بعد زلزال 25 يوليو 2021، عاشت تونس مساء يوم 30 مارس 2022 على وقع هزات ارتدادية جديدة للرجة الأرضية التي ضربت البلاد بعد قرار الرئيس قيس سعيد حل مجلس نواب الشعب (البرلمان)، استناداً للمادة 72 من الدستور التونسي، وذلك حفاظاً على الشعب ومؤسسات الدولة. إذ جاء قرار الرئيس سعيد بعد ساعات من عقد أكثر من 120 نائباً في البرلمان التونسي "المُنحل" اجتماعاً افتراضياً عبر الإنترنت، في اليوم نفسه، في تحدٍ للتدابير الاستثنائية التي اتخذها الرئيس التونسي منذ 25 يوليو الماضي، بما فيها تجميد أعمال البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه.
جمود سياسي:
فور الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو الماضي والتٌي قوبلت حينها بارتياح شعبي واسع، وبرفض الطبقة السياسية الموالية لحركة النهضة؛ كان أغلب المتابعين ينتظرون من الرئيس قيس سعيد اتخاذ قرارات أخرى، لعل أبرزها التصعيد بحل البرلمان، وإعلان تاريخ تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية سابقة لأوانها، وتعديل القانون الانتخابي الذي أُقيمت على أساسه الانتخابات في تونس منذ عام 2014.
ولكن بعد مُضي بضع أسابيع، برز الرئيس التونسي بمسار معاكس، طغت عليه "تكتيكاً" سياسة المراوحة والتأجيل؛ فعمد في سبتمبر 2021 إلى تعليق العمل بأغلب فصول ومواد الدستور، واعتماد خيار العمل بالمراسيم الرئاسية لتسيير شؤون البلاد والعمل الحكومي. ولكن هذه الإجراءات التي أقرها الرئيس سعيد، حرمته من دعم شريحة واسعة من مكونات المشهد السياسي، بما في ذلك بعض التيارات المُمثلة في البرلمان المُجمد آنذاك، والتي أيدت قرار تعليق عمل المؤسسة التشريعية، طمعاً في الدعوة السريعة لانتخابات جديدة، وإقرار تشريعات سياسية جديدة، مناقضة لما فرضته النهضة وحلفاؤه، للهيمنة على المشهد السياسي في تونس.
وفي مقابل الرئيس سعيد والمعسكر المؤيد له، كانت حركة النهضة في طليعة القوى "المُنظرة" والمروجة لنظرية "الانقلاب الرئاسي" على الدستور والمؤسسات، وفي مقدمة الأحزاب التي انخرطت في الحشد والتجييش ضد الرئيس أولاً، وفي التحريض الخارجي في الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة وأوروبا، عبر حملة دعائية وعلاقات عامة، للضغط على الرئيس التونسي، وإجباره على التراجع، والدعوة للتهديد بالعقوبات الاقتصادية، ووصولاً إلى المقاطعة.
ويمكن القول إنه بين سبتمبر 2021 وقرار حل البرلمان في 30 مارس 2022، لم تشهد الساحة التونسية من الأحداث والتحركات الكبرى، سوى بعض العلامات التي لم تعطِ المُتابع أي مؤشر على طبيعة وشكل نتيجة المواجهة بين مشروع الرئيس سعيد من جهة، ومشروع حركة النهضة وحلفائها في البرلمان من جهة ثانية، مثل تشكيله حكومة جديدة برئاسة نجلاء بودن في سبتمبر الماضي، وقرار حل المجلس الأعلى للقضاء في فبراير الماضي، وإعلان الرئيس سعيد عن تنظيم انتخابات برلمانية في ديسمبر 2022.
وباستثناء التصريحات وبعض القرارات الهادفة إلى إقناع الرأي العام التونسي بحرص الرئيس على تجاوز الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخانقة، ومحاسبة المتسببين فيها، في مقابل محاولات النهضة والطيف الموالي لها دفع بعض الدول الكبرى إلى اتخاذ مواقف حاسمة ضد الرئيس التونسي وإجباره على استئناف عمل المؤسسات الدستورية في أقرب الأوقات؛ شهدت تونس وضعاً سياسياً هجيناً أقرب إلى توازن الجمود، منه إلى اندفاع وحركة المشروع، ما جعل المعسكر الرئاسي يشهد تصدعاً أو تراجعاً بعد تململ بعض الأحزاب والشخصيات والتيارات السياسية من الركود ومبادرتها بالتحذير من تداعياته وأخطاره على تونس ومستقبلها.
دلالات الحل:
ثمة عدد من الملاحظات يمكن الإشارة إليها بشأن قرار حل البرلمان التونسي في 30 مارس 2022، وتتمثل في الآتي:
1- استغلال الفرصة الدستورية: مع تحدي عدد من نواب البرلمان قرار تعليق أعمال المجلس وعقدهم جلسة عبر تقنية الفيديو في 30 مارس 2022، صوتوا خلالها على إلغاء الإجراءات التي أقرها الرئيس منذ 25 يوليو؛ كان ذلك أشبه بـ "القطرة التي أفاضت الكأس" وأعطت للرئيس سعيد المُبرر القانوني والدستوري للتحرك ضد البرلمان ورئيسه راشد الغنوشي الذي دعا إلى تلك الجلسة، ولكنه لم يرأسها استجابة لطلب عدد من البرلمانيين الذين اشترطوا أن يرأسها نائبه من حزب قلب تونس، طارق فتيتي، للمشاركة فيها والمصادقة على قراراتها.
2- دعم مؤسسات الدولة التونسية: كان لافتاً أن يُعلن الرئيس سعيد عن قرار حل البرلمان، بعد إشرافه على اجتماع المجلس الأعلى للأمن الوطني، الذي يتألف من كل المؤسسات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية في تونس، ما يعني أن الرئيس جس نبض هذه المؤسسات على الأقل قبل إعلان القرار، وتأكد من ولائها للمؤسسات والشرعية الدستورية الكامل.
3- تأييد القوى السياسية والنقابية: يكفي هنا النظر إلى التصريحات والمواقف السياسية التي أعلنتها كبريات الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية ذات الثقل في تونس، والتي أيدت قرار حل البرلمان، مثل الحزب الدستوري الحر بقيادة عبير موسي؛ المعارضة لتيارات الإسلام السياسي بشقيه الإخواني والسلفي. وفي هذا السياق أيضاً، كان لافتاً البيان الذي أصدره الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو القوة النقابية الأولى في البلاد، والقادر على التجنيد والحشد وتحريك الشارع والمجتمع بشكل أكبر وأقوى مما تستطيع كل الأحزاب التونسية مجتمعة تحقيقه أو بلوغه. إذ اعتبر الاتحاد أن حل البرلمان فرصة لاستعادة الثقة وطمأنة الشعب من أجل تصحيح المسار، مشيراً إلى أنه لم تعد هناك ضرورة لاستمرار مجلس النواب لأنه أعطى صورة سيئة تعكس فساد الحياة السياسية، فضلاً عن رفض الاتحاد لجوء أطراف نافذة في البرلمان إلى الاستقواء على تونس بالدول الأجنبية والتخطيط لمغامرة تفتيت الدولة والدفع بها إلى المجهول.
4- تدارك الخطأ وتصحيح المسار: إن التطورات السريعة التي تعيشها تونس منذ قرار حل البرلمان، تؤكد أن الرئيس سعيد تلافى الخطأ الذي وقع فيه بالإبقاء على البرلمان صورياً ومجمداً، ولكنه كان مؤسسة حاضرة في المشهد السياسي الوطني؛ فعمد إلى سحب أي شرعية دستورية ولو منقوصة منه، بحله. وبهذا القرار أيضاً، يكون الرئيس سعيد في طريقه للعودة إلى الخطوة الثانية التي لم يقطعها بعد 25 يوليو الماضي؛ وهي وضع خريطة طريق سياسية بجدول زمني، لتنفيذ استحقاقات التونسيين الذين التفوا حول سعيد في الساحات والشوارع في الصيف الماضي، لدعمه، وهو ما أكدته استطلاعات الرأي وقتها والتي منحت الرئيس نسبة تأييد خيالية بلغت 90% من التونسيين.
خسائر النهضة:
إن الرئيس قيس سعيد بحله البرلمان، وضع نفسه في موقف يسمح له باستعادة شعبيته التي انجرفت إلى 65% من المؤيدين في نهاية مارس الماضي، وفي قلب التوازنات والتحالفات السياسية التي ستظهر في القريب العاجل تمهيداً للانتخابات، بما في ذلك من جانب حركة النهضة نفسها، التي خسرت تحدي المواجهة؛ فخرجت من المشهد النيابي وأصبحت مهددة بانهيار ما تبقى في صفوف بعض تياراتها وأجنحتها من أوهام قوة وقدرة، وذلك في ظل الانقسامات التي عصفت بها منذ 25 يوليو الماضي ولم تتوقف حتى قبل يومين فقط من قرار حل البرلمان بعد استقالة 9 من كتلة النهضة في البرلمان، بينهم القيادي البارز في الحركة سمير ديلو.
ومن الواضح أن سعيد بقراره وضع النهضة في زاوية صعبة، وهي التي كانت تأمل الالتفاف على قرار تجميد البرلمان مستفيدة من الجمود السياسي أولاً، ومن انصراف التونسيين عن الاهتمام بالشأن السياسي بشكل عام في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة، التي فاقمتها بشكل غير مسبوق الحرب الروسية - الأوكرانية. ويبدو اعتماداً على تطورات الوضع المشهد في تونس، أن حركة النهضة أصبحت بعد قرار 30 مارس، تخشى صناديق الاقتراع والناخبين في ديسمبر المقبل، أي بعد 8 أشهر فقط، أكثر من خوفها من مواجهة سعيد نفسه، في ظل اهتراء قاعدتها الشعبية من جهة، وانشغال اللاعبين الدوليين والإقليميين الذين يمكن التعويل عليهم لمساندة مطالبها ومشاريعها بالحرب في أوكرانيا وتداعياتها الهائلة المنتظرة؛ ما لا يترك لملف مثل النهضة أو الوضع في تونس بشكل، مكاناً بين أولويات مكاتب ومؤسسات صناعة القرار في العواصم الغربية المؤثرة، بالنظر إلى المدة الزمنية الطويلة التي ربما ستستغرقها الحرب وتسوية تداعياتها وانعكاساتها.
ولكن خطأ النهضة الأكبر، وربما القاتل، يتمثل في أنها أعادت كل الأوراق، بما فيها ورقة التشريع أي الدور النيابي بعد حل البرلمان، إلى يد الرئيس سعيد شخصياً، حيث إنه من أبرز تداعيات قرار الحل واعتماداً على الدستور الذي علق الرئيس العمل بأكثر أبوابه، أن على الرئيس الدعوة لانتخابات برلمانية سابقة لأوانها، بين 45 يوماً و90 يوماً، على أقصى تقدير، وهو ما يترافق بالضرورة مع معطيين اثنين على الأقل؛ أولهما تعديل القانون الانتخابي من جهة، وإعادة النظر في تركيبة الهيئة المستقلة للانتخابات التي تشهد منذ فترة مشاكل تنظيمية انتهت بها إلى العمل بـ7 أعضاء وليس 9 كما في القانون المنظم للهيئة.
وفي الحالتين وبعد حل البرلمان، تترك حركة النهضة للرئيس سعيد وحده حرية التصرف في الملفين، بما أنه الشريك للبرلمان في حسم الأمرين. وفي ظل غياب البرلمان، فإن للرئيس وحده بفضل المراسيم الرئاسية، أو عبر المجالس القضائية والدستورية، والخبراء والفقهاء القانونيين والدستوريين؛ صلاحية تعديل القانون الانتخابي، والهيئة المستقلة للانتخابات، لتخليصهما من الشوائب المحتملة، سواءً كانت فصولاً أو شخصيات.
أما إذا اعتمد الرئيس التونسي على خطة عمله الأساسية، فإن التداعيات على النهضة ومن ورائها على المشهد السياسي بشكل عام في البلاد، ستكون أعمق وأخطر، حيث إن سعيد سيتمكن على عكس النهضة من العمل دون ضغوط للإعداد لانتخابات ديسمبر المقبل، وفق خريطة الطريق التي أعلنها الرئيس التونسي سابقاً، وقبل ذلك الاستفتاء على تعديل الدستور نفسه، ما سيحرم النهضة من أي شرعية للعمل من داخل مؤسسات الدولة الدستورية، مع العودة إلى نظام رئاسي صريح والقطع مع النظام الهجين الذي جاء به دستور ما بعد 2011، والمتسبب وفق كل المعطيات في تعطيل مؤسسات الدولة، بسبب نظام المحاصصة السياسية الذي شل البلاد بالكامل.
وفي النهاية، يمكن القول إن الرئيس قيس سعيد ارتكب في 25 يوليو 2021 "خطأً تكتيكياً" برفض السير في طريق كان يبدو حينها في غاية الوضوح. ولكن الثابت بعد 30 مارس 2022 أن الرئيس التونسي انتبه إلى أن العمل السياسي والجمود خطان لا يلتقيان، ما سيدفعه إلى وضع استراتيجية جديدة هدفها تغيير النظام برمته، وليس الاكتفاء بتخليصه من النقائص، التي جعلت تونس دولة برأسين؛ الرئاسة ضد البرلمان، في حين اختفى باقي جسمها في رمال الفساد، والأزمة الاقتصادية، وتراجع مؤشرات التنمية، والبطالة، والإرهاب، دون الحديث عن أزمة كورونا المستجد وما كشفته من عيوب متأصلة، والعواقب الوخيمة التي تهدد بها الأزمة القادمة من شرق أوروبا بين روسيا وأوكرانيا، وهما المصدران الأساسيان للحبوب وزيت الطهي وبعض المنتجات الغذائية الحيوية الأخرى، إلى جانب آلاف السياح القادمين إلى تونس.