أجرى وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، جولة خارجية في المنطقة لافتة من حيث التوقيت، شملت بيروت ودمشق وأنقرة، إذ قام بزيارته الأولى، في 13 يناير 2023، لتعقبها زيارتان مفاجئتان لدمشق وأنقرة في 14 و17 يناير 2023، على التوالي. وتجدر الإشارة إلى أن زيارة عبداللهيان إلى أنقرة جاءت محل الزيارة الملغاة، التي كان من المفترض أن يقوم بها إلى موسكو في اليوم نفسه للقاء وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، وهي الزيارة التي أعلنت موسكو عن تأجيلها.
أهداف إيرانية حيوية:
بناء على السياقات التي جرت في إطار القمة على المستويات الداخلية في إيران والإقليمية والدولية، يمكن استقراء مجموعة من الأهداف التي تسعى إيران إلى تحقيقها من خلال هذه الزيارات الخارجية اللافتة، ومن هذه الأهداف ما يلي:
1- تجاوز الاحتجاجات الداخلية: فرضت الاحتجاجات التي اندلعت داخل إيران إثر مقتل الفتاة مهسا أميني، في سبتمبر 2022، وتمددت لتشمل أغلب المحافظات الإيرانية، خاصة تلك المحافظات ذات الأغلبية الكردية حالة من الانشغال الإيراني بالوضع الداخلي، وهو ما انعكس سلباً على تحركاتها الخارجية، إلا في حدود ضيقة للغاية، خاصة أن هذه الاحتجاجات استغلتها الدول الغربية لممارسة ضغوط شديدة على النظام الإيراني، بالإضافة إلى فرض موجات إضافية من العقوبات ضد طهران، فضلاً عن تعليق مباحثات فيينا لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة بشأن البرنامج النووي الإيراني.
وأسهم ما سبق في تعميق الانكفاء الإيراني على الأوضاع الداخلية، حتى أن تحركاتها الخارجية البارزة اقتصرت في معظمها على العراق وارتبطت بشكل أو بآخر بمصالحها الحيوية، سواء فيما يتعلق بالعملية السياسية في بغداد والخلاف بين الإطار التنسيقي للقوى الشيعية والتيار الصدري، أو تلويح طهران بعمليات عسكرية ضد إقليم كردستان العراق ارتبطت بما رأته طهران من دعم قدمته الأحزاب الكردية الإيرانية الموجودة في أراضي الإقليم للاحتجاجات في الداخل الإيراني.
ولذلك استهدفت الجولة الأخيرة لوزير الخارجية الإيراني التأكيد أن الاحتجاجات الداخلية لم تثنِ طهران عن الاتصال بالعالم الخارجي والاشتباك مع قضايا الإقليم، لا سيّما تلك التي ترتبط بشكل أساسي بأمنها واستراتيجيتها بعيدة المدى.
2- مواكبة التطورات الإقليمية: تمثل مناقشة التطورات السريعة الجارية في سوريا ولبنان هدفاً أساسياً للجولة التي أجراها وزير الخارجية الإيراني، حسبما قال عبد اللهيان قبل مغادرته طهران، ويقع في مقدمة هذه التطورات التي تسعى طهران إلى مواكبتها في سوريا، خاصة فيما يتعلق بمحاولات التقارب مع تركيا، وذلك بعد اللقاء الذي جمع وزراء دفاع ورئيسي استخبارات البلدين بحضور وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويجو، في موسكو، في 28 ديسمبر 2022، وذلك بالنظر إلى أن تقارباً على هذا المستوى بين دمشق وأنقرة قد يحمل في طياته تأثيرات سلبية على إيران وحضورها السياسي والاقتصادي والعسكري داخل سوريا.
ويلاحظ أن موسكو نجحت في التقريب بين دمشق وأنقرة في غياب طهران، وهو أمر لا يبدو مستغرباً بالنسبة للسياسة الروسية في سوريا، خاصة فيما يتعلق بإيران؛ إذ أقدمت موسكو كثيراً على تفضيل التنسيق الثنائي مع تركيا من خلال اتفاقات واجتماعات سوتشي وغيرها على الوصول إلى اتفاقات ثلاثية من خلال مسار أستانا الذي يجمع الدول الثلاث.
ولذلك عمدت إيران من خلال زيارة كبير دبلوماسييها إلى دمشق وأنقرة تحديداً أن تكون في صلب هذه التطورات، وبما يحول دون تهميشها أو إقصائها منها، حتى لا ينعكس ذلك سلباً على حضورها ونفوذها داخل سوريا، وبما لا يؤثر على علاقتها بكل من روسيا وتركيا التي من المزمع أن يجري الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي زيارة إليها، بالإضافة إلى سوريا.
3- تنسيق محور المقاومة: جاءت زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى لبنان حافلة بلقاءات تتعلق بمحور المقاومة وملفاته بشكل أساسي، بجانب ملفات أخرى، ومنها اللقاء الذي عقده مع الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، زياد نخالة، في اليوم نفسه، وهو 13 يناير 2023.
ويُنظر إلى هذين اللقاءين بوصفهما جزءاً من تخطيط إيران وجاهزيتها للتطورات الجارية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية من جانب، والتصعيد بين إسرائيل وإيران من جانب آخر، خاصة مع تولي الحكومة الأشد يمينية في تاريخ إسرائيل برئاسة بنيامين نتنياهو الحكم، وما تقدم عليه هذه الحكومة من ممارسات تمس المقدسات الإسلامية في القدس، بالإضافة إلى أنها قد وضعت التصدي لبرنامج إيران النووي على رأس أولوياتها، ما قد يفتح الباب لتصعيد محتمل بسبب أي من الملفين.
رسائل عبداللهيان الإقليمية:
تتمثل الرسائل التي سعت طهران إلى إرسالها من وراء الزيارات الثلاث في التالي:
1- استئناف المفاوضات النووية: على الرغم مما أصاب مفاوضات فيينا حول البرنامج النووي الإيراني من تعقيد وعرقلة جراء التطورات الأخيرة، خاصة مشاركة إيران في الحرب الروسية – الأوكرانية من خلال دعمها موسكو بالطائرات المسيرة، وما تبع ذلك من تنديد وعقوبات غربية، فإن إيران عبرت غير مرة عن رغبتها في استئناف المفاوضات، ومنها ما قاله عبد اللهيان، في 28 ديسمبر 2022، إن "نافذة المفاوضات النووية مازالت مفتوحة، لكنها لن تبقى كذلك إلى الأبد".
ويشير ما سبق بوضوح إلى أن من الرسائل المهمة التي أرادت طهران توجيهها إلى المفاوضين الغربيين من خلال زيارة لبنان وسوريا تحديداً، هي أن التأثير الإيراني في الملفات الإقليمية لا يزال ممتداً، وأن هذه الملفات لا تزال تشكل جزءاً أساسياً من أوراق التفاوض التي تمتلكها طهران وبإمكانها التلويح بها واستخدامها في أي وقت، وأن رغبتها في استئناف مفاوضات فيينا ليست نابعة من موقف ضعف، وإنما من موقع قوة، وهو ما يشير إليه كذلك إقدامها على تنفيذ حكم الإعدام بحق نائب وزير الدفاع السابق، علي رضا أكبري، بتهمة التجسس على الرغم من الضغوط الدولية كونه يحمل الجنسية البريطانية.
2- ثبات النفوذ في لبنان: أرسلت إيران من خلال زيارة وزير خارجيتها إلى لبنان ولقاءاته بكل من الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ووزير الخارجية، عبد الله بوحبيب، ورئيس الوزراء، نجيب ميقاتي، رسائل متعددة تتعلق بلبنان لكل من الداخل والخارج، إذ إنه داخلياً تعطي الزيارة رسالة للفاعلين الداخليين بدعم إيران اللا محدود لخيارات حزب الله في الملفات اللبنانية العالقة، خاصة ملف الفراغ الرئاسي بوصفها خيارات إيرانية في الأساس، وهو ما يظهر بشكل واضح في تصريح عبد اللهيان بأن "الجمهورية الإسلامية ستبقى راسخة في موقفها الداعم والمؤازر والمحتضن للجمهورية اللبنانية الشقيقة وشعبها وجيشها ومقاومتها"، وهو ما يمثل دفعة قوية لحزب الله. أما خارجياً فأعطت الزيارة رسالة للقوى الخارجية المعنية بلبنان بأن إيران جزء أصيل من التفاهمات الخاصة بالبلاد، وذلك رداً على ما تقوم به باريس من ترتيبات لعقد اجتماع دولي بشأن لبنان.
3- محورية الدور الإيراني في سوريا: لم تخف إيران على المستويات الرسمية والإعلامية انزعاجها من التقارب السوري – التركي وتعمد تهميشها في هذا السياق، وهو ما انعكس في الضغوط التي مارستها طهران على دمشق، كما وضح فيما ذكرته مصادر أمريكية أن إيران قررت الحد من تزويد سوريا بالوقود بأسعار مخفضة، إذ أرادت طهران التأكيد لدمشق أن مثل هذا التطور لا يمكن أن يتم من دون وجود دور وموافقة إيرانية.
ولذلك، سبق زيارة عبد اللهيان إلى دمشق اتصال هاتفي بين عبد اللهيان ونظيره السوري، فيصل المقداد، أعقبته زيارة لأيمن سوسان، مساعد وزير الخارجية السوري إلى طهران يوم 10 يناير 2023 لمحاولة لملمة الخلاف الناشب بين طهران ودمشق بسبب استبعاد طهران من هذه التطورات.
ومن هنا قد تفهم تصريحات الرئيس السوري، بشار الأسد، في 12 يناير 2023، ثم تصريحات وزير الخارجية، فيصل المقداد، بأن التقارب مع تركيا يجب أن يقوم على أسس إنهاء الاحتلال ومكافحة الإرهاب، وهو تشدد ربما جاء بضغط من طهران، ويدعم ذلك تصريح، علي أصغر حاجي، كبير مستشاري الخارجية الإيرانية يوم 17 يناير 2023 بأن الملف السوري لا يمكن حله من دون وجود إيران، وذلك بالتزامن مع زيارة عبداللهيان إلى أنقرة.
وفي الختام، أرادت إيران من خلال جولة وزير خارجيتها التي شملت لبنان وسوريا وتركيا أن تضع نفسها بعد أشهر من الانشغال بأوضاعها الداخلية على أثر الاحتجاجات في موقع متقدم من التطورات الجارية في الشرق الأوسط، خاصة في المناطق التي تعدها مناطق نفوذها الأساسية، والتأكيد للأطراف الإقليمية والدولية، على السواء، أن هذه الاحتجاجات لا تشغلها عن تحقيق أهدافها الاستراتيجية الأساسية في المنطقة، ولا يمكن أن تمثل عامل ضغط خارجي مؤثر عليها في الملفات الإقليمية الحيوية بالنسبة لها.