عقد البرلمان العراقي أولى جلساته، في 9 يناير 2022، منذ الانتخابات التي أجريت في أكتوبر 2021، والتي تعد أولى خطوات تشكيل حكومة جديدة. وشهدت الجلسة الافتتاحية العديد من الخلافات والانقسامات الحادة بين القوى السياسية المناوئة لإيران، وتحديداً التيار الصدري وتحالف تقدم وعزم والحزب الديمقراطي الكردستاني من جانب، وتلك الموالية لها، خاصة الإطار التنسيقي وتحالف العزم السني.
انقسام الأحزاب الشيعية:
كشفت أعمال الجلسة الأولى العديد من التطورات التي تعكس حجم الخلافات السياسية الحادة بين الكتل السياسية، وهو ما يمكن إبرازه في النقاط التالية:
1- سعي التنسيقي لسرقة استحقاق تشكيل الحكومة: ترأس الجلسة الأولى للبرلمان الجديد محمود المشهداني (73 سنة) عن تحالف "العزم"، باعتباره أكبر الأعضاء سناً، وفقاً للدستور، كما أدى النواب اليمين الدستورية، ثم تم انتخاب رئيس جديد للبرلمان ونائبين، فضلاً عن تسجيل الكتلة الأكثر عدداً.
وشهدت الجلسة الأولى عدداً من المشادات بعد إعلان الإطار التنسيقي الشيعي أنه قدم لرئيس البرلمان المؤقت ما يفيد أنه الكتلة الأكبر في المجلس بواقع 88 مقعداً، وذلك عبر ضم أسماء من المستقلين. وعندما تم تدقيق الأسماء، أكد 5 نواب أنهم لم يوقعوا على الورقة المقدمة من الفصائل، مما أشعل الخلافات بين نواب التيار الصدري وبين التنسيقي، مما دفع برئيس السن محمود المشهداني إلى رفع الجلسة.
وبعد انتخاب رئيس البرلمان، قدم التيار الصدري اسماء 90 نائباً شيعياً عبر إضافة نواب مستقلين سبق أن أعلنوا دعمهم للصدر، وذلك لتأكيد أحقيته في تشكيل الحكومة الجديدة. ومع ذلك، رفض الإطار التنسيقي التسليم بأن الكتلة الأكبر للصدر، وذلك على أساس أنه لم يتم تسجيلها بصورة صحيحة، إذ يرون أن التسجيل يجب أن يكون لدى رئيس السن، أي المشهداني، مثلما فعلوا، وليس لدى رئيس البرلمان المنتخب، وهو ما فعله التيار الصدري في الجلسة ذاتها.
وقد دفع هذا الخلاف التنسيقي إلى الانسحاب من الجلسة والتهديد بالذهاب إلى المحكمة الاتحادية لغرض حسم مسألة تسجيل "الكتلة الأكبر"، التي يتوجب عليها ترشيح رئيس الوزراء.
2- حسم مناصب البرلمان لصالح الصدر وحلفائه: تمكنت القوى القريبة من التيار الصدري من حسم مناصب رئاسة البرلمان لصالحها. فقد عقدت مباحثات بين الحلبوسي ورئيس تحالف عزم، خميس الخنجر، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، فضلاً عن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر لتمرير حصول الحلبوسي على المنصب.
ونجح محمد الحلبوسي، عن تحالف تقدم، في تولي رئاسة المجلس للمرة الثانية بحوالي 200 صوت مقابل 14 صوتاً لمنافسه المشهداني، المحسوب على "العزم"، كما فاز حاكم الزاملي من التيار الصدري بمنصب النائب الأول لرئيس البرلمان العراقي، فيما فاز شاخوان عبد الله، مرشح الحزب الديمقراطي الكردستاني، بمنصب النائب الثاني لرئيس مجلس النواب العراقي. ويؤشر فوز الحلبوسي بحوالي 200 صوت إلى أن التيار الصدري بات يمتلك الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة العراقية الجديدة، والتي تقدر بنحو 165 مقعداً.
ويؤكد فوز المرشحين الثلاثة مضي الصدر قدماً في اتجاه تشكيل حكومة الأغلبية، وهو ما أكده الصدر بنفسه، إذ اعتبر في تغريدة أن اختيار رئيس البرلمان العراقي ونائبيه يمثل "أولى بشائر حكومة الأغلبية الوطنية"، موضحاً أن ما جرى "خطوة أولى ولبنة أولى لبناء عراق حر مستقل بلا تبعية ولا طائفية ولا عرقية ولا فساد"، في رسالة ضمنية إلى طهران.
كما أن ارتداء نواب الصدر الكفن تمثل رسالة رمزية لطهران بأنهم لا يهابون الموت، خاصة بعد أن قتل مسلم أبو الريش، القيادي البارز في التيار الصدري في محافظة ميسان في نفس يوم انعقاد البرلمان العراقي.
3- صمود تحالف تقدم وعزم: جرى التوافق بين تحالفي "تقدم" و"عزم" كأكبر تحالفين للسنة قبيل انعقاد الجلسة الأولى على ترشيح الحلبوسي لرئاسة البرلمان الجديد، مع اختيار خميس الخنجر رئيساً لتحالف "تقدم" و"عزم" (65 مقعداً).
وقد أثار هذا التطور حفيظة بعض أطراف تحالف "العزم"، ودفعهم إلى إنهاء ائتلافهم مع تحالف "عزم" بزعامة خميس الخنجر قبيل انعقاد الجلسة الاولى، وذلك بإيعاز من الإطار التنسيقي، كما أنهم أيدوا ترشيح رئيس البرلمان الأسبق، محمود المشهداني، للمنصب، غير أن هذه المحاولة باءت بالفشل وفاز الحلبوسي بالمنصب، خاصة أن المشهداني لم يحصل سوى على 14 صوتاً فقط أمام الحلبوسي.
التحركات المستقبلية المتوقعة:
كشفت أعمال الجلسة الأولى في البرلمان العراقي عن عدد من التطورات والتداعيات على المشهد العراقي مستقبلاً، وهو ما يمكن تناوله في التالي:
1- تحركات خاسرة لحلفاء طهران: سعى الإطار التنسيقي إلى سرقة استحقاق تشكيل الحكومة من الصدر، وذلك عبر التحالف مع المشهداني، رئيس السن، وكتلته (14 مقعداً) لتثبيت أنه الكتلة الأكبر بواقع 88 مقعداً، وذلك بالمخالفة للواقع، خاصة بعد إعلان خمسة من الأسماء التي قدمها التنسيقي أنهم لم ينضموا له. كما اعتبر التنسيقي أن تنصيب خالد الدراجي رئيساً للسن للجلسة خلفاً المشهداني، الذي نقل للمستشفى هو إجراء غير قانوني.
ويلاحظ أن هذه الخطوة لن يكتب لها النجاح، حتى مع تهديد التنسيقي باللجوء للمحكمة الاتحادية لتثبيت أنهم الكتلة الأكبر، وذلك لأنه وفقاً للدستور العراقي، فإن دور رئيس السن هو أداء اليمين الدستورية للأعضاء المنتخبين، وفق المادة (50) من الدستور، وافتتاح الجلسة فقط، مع الإشارة أنه ليس من صلاحية رئيس السن تسلم، أو تكليف الكتلة الكبرى، حيث إنه من اختصاص الرئيس المنتخب وفقاً للمادة ذاتها، وهو ما يعني أن التنسيقي لن ينجح في تثبيت أنه الكتلة الأكبر.
2- استمرار الانقسام الكردي الداخلي: أعلن البرلمان في 9 يناير فتح باب الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية للسنوات الأربع المقبلة، على أن تجري عملية انتخاب رئيس الجمهورية في موعد أقصاه 8 فبراير المقبل. وتتمثل المشكلة الأساسية في عدم اتفاق الحزبين الكرديين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني، على مرشح واحد لرئاسة الجمهورية، وهو ما يعني أن أمامهما بضعة أسابيع لتسوية خلافاتهما، والاتفاق على مرشح تسوية، أو طرح كل منهما لمرشحه والاحتكام إلى البرلمان العراقي، كما حدث في الحكومة السابقة.
3- استيعاب الصدر بعض مكونات التنسيقي: يشير العديد من المراقبين للشأن العراقي على وجود تفاهمات بين مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، ومصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي، تقوم على ترشيح الأخير لولاية ثانية، وهو السيناريو المرجح بشدة بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها الجلسة الأخيرة للبرلمان العراقي.
ويلاحظ أنه في اليوم التالي على جلسة البرلمان، أي في 10 يناير، استقبل رئيس تحالف الفتح، هادي العامري، في مكتبه ببغداد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وذلك في مؤشر على اتجاه الصدر إلى تنفيذ خططه المعلنة سابقاً، والرامية إلى استقطاب بعض مكونات التنسيقي، مع استبعاد ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي الأسبق.
ولاشك أن التحركات الأخيرة التي شهدها البرلمان العراقي، وإخفاق التنسيقي في سرقة استحقاق الصدر لتشكيل الحكومة الجديدة سوف تعني أن رئيس تحالف الفتح لن يكون أمامه سوى خيارين، وهما إما القبول بالانضمام إلى أغلبية الصدر، أو البقاء مع المالكي في خانة المعارضة.
وفي الختام، يمكن القول إن التيار الصدري نجح في تشكيل تحالف أغلبية مع القوى السياسية القريبة منه، وتحديداً تحالفي تقدم وعزم السنيين، بالإضافة إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكرديين، وهو ما فرض ضغوطاً على الإطار التنسيقي قد تنذر بتفككه خاصة في حالة قبلت بعض مكوناته فك تحالفها الراهن مع نوري المالكي، والقبول بالانضمام إلى أغلبية الصدر، ولاشك أن مثل هذا التطور سوف يمثل انتكاسة كبيرة لطهران، والتي لم تعد قادرة على إدارة الخلافات الشيعية – الشيعية بنفسها، وفرض التسوية التي تراها، كما كانت الحال عليه في الحكومات الماضية.