توصلت الحكومة الفيدرالية والجبهة الشعبية لتحرير تيجراي إلى هدنة إنسانية في 25 مارس، وهو أحدث اتفاق توصل إليه الجانبان لوقف إطلاق النار منذ اندلاع الأعمال العدائية في نوفمبر 2020. ولم تكن هذه المرة الأولى التي تم الإعلان فيها عن الهدنة، حيث سبق وأن أعلن رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، وقف إطلاق النار من جانب واحد لأول مرة في يونيو 2021، لكن المتمردين طالبوا آنذاك بانسحاب القوات الحكومية من أراضيهم قبل إعلان قبولهم وقف إطلاق النار.
ويبدو أنه تحت الضغوط الدولية المتزايدة، اتفق الجانبان على احترام الهدنة لتسهيل إيصال المساعدات إلى الملايين الذين يحتاجون إليها، خاصة في ظل معاناة إقليم تيجراي من أزمة مجاعة، في ظل الحصار الذي تفرضه القوات الحكومية على الإقليم، وفي المقابل، تخلى أبى أحمد عن سعيه لاستعادة تيجراي.
ولاقى إعلان الهدنة الإنسانية ترحيباً من قبل عدد من المنظمات الدولية والإقليمية، بالإضافة إلى العديد من الدول، مثل تركيا، والولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، فضلاً عن الاتحادين الأوروبي والأفريقي.
دوافع الهدنة الإنسانية:
تعددت الدوافع المختلفة التي أسهمت بشكل أساسي في قبول الطرفين للرضوخ لإعلان هدنة إنسانية، والتي تراوحت بين دوافع خارجية وعوامل داخلية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- ضغوط دبلوماسية أمريكية: شهدت إثيوبيا ضغوطاً دبلوماسية مكثفة في الفترة الأخيرة، والتي تبلورت في زيارة المبعوث الأمريكي الخاص بالقرن الأفريقي، ديفيد ساترفيلد، إلى إثيوبيا خلال الفترة الماضية. كما ناقشت الإدارة الأمريكية مسودة قانون يجيز فرض عقوبات قد تسهم في الحد من المساعدات التي تقدمها هيئات مالية دولية، وجهات إنمائية أمريكية لإثيوبيا.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي تمارس فيها الإدارة الأمريكية هذه الضغوط، حيث سبق وأن قامت الولايات المتحدة بتعليق عضوية إثيوبيا في قانون النمو والفرص في أفريقيا، لمحاولة إنهاء الصراع. كما استمرت مطالبات حلفاء إثيوبيا بضرورة التوصل إلى حلول سياسية للأزمة الإثيوبية.
2- أزمة اقتصادية حادة: تواجه إثيوبيا صعوبات اقتصادية بسبب أزمة تيجراي تجعل الرضوخ إلى هدنة إنسانية أمر حتمي. فقد أكدت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، في أواخر يناير 2022، تصنيف إثيوبيا طويل الأجل لمُصدر العملات الأجنبية عند "CCC"، مما ينذر بتخلفها عن سداد ديونها الخارجية، وتراجع مستويات الاحتياطيات الأجنبية لديها، وذلك في ظل زيادة إجمالي احتياجات التمويل الخارجي، فضلاً عن تأخر مصادر التمويل الخارجية.
وتجيء هذه الأوضاع في ظل أوضاع إنسانية غير مواتية، إذ إن 30% من الشعب الإثيوبي كان في أمس الحاجة إلى مساعدات غذائية. وعلى الرغم من عدم معرفة حجم الخسائر الحقيقية للحرب، فإن تقديرات باحثي جامعة غينت البلجيكية تشير إلى أن ما يصل نصف مليون شخص لقوا حتفهم حتى الآن، إذ إن ما بين 50 ألف شخص و100 ألف شخص لقوا حتفهم بسبب القتال، وما بين 150 ألف شخص و200 ألف شخص لقوا حتفهم بسبب الجوع، وأكثر من 100 ألف شخص بسبب نقص الرعاية الطبية.
كما أسهم الصراع في تضرر حوالي 2,5 مليون مواطن في إقليم تيجراي، ونزوح حوالي نصف مليون مواطن في إقليمي أمهرة وعفر. وأشارت تقديرات برنامج الأغذية العالمي إلى وجود أكثر من 9 ملايين شخص في أقاليم تيجراي وأمهرة وعفر في حاجة إلى مساعدات غذائية منذ اندلاع صراع، وهو ما يفرض أعباء اقتصادية داخلية.
3- تدهور حاد في التيجراي: يعيش التيجراي أوضاعاً إنسانية كارثية، وهو ما دفع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي لإبداء قدر من المرونة للقبول بالمفاوضات مع أديس أبابا، خاصة في ضوء وجود مجاعة محتملة، والتي قد تسهم في اندلاع ثورة جياع على الحكومة المحلية بقيادة الجبهة الشعبية في تيجراي. وتحتاج تيجراي أكثر من 700 شاحنة محملة بالإمدادات أسبوعياً.
وتشير بعض الأخبار إلى صعوبة وصول القوافل الإنسانية إلى تيجراي، لاسيما في ضوء منع سكان إقليم عفر لمرور شاحنات المساعدات من عاصمة الإقليم سيميرا إلى ميكيلي، عاصمة تيجراي، نظراً لعدم انسحاب الجبهة الشعبية من إقليم عفر. وأكد برنامج الأغذية العالمي صعوبة وصول قوافل المواد الغذائية إلى إقليم تيجراي منذ ديسمبر 2021. كما أوضح مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، أن ثلاثة أرباع السكان في تيجراي يستخدمون استراتيجيات التأقلم القصوى للبقاء على قيد الحياة.
واتهم مدير منظمة الصحة العالمية، في 17 مارس، الحكومة الإثيوبية بعرقلة الإمدادات الطبية والأدوية إلى تيجراي، وهي الاتهامات التي نفتها الحكومة الإثيوبية مؤكدة أنه يتم تسيير رحلات جوية لتوصيل مساعدات إنسانية من بينها الإمدادات الطبية، والادوية والأغذية إلى إقليم تيجراي منذ شهر يناير الماضي.
ومن المتوقع أن يتفاقم مستوى انعدام الأمن الغذائي في الأشهر المقبلة مع استنفاد المخزونات الغذائية المتبقية من الموسم الماضي، والتي كانت نصف إنتاج العام العادي، وعدم تسليم المساعدات الإنسانية على نطاق واسع.
4- تغير خطاب الحكومة الفيدرالية: قام البرلمان الإثيوبي، في ديسمبر 2021، بالتصديق على تشكيل لجنة الحوار الوطني كمؤسسة مستقلة، وأشار أبي أحمد في يناير 2022 إلى ضرورة تعزيز الوحدة الوطنية، وما تبعه ذلك من الإفراج عن مجموعة من السياسيين من بينهم زعماء تيجراي.
وعلاوة على ما سبق، أعلن البرلمان الإثيوبي في فبراير الماضي تشكيل لجنة للحوار الوطني من 11 عضواً، حيث تم تكليف اللجنة بتقديم مقترحات تهدف إلى إنهاء التوترات المتصاعدة بين الجماعات العرقية والسياسية في البلاد. وفي مارس، أعلن المؤتمر الأول للحزب الحاكم، حزب الازدهار، الالتزام بالحفاظ على السلام والأمن كأولويات الحزب السياسي. ومع ذلك، يشكك البعض في مبادرة الحوار الوطني، نتيجة عدم شموليتها واستقلاليتها، نظراً لاستبعادها بعض الجماعات المسلحة الأكثر نفوذاً مثل جيش تحرير أورومو.
عقبات أمام إعلان الهدنة:
لا يخلو إعلان الهدنة الإنسانية بين الطرفين من عدد من التحديات، والتي طالما هددت استدامة هذه الهدنة، وهو ما يمكن توضيحه كالآتي:
1- رفض أنصار آبي أحمد: يواجه أبي أحمد ضغوطاً متزايدة من السياسيين المتشددين الذين يرون ضرورة القضاء على الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي. فعلى سبيل المثال، يمتلك الأمهرة، المتحالفون مع آبي أحمد، نزاعات إقليمية مع الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي في غرب تيجراي. ولذلك، فإن السماح بمرور قوافل المساعدات الإنسانية إلى تيجراي تعني ضمنياً السماح ببقاء الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي في حكم الإقليم، ومن ثم عدم انتزاع أي تنازلات منها في هذا الملف.
وعلاوة على ما سبق، فإن حكومة عفر ليست لديها سيطرة تذكر على منطقة واسعة من الإقليم، ولذلك فقد يقوم السكان المحليون، الذين يعانون الجوع، أيضاً بعرقلة قوافل المساعدات الإنسانية، أو الاستيلاء عليها. كما أنه يظل من غير المرجح أن يفتح معارضو جبهة تحرير تيجراي في إقليم الأمهرة مناطقهم للسماح لقوافل المساعدات بالسفر إلى تيجراي.
2- اعتراض إريتري محتمل: ألقى زعماء الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي اللوم على مرتزقة إريتريين في تأجيج الأوضاع الداخلية. وتتهم إريتريا بشن هجمات على قوافل المساعدات المتجهة لتيجراي في إقليم عفر، بدافع الرغبة في إفساد أي محاولات للتهدئة بين الحكومة والجبهة الشعبية.
ويأتي ذلك في إطار عدم رغبة إريتريا استعادة الجبهة الشعبية لشرعيتها، أو مشاركتها في عملية السلام، نظراً لأن مقاتلي الجبهة كانوا على الخطوط الأولى للقتال أثناء الحرب التي دارت بين إثيوبيا وإريتريا على مدار عقود (1974 – 1991).
3- الانشغال بالأزمة الأوكرانية: أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى تحويل الانتباه الدولي عن صراعات في أماكن أخرى، بما في ذلك تلك الموجودة في موزمبيق والقرن الأفريقي. وهذا يعني ضمنياً أن أعمال القتال قد تتجدد مرة أخرى، مع الانشغال الدولي بالأزمة الأوكرانية، ومن ثم، عدم ممارسة الضغوط الكافية على الأطراف المختلفة.
وخلال الأيام القليلة الماضية، شوهدت 32 حافلة تقل جنوداً في مدينة كوبو بولاية أمهرة. وفي حين أنه قد ينظر إلى أن هدف هذه القوات الإضافية هو المساعدة في تسهيل إنشاء ممر إنساني للسماح بصرف المساعدات لملايين الأشخاص الذين يحتاجون إليها، فإن وجودها قد يعرض أيضاً الهدنة لمخاطر اندلاع أعمال القتال مرة أخرى.
وفي الختام، يسود تفاؤل حذر بشأن الهدنة الإنسانية بين الحكومة الإثيوبية الفيدرالية والجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، ومع ذلك، لا يزال هناك مخاوف مسيطرة على المشهد السياسي بشأن احتمالية تجدد المعارك، على الرغم من إدراك الطرفين صعوبة تحقيق انتصار عسكري كامل. ومن جهة أخرى، لا تمثل هذه الهدنة سوى خطوة في مسار مفاوضات طويلة الأمد، والتي ستوضح مدى قدرة الأطراف على تقديم تنازلات للتوصل لاتفاق سلام نهائي.