجتمعات من دون الإخلال بالحقوق العامة أو مراعاة البُعد الإنساني لظاهرة قوامها التواصل بين البشر والتعبير عن حيواتهم. ويأتي في مقدمة ذلك، مخاوف انتهاك حرية الرأي والتعبير والتي ما تلبث أن تلاحق أية مقترحات قانونية للضبط والتنظيم، وهي ما تعد مخاوف مشروعة، إلا أنها في الوقت ذاته تؤكد أهمية صياغة وتطبيق الضوابط القانونية للمحتوى الرقمي في إطار من الحوار المجتمعي والمشاركة متعددة الأطراف، بالنص على كفالة حرية الرأي والتعبير داخل النصوص القانونية المنظمة، وإدماج الجهات المستقلة والمؤسسات التنظيمية غير الأمنية في عمليات التحقيق والمتابعة، فضلاً عن التعاون الإيجابي مع هذه المؤسسات في إدارة حوار مجتمعي لسن تلك التنظيمات القانونية من الأساس ومراقبة نزاهة تنفيذها.
ويرتبط بذلك أيضاً، التباين بين نجاعة التنظيم الذاتي القائم على استصدار الأدلة والتوعية بالقواعد وتعليم المستخدمين، والتنظيم العقابي الذي تمارسه مؤسسات إنفاذ القانون، وما إذا كان أي منهما كافياً. بيد أن التجارب المتقدمة تشير إلى أهمية الجمع بينهما وعدم قدرة أي منهما على حماية المجتمعات من انحراف الممارسات الرقمية. ففي بريطانيا، على سبيل المثال، تتوفر الأُطر القانونية اللازمة لضبط المحتوى الرقمي جنباً إلى جنب مع دليل البث الحي للمنصات الإلكترونية الذي توفره الحكومة البريطانية على موقعها ضمن قسم الإعلام والثقافة والرقمنة والذي يحدد إرشادات لمطوري تلك المنصات بشأن تصميم خيارات أكثر أماناً للبث المباشر وإدارة المخاطر المتوقعة، مع التوصية باستخدام تقنيات الأمان المؤتمتة أو التكنولوجيا الآلية لضبط المحتوى الضار وإزالته، ودعم ذلك بوسطاء بشريين مع التنويه بالحرص على عدم تقييد حرية المستخدمين في التعبير.
والأمر ذاته في أستراليا التي تفرض غرامات تصل إلى 60 ألف دولار أو السجن لمدة 5 سنوات على خرق حقوق الملكية الفكرية بالبث المباشر، إلا أنها أيضاً تخصص قسماً على موقع دليل المفوضية الحكومية للسلامة الرقمية يتضمن فوائد البث الحي وكذلك تحذيرات من مخاطره كصعوبة التراجع عما تم بثه وتأثيره في السمعة.
من ناحية أخرى، تثير عمليات المراقبة الآلية جدلاً آخر بشأن نجاعة الآلات في القيام بعمليات إدارة المحتوى بفعالية واستحالة مقايضة الإنسان بالآلة لاسيما في ظل تدفقات عالمية متنوعة الثقافات واللغات والسياقات، وهو ما يعزز منهجيات "المراقبة الهجينة" والتي تتبعها العديد من الشركات التكنولوجية. فعلى الرغم من القدرات الكبيرة للمراقبة الآلية من حيث حدود الاستيعاب والسرعة والتمييز، فإن المراقب البشري ما زال يتمتع بمزايا نوعية تجعل من الصعب التخلي عنه. وهذا ما أشارت إليه دراسات عديدة تم إجراؤها على فرق ضبط المحتوى مثل باحثين في "معهد نيوجيرسي للتكنولوجيا" عام 2022، واللذين أجروا دراسة على فرق المتطوعين لإدارة المحتوى على منصة "تويتش" Twitch، وأشاروا فيها إلى أن التواصل والعلاقات غير الرسمية بين المراقبين المتطوعين تُسهم في التعاون لأداء المهام ومعايير التطوير ومسؤوليات المراقب نفسه، وكذلك تكوينهم مجتمعات صغيرة لتطوير المعايير والتعامل مع المحتوى الضار.
ختاماً، تدرك شركات التكنولوجيا أن نمو صناعة المحتوى الرقمي، لاسيما المرئي، ومنه البث المباشر الذي يلقى رواجاً ملحوظاً، يتصل إلى حد كبير بضبط هذا المحتوى وموثوقيته، وهو ما يجعلها أكثر الأطراف حرصاً على تطوير تقنيات لإدارة المحتوى وتصميم منهجيات فعالة تجمع بين الآلة والإنسان بما يحقق التوازن المطلوب، وتكامل ذلك مع تقنيات التحقق من العمر وتحليل السلوك، وهو ما يأتي جنباً إلى جنب مع تنظيمات قانونية يتم وضعها ومراقبة تنفيذها دون إفراط وفي إطار من المشاركة المجتمعية، وكذلك استراتيجيات التوعية بين النشء والأسر، من أجل منهج تكاملي لمتابعة وضبط تلك التدفقات غير المتوقعة.