احتدمت الخلافات بشكل واضح داخل المكون السني في العراق بين تكتلي تقدم وعزم اللذين كونا تحالف السيادة واستطاعا به تشكيل وحدة تفاوضية خاضا بها معترك الأزمة السياسية، التي استمرت أكثر من عام بين نتائج الانتخابات التشريعية، في أكتوبر 2021، وتشكيل الحكومة برئاسة محمد شيّاع السوداني، في أكتوبر 2022. وبينما تعددت مظاهر هذه الخلافات وعواملها، فإن تداعياتها تبدو مؤثرة في مجمل المشهد السياسي في العراق، لاسيّما مع وجود مساع لإزاحة رئيس كتلة تقدم ورئيس مجلس النواب، محمد الحلبوسي، من رئاسة البرلمان.
شواهد ماثلة
ثمة شواهد برزت خلال الشهور الأخيرة منذ تشكيل حكومة السوداني تدلل بشكل واضح على الأزمة الناشبة في العلاقات بين طرفي التحالف السني المنضوي بدوره داخل تحالف إدارة الدولة الذي تمكن من التوافق بما سمح بإنجاز الاستحقاقات الدستورية المتمثلة في انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة. وتتمثل هذه الشواهد فيما يلي:
1- خلافات المناصب: بمجرد أن صوت مجلس النواب على اختيار محمد شيّاع السوداني مكلفاً بتشكيل الحكومة الجديدة، بدأت الخلافات في الظهور بين تكتلي تقدم وعزم ضمن تحالف السيادة السني على نصيب كل تكتل من الوزراء داخل الحكومة الجديدة.
وبينما كان تحالف السيادة يتفاوض مع بقية الكتل السياسية الشيعية والكردية فيما سبق ذلك ككتلة سنية واحدة، ما لبث أن بحث كل تكتل عن مصالحه الخاصة في مرحلة جني الثمار، وهو الأمر الذي كان سبباً في تأخر الإعلان عن التشكيلة الحكومية، واستغراق الأمر نحو أسبوعين على الرغم من أن كافة تفاصيل هذه المرحلة كان الفرقاء قد اتفقوا عليها داخل تحالف إدارة الدولة قبل الولوج في المرحلة التنفيذية، وذلك ما عبرت عنه تصريحات بعض الساسة الشيعة في هذا التوقيت بأن تأخير تشكيل الحكومة كان بسبب خلاف بين التكتلين السنيين وحُل هذا الخلاف بإعطاء تكتل عزم وزارة سيادية على أن يحصل تكتل تقدم على وزارتين من غير الوزارات السيادية. وانتقل هذا الخلاف إلى مرحلة جديدة داخل مجلس النواب نفسه بالتنازع على رئاسة اللجان النيابية مع بداية الفصل التشريعي الثاني في يناير 2023.
2- انشقاقات واتهامات: اتهم النواب المنتمون إلى تكتل عزم، بالإضافة إلى بعض النواب المنتمين إلى تكتل تقدم، رئيس التكتل ورئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، بديكتاتورية اتخاذ القرار داخل الحزب، واستخدامه منصبه كرئيس للبرلمان لتصفية حسابات مع خصومه، أو منافسيه، سواءً داخل الحزب، أو داخل التحالف بوجه عام.
ومثّل قرار الحلبوسي الصادر يوم 15 يناير 2023 بقبول الاستقالة من البرلمان التي تقدم بها في وقت سابق النائب ليث الدليمي، الذي سبق وأن فصله الحلبوسي من عضوية حزب تقدم بسبب "عدم التزامه بتوجيهات قيادة الحزب" وانضم بعدها إلى "عزم"، الشاهد الأبرز على الخلافات التي تندرج في هذا الإطار، إذ وصفه تحالف عزم في بيان رسمي بأنه "سلوك استبدادي وديكتاتوري فاضح ضد مكانة عضوية مجلس النواب التي منحت بإرادة الشعب وصوته، وطريقة انتقامية وغير مسؤولة ضد المخالفين له بالرأي السياسي"، وأضاف البيان أن الحلبوسي استند إلى "استقالة ابتزازية مسبقة غير قانونية وغير مؤرخة ولا يعتد بها"، مؤكداً أن "الوقت قد حان لتصحيح مسار قيادة السلطة التشريعية"، في إشارة إلى إمكانية تحرك "عزم" لإقالة الحلبوسي من منصبه خلال الفترة المقبلة. يضاف إلى ذلك إعلان النائب عن محافظة ديالى، رعد الدهلكي، انسحابه من تحالف السيادة وحزب تقدم لما وصفه بأنه "أسباب جوهرية تتعلق بالجانب السياسي واستحقاقات محافظة ديالى، والتفرد ودكتاتورية القرار السياسي داخل حزب تقدم". وهي الوقائع التي زادت الضغوط على رئيس البرلمان محمد الحلبوسي من جانب الحلفاء والخصوم، فيما حاول الحزب الدفاع عن نفسه في ذلك عازياً انسحاب الدهلكي إلى رغبته في رئاسة لجنة النزاهة بالبرلمان وعدم موافقة قيادة الحزب على ذلك.
3- فشل اجتماعات التوافق: على وقع هذه الخلافات والأزمات داخل المكون السني، وتحديداً بين الحلبوسي وبقية حلفائه، عُقدت مجموعة من الاجتماعات داخل تحالف السيادة في سعي لرأب الصدع والوصول إلى حالة التوافق التي كانت سائدة قبل تشكيل الحكومة، بيد أن جُل هذه الاجتماعات لم تنجح في تحقيق أهدافها، ومنها الاجتماع الذي عُقد يوم 18 يناير 2023 للهيئة القيادية لتحالف السيادة بقيادة الحلبوسي وخميس خنجر بعد أيام من أزمة قبول استقالة النائب ليث الدليمي، ولكنه لم يسفر عن أي تقدم يذكر في هذا الإطار، وأرجئت هذه الخلافات إلى اجتماعات أخرى، من دون تدارك مواطن الخلاف الأساسية حتى الآن.
عوامل الأزمة
يقف وراء ظهور هذه الخلافات في صفوف المكون السني في العراق عوامل ومسببات عدة يرتبط بعضها بعوامل بنيوية في تأسيس التحالف بين طرفي تحالف السيادة الرئيسين، وأخرى مرتبطة بعوامل مستجدة في المشهد السياسي في العراق. ويمكن إجمالها فيما يلي:
1- تباين المصالح: كان تشكل تحالف السيادة بين "تقدم" و"عزم" فيما بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في أكتوبر 2021 وانتهت إلى حصول تحالف تقدم على 37 مقعداً، وتحالف عزم على 34 مقعداً حدثاً استثنائياً ومحورياً في مسيرة العمل السياسي السني في العراق منذ 2003؛ إذ كان تشكل هذا التحالف المرة الأولى التي يجتمع فيها الفرقاء السنة في تحالف واحد يتفاوض مع بقية القوى والأحزاب السياسية في الاستحقاقات المختلفة.
وعلى الرغم مما سبق، فإن هذا التحالف لم يقم على أسس استراتيجية متينة توفر له مقومات الاستمرار والبقاء، ولذلك بعد أن انقضت الحاجة التي دعت إلى تشكيله وهي تنفيذ الاستحقاقات الدستورية المتمثلة في انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة عادت الخلافات العميقة بين طرفيه الأساسيين وتباين المصالح ليتصدرا المشهد في مرحلة جني الثمار، وهو ما ظهر في الخلافات على الحصة الحكومية أو رئاسة اللجان النيابية أو في تعيين المسؤولين التنفيذيين في المحافظات.
وينطبق ذلك الأمر على كل المكونات التي انضوت تحت تحالف إدارة الدولة الذي شكّل حكومة محمد شيّاع السوداني، إذ ما انفكت كل هذه المكونات تعود إلى سابق خلافاتها البينية، سواءً ما يحدث داخل المكون الكردي بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، أو داخل الإطار التنسيقي للقوى الشيعية صاحب الأغلبية النيابية بعد انسحاب التيار الصدري.
2- التنافس المناطقي: يُعزى الخلاف السني – السني في أحد جوانبه إلى التنافس بين تحالفي عزم وتقدم على النفوذ داخل المناطق السنية، وهو ما يفسر الصراع بين أقطابهما على المناصب التنفيذية داخل هذه المحافظات، لاسيّما وأن تحالف تقدم كان يمتلك حضوراً قوياً داخل المحافظات والمناطق السنية، الأمر الذي أهله للفوز بأغلبية المقاعد السنية داخل البرلمان، وهو ما يراه قادة تحالف عزم الآن غير مناسب للدور الذي أداه في معادلة المشهد السياسي الراهنة، ومن ثم لا يمكنه التسليم بنفوذ تحالف تقدم ورئيسه محمد الحلبوسي في هذه المناطق، لاسيّما مع قُرب إجراء الانتخابات المحلية لمجالس المحافظات المزمعة في أكتوبر 2023، والتي تعكس بشكل كبير التمثيل الحقيقي للأحزاب والقوى السياسية داخل المحافظات، وخاصة إذا ما وُضعت هذه الانتخابات في سياق أن انتخابات تشريعية مبكرة يُفترض إجراؤها، ولذلك يسعى كل طرف إلى كسب نفوذ أكبر داخل المناطق والمحافظات عن طريق رفع مطالبه، بالإضافة إلى محاولة تحالف عزم استغلال الانشقاقات الدائرة داخل تحالف تقدم لكسب نوابه إلى صفوفه لاستغلال شعبيتهم في محافظاتهم خلال الانتخابات المقبلة، بما يشكل خريطة تحالفات سنية جديدة.
3- العامل الشيعي: لمّا كان تشكل تحالف سني موحد بعد الانتخابات الأخيرة حدثاً استثنائياً في العملية السياسية في العراق منذ 2003، وكان هذا التحالف السني جزءاً من تحالف إنقاذ وطن الذي شكّله زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر بعد الانتخابات بهدف تغيير التقليد السياسي المتبع في العراق منذ 2003 وتشكيل حكومة أغلبية وطنية بعيداً عن المحاصصات الطائفية؛ يصبح عدم تكرار مثل هذا التحالف هدفاً أساسياً للقوى الشيعية في العراق لعدم تكرار تجربة الجمود السياسي الأخيرة، والتي استمرت أكثر من عام تقريباً.
ولذلك عملت قوى شيعية على إذكاء الخلافات في صفوف التحالف السني وكذلك التحالف الكردي بما يضمن استمرار بنية الحكم قائمة. وربما تمثلت هذه التدخلات بالمماطلة في تنفيذ ما تعهدت به القوى الشيعية للقوى السنية والكردية داخل تحالف إدارة الدولة في مفاوضات ما قبل إنجاز الاستحقاقات الدستورية، لاسيّما وأن الحاجة التي دعت القوى الشيعية إلى تقديم هذه التعهدات قد انقضت بإنجاز الاستحقاقات، فضلاً عن التصريحات التي تدعم تحالف عزم في مواجهة تحالف تقدم الذي يرأسه الحلبوسي، ومنها تصريحات القيادي بائتلاف دولة القانون، كاظم الحيدري، بأن الإطار التنسيقي للقوى الشيعية سيدعم مطالب المكون السني إذا ما أفضت إلى أي قرارات موحدة باتجاه تغيير رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، أو إعفائه.
وفي الختام، أدى عدم استراتيجية التحالفات التي تأسست في العراق بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة، وخاصة التحالفات السنية والكردية، وقيامها على أهداف براغماتية بشكل أساسي إلى سرعة نشوب الخلافات داخل هذه التحالفات بما ينذر باحتمالات تفككها، بما قد يؤدي إلى عدم استقرار داخل أركان حكومة محمد شيّاع السوداني خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الحادة التي يواجهها العراق في ضوء ارتفاع سعر صرف الدولار. ويبقى أمر إعفاء محمد الحلبوسي من رئاسة البرلمان رهناً بتوافقاته مع القوى الشيعية والكردية وما قد يجري من جهود وساطة لتخفيف حدة الخلاف بين القوتين السنيتين بما يضمن عدم تفكك تحالف إدارة الدولة.