قام وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بجولة أفريقية استغرقت 5 أيام خلال الفترة من 15 إلى 20 نوفمبر 2021، وهي الأولى له في المنطقة منذ توليه منصبه في يناير الماضي. وقد شملت هذه الجولة كلاً من كينيا ونيجيريا والسنغال. وتأتي هذه الزيارة وسط تحديات هائلة تواجه السياسة الأمريكية في جميع أنحاء أفريقيا، بما في ذلك الانتقال المتعثر في السودان في أعقاب الاجراءات الاستثنائية التي قام بها رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، في 25 أكتوبر الماضي، والصراع الأهلي المستمر في إثيوبيا، والمخاوف المتزايدة بشأن عدم الاستقرار والتراجع الديمقراطي وقدرة الدولة على البقاء في نيجيريا. كما تشعر واشنطن بالقلق إزاء تمدد دور كل من الصين وروسيا في القارة الأفريقية، وذلك على حساب بعض الشركاء التقليديين للولايات المتحدة.
أهداف الجولة الأفريقية:
تكمن أهمية اختيار كينيا ونيجيريا والسنغال في جولة وزير الخارجية الأمريكي، بلينكن، في كونها تجسد أهداف السياسة الخارجية الأمريكية الجديدة تجاه أفريقيا في عهد إدارة جو بايدن. إذ إن أفريقيا ككل تكتسب أهمية استراتيجية كبرى تجعلها تسهم في تشكيل مستقبل العالم، بحسب تعبير بلينكن. ولعل ما يجمع هذه الدول أنها قد تشكل نموذجاً يُحتذى به للشراكات الأمريكية الجديدة في مجالات تعزيز التحول الديمقراطي، ودعم محركات النمو الاقتصادي والابتكار، ومكافحة التغير المناخي.
وقد اتضح ذلك من اجتماع بلينكن مع رائدات أعمال في داكار، وحضوره حفل توقيع لأربع شركات أمريكية تعقد صفقات بنية تحتية كبيرة في السنغال تبلغ قيمتها حوالي مليار دولار. كما أنه زار معهد باستور، الذي يعمل على إنتاج لقاح لفيروس كوفيد-19 بمساعدة من الولايات المتحدة. ولعل ذلك يشكل أحد أهداف هذه الجولة الأفريقية، حيث تعمل الولايات المتحدة على مساعدة البلدان في القارة السمراء في تكثيف جهود التطعيم ضد وباء كورونا. ومن جهة أخرى، أصبح الدفاع عن الديمقراطية سمة مميزة لسياسة بايدن الخارجية، خاصة أن الولايات المتحدة تتنافس على النفوذ مع الصين في أفريقيا وحول العالم.
وبدأ بلينكن جولته في كينيا، وهي فاعل رئيسي في كل من إثيوبيا والسودان، كما أنها تتمتع حالياً بعضوية مجلس الأمن الدولي. ولكينيا كذلك مصالح كبرى في الصومال، الذي يعاني من استمرار العنف وعدم الاستقرار منذ عقود. ويبدو أن بلينكن كانت لديه بعض المخاوف بشأن النظام السياسي في كينيا، والذي تقول جماعات حقوق الإنسان إنه أظهر ميولاً استبدادية في السنوات الأخيرة. وعليه فقد حرص الوزير الأمريكي على الاجتماع مع قادة المجتمع المدني الكيني، الذين حذروا من التهديدات للتقدم الديمقراطي في البلاد بينما تتجه كينيا نحو الانتخابات الوطنية في أغسطس المقبل. ويبدو أن الإدارة الأمريكية في عهد بايدن تدرك أن هناك "ركوداً ديمقراطياً" في مناطق كثيرة من أفريقيا.
شعار "العودة إلى أفريقيا":
على الرغم من أهميتها في التنافس بين الولايات المتحدة والصين، غالباً ما توارت أفريقيا خلف قضايا أكثر إلحاحاً في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وحتى أمريكا اللاتينية. وبالتالي، كانت رحلة بلينكن تهدف، ولو جزئياً، إلى إبراز صورة واشنطن كفاعل رئيسي في المبادرات الإقليمية والدولية لاستعادة السلام وتعزيز الديمقراطية في الوقت الذي تنافس فيه الصين وروسيا وغيرهما من الدول الفاعلة في العلاقات الدولية. وكان من الصعب الترويج لشعار "العودة إلى أفريقيا"، على الرغم من المساهمات الأمريكية الهائلة بالمال واللقاحات لمكافحة جائحة فيروس كورونا وغيره من الأمراض المعدية. إذ إن الصين تقوم طول الوقت بضخ المليارات في مشروعات الطاقة الأفريقية والبنية التحتية وغيرها من المشاريع التي تعتبرها واشنطن "عمليات نصب واحتيال" مصممة للاستفادة من الدول الأفريقية.
وكانت رحلة بلينكن الأفريقية مُقررة سلفاً في أغسطس 2021، ولكنها تأجلت في علامة واضحة على تغير الأولويات، أثناء الانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان. وقد تركت تداعيات هذا الانسحاب بعض الأفارقة، يتساءلون عن مدى جدية علاقاتهم مع واشنطن. وكان هذا مصدر قلق خاص، حيث قامت الصين بملء الفراغ الذي تركه غياب الولايات المتحدة عن أفريقيا وانشغالها بأجزاء أخرى من العالم. وقد غذى هذا التصور عدم اكتراث إدارة دونالد ترامب السابقة بأفريقيا إلا من منظور قوة الصين الآخذة في التوسع السريع، وهو أمر تأمل إدارة بايدن الحالية تغييره.
نهج جديد لاحتواء الصين:
أظهرت الولايات المتحدة وجهاً واقعياً جديداً فيما يتعلق باحتواء النفوذ الصيني في أفريقيا، وهو الأمر الذي جعل بلينكن يبدو مختلفاً كثيراً عن أسلافه. فقد كانت السياسة الأمريكية تقوم على حض الدول الأفريقية صراحة على عدم الدخول في صفقات مع بكين، لأنها سوف تثقل كاهلها بالديون. وعوضاً عن أسلوب الوعظ والتحريض الأمريكي الذي لم يجد نفعاً في الماضي، يحاول بلينكن أن يقدم للدول الأفريقية مساراً مختلفاً يعتمد على الدخول في صفقات أكثر استدامة تُفيد العمالة الوطنية، حيث يريد أن تكون المنافسة بين الولايات المتحدة والصين في القارة "سباقاً على القمة"، كما يسميها. ومن الطريف أن وزير الخارجية النيجيري تحدث عن كيفية استفادة أفريقيا من هذا التنافس الدولي، حيث شبه بلاده بـ "العروس الفاتنة التي يتبارى الجميع على استرضائها، ويكون في مقدورها في نهاية المطاف أن تأخذ ما تستطيع من كل منهم".
لقد أشار بلينكن ضمنياً إلى مخاطر اعتماد أفريقيا المتزايد على مئات المليارات من الدولارات في الاستثمارات الصينية، والتي يكون معظمها في شكل ديون ضخمة، وأصر على أن الدولارات الأمريكية تأتي مع حماية العمالة الوطنية والبيئة ومكافحة الفساد، وكلها غالباً ما تكون غائبة عن المشاريع الصينية. ومن الواضح أن النهج الأمريكي الجديد اتخذ لغة أخف حدة في التعامل مع الصين، مقارنة بحالة وزير الخارجية الأمريكي السابق، مايك بومبيو، الذي وضع إطاراً لزيارته الوحيدة إلى أفريقيا، في فبراير 2020، حول المنافسة مع بكين، وحث حينها الدول الأفريقية على توخي الحذر من وعود "الأنظمة الاستبدادية"، على حد وصفه، واعتبر أن الشراكة الاقتصادية مع الولايات المتحدة ستحقق "تحرراً حقيقياً".
تعزيز التبادل التجاري:
إن أكبر شريكين تجاريين للولايات المتحدة في أفريقيا هما نيجيريا وجنوب أفريقيا، حيث يمثلان معاً أكثر من نصف إجمالي التجارة بين الولايات المتحدة وأفريقيا. وبشكل عام، تمثل التجارة مع قارة أفريقيا 1٪ فقط من إجمالي التجارة الخارجية للولايات المتحدة. بينما تصدر البلدان الأفريقية الموارد الطبيعية في المقام الأول (يمثل النفط الخام بالفعل ثُلث إجمالي الصادرات)، فإنه يتم استيراد العديد من العناصر المُصنعة من الولايات المتحدة. وهذا الاختلال في التوازن مع أفقر منطقة في العالم يتم الترويج له بشكل متعمد من خلال قانون النمو والفرص في أفريقيا (أجوا)، الذي ظل سارياً منذ 20 عاماً. ويسمح هذا القانون باستيراد السلع المُعفاة من الرسوم الجمركية من العديد من الدول الأفريقية، ويدعم بشكل أساسي التجارة في الملابس المُنتجة في أفريقيا، وهي أهم الصادرات المُصنعة إلى الولايات المتحدة.
ومع ذلك، انخفضت التجارة بين الدول الأفريقية والولايات المتحدة بشكل حاد على مدى السنوات الخمس الماضية. وفي الوقت نفسه، تُظهر المقارنة أن الصين أصبحت شريكاً تجارياً مهماً بشكل متزايد لأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والقارة بأكملها. وطبقاً لأحدث الإحصاءات، يبلغ حجم التجارة بين الدول الأفريقية والصين أربعة أضعاف حجم تجارة الأولى مع الولايات المتحدة. وعليه، فإن التوجه الأمريكي الجديد نحو أفريقيا يسعى إلى تحقيق شراكات اقتصادية مع دول هذه القارة.
التركيز على مكافحة الإرهاب:
لعل من أبرز ملامح السياسة الأمريكية المعاصرة تجاه أفريقيا مكافحة الإرهاب ودعم القوات العسكرية والأمنية الوطنية. ولا ينبغي أن ننسى أنه قبل أحداث 11 سبتمبر 2001، تم تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في 7 أغسطس 1998. وتسببت هذه الهجمات الإرهابية في مقتل أكثر من 220 شخصاً وإصابة العشرات الآخرين، فضلاً عن التدمير الكامل لمباني السفارتين. وكانت النتيجة هي "إضفاء الطابع الأمني" على سياسة الولايات المتحدة تجاه أفريقيا، والتي لا تزال تحدد العلاقة الأمريكية بالقارة ككل حتى اليوم.
وتجسيداً لهذا التوجه، قام الجيش الأمريكي منذ عام 2001 بإنشاء شبكة من القواعد في نحو 15 دولة أفريقية، وبشكل أساسي في منطقة الساحل والقرن الأفريقي. ويسهم ذلك أولاً وقبل كل شيء في محاربة الجماعات الإرهابية الجهادية، التي تنتشر بشكل خاص في منطقة الساحل ونيجيريا والصومال وموزمبيق، وإن كانت تهدد أيضاً الدول المجاورة لها. وتتمركز القاعدة العسكرية الأمريكية الكبرى في القارة بأكملها في جيبوتي على ساحل شرق أفريقيا.
وقد انخرطت القوات الأمريكية في أنشطة واسعة النطاق بالقارة السمراء على مر السنين، حيث دفعت واشنطن مليارات الدولارات في شكل "مساعدات أمنية" لشركائها الأفارقة، كما قامت قوات العمليات الخاصة الأمريكية نفسها بمهام قتالية لمكافحة الإرهاب فيما لا يقل عن 13 دولة أفريقية بين عامي 2013 و2017. وفي عام 2019، شنت الولايات المتحدة غارات جوية على أهداف إرهابية لحركة الشباب في الصومال بمعدل مرة واحدة في الأسبوع. كذلك يقوم "المستشارون العسكريون" بتدريب الجنود الأفارقة والقيام بمهمات بأنفسهم، على سبيل المثال، ضد "جيش الرب للمقاومة" في أوغندا.
وفي عام 2007، أثناء رئاسة جورج دبليو بوش (2001 - 2008)، تم إنشاء القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) ومقرها في مدينة شتوتجارت، لإدارة عمليات الانتشار. واعتباراً من يناير 2020، وفقًا لـ "أفريكوم"، تمركز 5100 من أفراد الجيش و1000 من المدنيين العاملين في البنتاجون في أفريقيا. وبدأ هذا الوجود الأمريكي يتناقص مع زيادة المطالب الداخلية بضرورة عودة القوات من الخارج. وحتى الآن، لا توجد مؤشرات على أن إدارة بايدن ستصبح أكثر انخراطاً عسكرياً في مكافحة الإرهاب. وفي الوقت نفسه، من غير الواضح أيضاً ما إذا كان قرار ترامب الخاص بسحب القوات من أفريقيا سوف يتم تعديله.
وتولي الإدارة الأمريكية في عهد بايدن مسألة الوجود الروسي في المنطقة اهتماماً بالغاً، وهو ما يجعلنا أمام ظاهرة "الاحتواء المزدوج" لكل من الصين وروسيا في أفريقيا. فقد حذر وزير الخارجية الأمريكي، بلينكن، مجموعة "فاغنر" الروسية من التدخل في الجهود المبذولة لتعزيز الديمقراطية في مالي، لأن ذلك يزيد الأمور تعقيداً وصعوبة. وتُتهم بمجموعة "فاغنر" بنشر مرتزقة في كل من سوريا وجمهورية أفريقيا الوسطى وليبيا، ما أثار حفيظة الحكومات الغربية التي تتهم هذه المجموعة أيضاً بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
التحديات الإثيوبية والسودانية:
جاءت زيارة بلينكن الأخيرة إلى كينيا في شرق أفريقيا بعد أشهر من الجهود الدبلوماسية المكثفة التي قام بها المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، الذي كان يحاول جاهداً التوصل إلى حلول دبلوماسية لأزمات هذه المنطقة. ويبدو أن النفوذ الدبلوماسي الأمريكي يواجه تحديات جمة بسبب أزمة الانتقال المتعثر في السودان، والحرب المتصاعدة في إثيوبيا. لقد استهلك بلينكن بالتأكيد الكثير من الوقت خلال محطته الأولى في كينيا، التي تهدف الولايات المتحدة إلى أن تكون بديلاً عن أديس أبابا في القيام بدور إقليمي قيادي، لمناقشة الوضاع المتردية في كل من السودان وإثيوبيا.
فقد تسببت الحرب الأهلية التي استمرت عاماً في إقليم تيغراي بإثيوبيا في حدوث مجاعة وفظائع متزايدة. وحاولت الولايات المتحدة من دون جدوى إقناع الحكومة هناك بوقف القتال والسماح بوصول المساعدات الانسانية. وبدلاً من ذلك، أطلق رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، انتقادات شديدة الخطورة ضد الجهود الغربية لوقف الحرب برسالة على موقع "تويتر"، حيث ألقى فيها باللوم في المشاكل التي تشهدها إثيوبيا على "حرب سردية معقدة" يقودها "أعداء" لم يكشف عن أسمائهم، وذلك في إشارة إلى ألد خصومه التيجراي. وقال أحمد إن هذه القوى "تستخدم المعلومات المضللة كمسار لتحركها الشرير". وفي ظل هذا الإصرار والتعنت من أطراف الحرب كافة في إثيوبيا، بحث بلينكن عن مساعدة إقليمية لهذه الأزمة.
وفيما يتعلق بقضية السودان، يبدو أنها أقل تعقيداً. فقد أدان الوزير بلينكن إجراءات البرهان الاستثنائية، وطالب بعودة رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، من أجل استمرار مسيرة الانتقال الديمقراطي وانتخاب حكومة مدنية. ولعل الصفقة التي تم بموجبها عودة حمدوك يوم 21 نوفمبر 2021 إلى منصبه وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة، قد أعادت قدراً من الاستقرار إلى السودان. كما أن ذلك يُلبي المطالب الأمريكية بعودة حمدوك وإن ظلت حكومته تحت الإشراف العسكري.
وعلى الرغم من مطالبة البعض بتبني نهج أمريكي أكثر حسماً، بحيث تكشر واشنطن من خلاله عن أنيابها، لم يوضح بلينكن الخطوات الإضافية التي قد تتخذها الولايات المتحدة للتأثير على مسار الأحداث في السودان وإثيوبيا، لكنه حذر من أنه سوف تكون هناك عواقب لما أسماه "الفظائع" في إثيوبيا.
ختاماً، أظهرت جولة بلينكن الأفريقية أن هناك تحولاً ملحوظاً في الطريقة التي ترى بها الولايات المتحدة وتتحدث عن أفريقيا. لقد تحدث الوزير بلينكن في محطاته الثلاث عن الشراكات التعاونية التي تقوم على الندية والمصالح المتبادلة، وابتعد عن "الأسلوب الاستعلائي" الذي ميز خطابات الإدارات الأمريكية السابقة نحو أفريقيا. ولا شك أن الاعتراف الأمريكي بأن "أفريقيا هي المستقبل"، يؤكد أنه لم يعد من الممكن تجاهل هذه القارة، بيد أن المعيار الذي سوف يحدد مسار النهج الجديد تجاه أفريقيا يعتمد على مدى التخلي عن خطاب تنافس القوى العظمي ودلالاته الاستعمارية في القارة الأفريقية.