ثمة أزمة مُعقدة تشهدها الساحة العراقية مع وجود "انسداد سياسي" أعاق تشكيل الحكومة المقبلة، على الرغم من مُضي ما يقرب من ثمانية أشهر على إجراء الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2021، وما رافقها من عزوف في المشاركة حتى أنها تُعد الأقل من حيث الإقبال مقارنةً بالدورات الانتخابية الأربع السابقة. وتبع هذه الانتخابات اعتراضات على نتائجها، وادعاءات من قِبل عدة قوى سياسية خاسرة أو لم تُحقق ما كانت تطمح إليه من مقاعد بأنها "انتخابات مزورة"، وأنه تم التلاعب في نتائجها من جهات محلية وإقليمية، كما يدّعون.
وقد أظهرت نتائج هذه الانتخابات فوز الكتلة الصدرية بأكثر عدد من المقاعد في البرلمان (73 مقعداً)، وتحالف زعيمها مقتدى الصدر مع القوى السياسية السُنية بزعامة محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان الحالي، ومع الحزب الديمقراطي الكردستاني المُتصدر في عدد مقاعده للقوى السياسية الكردية، ليظهر ما يُسمى بـــ "التحالف الثلاثي" الذي ذهب نحو تشكيل "حكومة أغلبية وطنية"، لكنه لم يفلح في ذلك. لذا جاء إعلان التيار الصدري، يوم 15 يونيو 2022، انسحابه من العملية السياسية عقب موافقة رئيس البرلمان العراقي، الحلبوسي، على استقالة نوابه الـ 73.
ومن هنا تُثار عدة تساؤلات من قبيل كيف تمت عملية انسحاب التيار الصدري وممثليه من البرلمان والعملية السياسية؟ وما الأسباب الكامنة وراء هذا الانسحاب؟ وما انعكاسات وتداعيات هذه الخطوة؟
انسحابات مُتكررة:
من خلال متابعة المسيرة السياسية للتيار الصدري، يمكن القول إن عملية الانسحاب هي عبارة عن أداة أو سياسة يتبعها بين الحين والآخر وفي أغلب مراحل تطورات العملية السياسية في العراق. وحتى لا نذهب بعيداً في تاريخ انسحابات التيار الصدري، من المهم أن نركز على انسحاباته التي رافقت تطورات الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2021، حيث إن التيار، وعلى لسان زعيمه مقتدى الصدر، سبق وأن أعلن في يوليو 2021 مقاطعته للانتخابات وعدم المشاركة فيها. كما تم الإعلان عن عدم دعم أي حزب في الانتخابات البرلمانية المُبكرة، وتم غلق الهيئة السياسية للتيار الصدري؛ ولكن لم يتم التنفيذ الفعلي للانسحاب، لأن الإجراءات الرسمية للانتخابات كانت قد حُسِمت، وبالتالي عدل التيار الصدري عن الانسحاب، وعاد للمشاركة الفاعلة في الانتخابات الماضية.
أما الانسحاب الثاني فقد جاء في مارس 2022 عندما أعلن مقتدى الصدر انسحابه مع كتلته من مفاوضات اختيار رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وقرر - حسب تعبيره - فسح المجال أمام خصومه من القوى السياسية المُشكلة "للإطار التنسيقي" من أجل التفاوض لتشكيل الحكومة. وقال الصدر: "كي لا يبقى العراق بلا حكومة وتتردى الأوضاع الأمنية والاقتصادية والخدمية وغيرها، ها أنا أعطي (الثُلث المُعطل) فرصة للتفاوض مع جميع الكتل بلا استثناء لتشكيل حكومة أغلبية وطنية من دون الكتلة الصدرية، ومن أول يوم في شهر رمضان إلى التاسع من شهر شوال".
ثم جاء الانسحاب الأخير عندما أعلن المكتب الإعلامي للتيار الصدري، في بيان له يوم 9 يونيو 2022، أن نواب الكتلة الصدرية في البرلمان قد وصلوا إلى مقر زعيم التيار في النجف، وتم توقيع استقالاتهم من مجلس النواب، ووضعها تحت تصرف مقتدى الصدر، الذي قرر تقديم هذه الاستقالات بشكل رسمي. وأعلن رئيس المجلس، محمد الحلبوسي، يوم 12 يونيو الجاري، قبول هذه الاستقالات، وذكر في تغريدة له: "نزولاً عند رغبة السيد مقتدى الصدر، قبلنا على مضض طلبات إخواننا واخواتنا نواب الكتلة الصدرية بالاستقالة من مجلس النواب العراقي". ليعلن بعدها مكتب الصدر إغلاق جميع المؤسسات التابعة للتيار باستثناء 6 مؤسسات تبقى عاملة في الوقت الراهن.
وعلى الرغم من ذلك كله، فإن ثمة رأياً قانونياً يذهب إلى إمكانية العدول عن هذه الاستقالات خلال مدة 30 يوماً من تاريخ تقديم طلب الاستقالة. كما أن هناك من ذهب إلى عدم قانونية الاستقالات، على اعتبار أنه وفقاً للقوانين المعنية يجب ألا تقل مدة العضوية في البرلمان عن سنة واحدة حتى يتم قبول استقالة العضو في حال تقدم بها. وبالتالي فإن تقديم استقالات أعضاء الكتلة الصدرية تكون قانونية فقط بعد تاريخ 28 فبراير 2023؛ أي بعد مرور عام كامل على مباشرة أعضاء مجلس النواب عملهم التشريعي.
دوافع عديدة:
لم تكن انسحابات الصدر المُتكررة من دون أسباب، سواء كانت "أداة ضغط" على منافسيه وخصومه من القوى السياسية الشيعية، أو "مناورة سياسية" تهدف إلى تحقيق مكاسب له في ماراثون التفاوض لتشكيل الحكومة المقبلة. ويمكن إيجاز هذه الأسباب والدوافع فيما يلي:
1- "مبررات صدرية" لإنقاذ العراق: تتمثل في الأسباب التي أعلنها مقتدى الصدر، والتي لخصها في أنها "تخليص الوطن من المصير المجهول"، فضلاً عن رفضه أن يشترك في حكومة مع من يعتبرهم "ساسة فاسدين"، حيث قال: "صار علي ألا أشترك معهم ليعود العراق لقمة للتوافق والفساد والتبعية". كما أن التيار الصدري يسعى إلى تشكيل "حكومة أغلبية وطنية"، وهو الأمر الذي لم يستطع تحقيقه في ظل إصرار قوى "الإطار التنسيقي" على تشكيل "حكومة توافقية"، لذا وجه الصدر انتقاداته لهم، مؤكداً أن "إصلاح البلد لن يكون إلا بحكومة أغلبية وطنية".
2- صعوبة تشكيل "حكومة الأغلبية": في الواقع وجد التيار الصدري نفسه في موقف سياسي لم يستطع من خلاله تشكيل الحكومة التي يسعى إليها؛ وهي "حكومة الأغلبية" مع حلفائه من "تحالف السيادة" بزعامة محمد الحلبوسي، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني. إذ لم يتمكن هذا التحالف من تحقيق النصاب الدستوري المُتمثل في ضرورة حضور ثُلثي عدد أعضاء مجلس النواب أي ما يقرب من 220 عضواً من مجموع 329، وذلك على الرغم من مُضي ما يقرب من 8 أشهر على إجراء الانتخابات، وعقد عدة جلسات لمجلس النواب فشلت في تحقيق النصاب المطلوب لاختيار رئيس الجمهورية.
3- حلحلة "الانسداد السياسي": أيقن التيار الصدري أن العملية السياسية تمر بحالة من الجمود والانسداد، وهذا سببه إصرار كلٍ من طرفي المشهد؛ "التحالف الثلاثي" من جهة، و"الإطار التنسيقي" من جهة أخرى، على مطالبه. فالأول يريد "حكومة أغلبية"، والثاني يريد "حكومة توافقية". وهذا الأمر لم يكن يجد حلاً من دون حدث كبير أو تحرك يخلخل عناصر هذا الانسداد. ولعل انسحاب الكتلة الصدرية وإدراك الأطراف الأخرى لمدى خطورته على العملية السياسية والوضع العام المتأزم، هو التحرك المناسب الذي قد يعالج حالة الانسداد السياسي الراهنة، من وجهة نظر الصدر.
4- "مناورة سياسية" للصدر: قد تبدو خطوة مقتدى الصدر بالانسحاب مناورة سياسية اعتاد على استخدامها خلال ممارسته للعملية السياسية في مرحلة ما بعد عام 2003. والانسحاب الراهن لا يبتعد عن مشاهد الانسحابات السابقة، حيث يسعى التيار الصدري حالياً إلى إعادة منافسيه وخصومه إلى طاولة مفاوضات تشكيل الحكومة وبما يحقق مصالحه.
انعكاسات مُتوقعة:
لا شك أن خطوة انسحاب التيار الصدري ونوابه من البرلمان، وفي حالة ثبوتها وإصرار الصدر عليها، فإنها بالتأكيد ستترتب عليها انعكاسات وتداعيات جمة على العملية السياسية في العراق خلال المرحلة الراهنة، وعلى تشكيل الحكومة المُقبلة بشكل خاص، وذلك من عدة نواحي، هي كالتالي:
1- العودة إلى "الحكومة التوافقية": في حال خروج التيار الصدري من المشهد السياسي وإتمام عملية انسحابه من تشكيل الحكومة، ستتصدر المشهد قوى "الإطار التنسيقي" التي أصرت على تشكيل "حكومة توافقية".
2- تصدر "القوى التقليدية": تراجعت القوى التقليدية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وهي تتمثل في حزب الدعوة ومنظمة بدر وغيرها من القوى السياسية التي ظهرت في تحالفات مثل ائتلاف دولة القانون، وتحالف الفتح، وصادقون، والعقد الوطني، وغيرها. وبانسحاب التيار الصدري، ستؤول مقاعد نوابه المُستقيلين إلى أعلى الخاسرين في دوائرهم؛ ما يعني أن أغلب النواب الجدد سيكونون من "الإطار التنسيقي" الذي قد يصل عدد نوابه إلى 140، وفقاً للتقديرات الأولية.
3- تحريك الشارع الشيعي: عقب إعلان مقتدى الصدر انسحابه من العملية السياسية واستقالة نوابه، أطلق أنصاره "وسماً" على مواقع التواصل الاجتماعي يفيد بجاهزيتهم للنزول إلى الشارع والتظاهر. وهناك تقارير رصدت تجهيز الخيم للاعتصامات والاحتجاجات المفتوحة في بغداد وعدد آخر من المحافظات، استعداداً لمستجدات الساحة السياسية أو ما يمكن أن يصدر عن قوى "الإطار التنسيقي" ضد الصدر وأتباعه.
4- تزايد حدة الصراع السياسي: أحد أسباب انسحاب التيار الصدري هو احتدام الصراع بينه وبين منافسيه من القوى السياسية التقليدية، لاسيما الخلاف بين مقتدى الصدر ونوري المالكي. إذ أصر الصدر على عدم مشاركة المالكي في أي حكومة يشكلها قبل إعلان انسحابه، الأمر الذي قد ينذر بتفاقم حدة الصراعات في حال تشكيل الحكومة الجديدة التي قد يكون للمالكي الدور الأكبر فيها، إن لم يكن هو المرشح الأساس لرئاستها.
5- ترسيخ "المحاصصة الطائفية": كانت المؤشرات في العراق تتجه صوب تراجع المحاصصة الطائفية، ونحو تشكيل "حكومة أغلبية وطنية" بمشاركة عدد من القوى السياسية الفائزة، وتحول القوى الأقل إلى صفوف المعارضة، ما يعني إمكانية التأسيس لعملية سياسية صحيحة نوعاً ما. ولكن بانسحاب التيار الصدري وانتهاء مشروع "حكومة الأغلبية"، ستؤول الأمور من جديد إلى مربعها الأول القائم على المحاصصة والتوافقية.
ختاماً، يمكن القول إن الوقت ما زال مُبكراً للإقرار بانسحاب التيار الصدري فعلياً من العملية السياسية في العراق؛ كون تجارب انسحاباته السابقة كلها أفضت إلى العدول عن ذلك، والعودة إلى المشاركة السياسية. وقد لا يختلف الانسحاب هذه المرة عن القرارات السابقة، بيد أن ما قد يختلف هنا هو أن انسحابات الصدر السابقة كانت من الحكومة وكان أعضاؤه يستمرون في البرلمان، ولكن هذه المرة الانسحاب من العملية السياسية برمتها، والذي إن تحقق سيكون له انعكاسات مستقبلية عديدة على الأوضاع الداخلية في العراق؛ من حيث احتمالات تحريك الشارع واستخدام أداة الاحتجاجات، والتأزيم والصراع السياسي، وحتى احتمالية استخدام الأدوات العنيفة في الصراع بين التيار الصدري والقوى المنافسة له في ظل امتلاك كل منهما فصائل مسلحة قد يحدث الصدام بينها.
وعلى الصعيد الخارجي، فإن الحكومة العراقية المُقبلة لو شكلتها قوى "الإطار التنسيقي"، فإنها ستكون أقرب إلى إيران، وربما ستتراجع علاقات العراق مع محيطه العربي بعد أن تحسنت منذ حكومة حيدر العبادي وعززتها حكومة مصطفى الكاظمي، فضلاً عن ابتعاد "الإطار التنسيقي" عن تعزيز العلاقات العراقية – الأمريكية؛ وهو أمر قد يربك علاقات بغداد الدولية، ويؤثر سلباً على وضع البلاد الداخلي، لاسيما الأمني، لأن الولايات المتحدة والتحالف الدولي هم المسؤولون عن جهود مكافحة الإرهاب في العراق.